المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رقائــق القلبِ في رمضان..( 26 )


يزيد فاضلي
14-08-2012, 02:45 PM
رقائــق القلبِ في رمضان..( 26 )

أحبتي الكرام البررة...

مع اقتراب لحظاتِ رحيل هذا الشهر المبارك الوضيء الذي سعِدَتْ أرواحُنا ومُهَجُنا بأيامه النورانية ولياليه العامرة..ومع انتشاءِ خوافقنا الإيمانيةِ بنفحاتِ أواخره العشر التي يتنادى فيها الملأ الأعلى أنْ أفيضوا أيها العابدون القائمون على عتبَاتِ الأنوار الربانية،فإن ربَّ العالمين قد سبَقَ منه العفو للتائبين والمنيبين لربهم،فكان حقًّا ووعداً منه سبحانه وتعالى أن يبسط رحماته لتشملَ بالعتق من النار-إن شاء الله-كل رواد التهجد والقيام في هذه العشر الأخيرة...(( ...وآخره عتقٌ من النار )) كذا قال صاحبُ الشفاعة العُظمى صلى الله عليه وسلم...

في شهر الصيام-أحبتنا-وفي عَشره الأواخر،تنتفضُ أرواحُنا ومشاعرُنا،وتعودُ القهقرى إلى وراء..إلى بداياتِ فجر الإسلام..إلى ليلةِ نزول الأرتال النورانية الأولى من الوحي الأعلى..إلى جبل النور حيث غار حِــراء،وما أدراكَ ما حِرَاءُ..؟؟!!

هذا الغارُ الذي سيحتوي بين أضلعه الصخرية محمداً صلى الله عليه وسلم،وفيه سيتم اللقاء بين الأرض والسماء في ليلةٍ عصماء من ليالي هذا الشهر الذي يعِزُّ علينا جميعاً فراقـَه بعد أيام..(( شهرُ رمضانَ الذي أنزلَ فيه القرآن... ))...

ها هــوَ ذا محمدٌ صلى الله عليه وسلم،وقد اكتملتْ رجولته بأربعين حوْلاً مبارَكاً خلوْنَ من عمره الزكي الطهور،وهو الآن-بعد رحلةِ هذه السنوات الأربعين-يشعرُ بنوعٍ من العزلةِ الشعوريةِ والوجدانيةِ التي تتباعدُ مسافتـُها في حِسِّه الوضيء عن أهل مكة المشركين-وبقية العرب الذين هاموا في جاهليةٍ عمياءَ،يموجُ بعْضُـها فوق بعض-فيلتفتُ وسط هذه الدوامةِ التي حطمتْ إنسانية الإنسان وأركستْ معالمَ الآدمية في أخلاقه وسلوكه وتعاملاته،عَلـَّهُ يلتمسُ الهدى والنور الذي تتحسسه نفسُه النقية من حيث لا يَدري أن السماءَ ستوفي بعد وقتٍ قصير بوعدها للبشارة التي أجراها القدرُ على لسان جده عبد المطلب بن هاشم ذات صبيحة اثنين قبلَ أربعين عاماً خلتْ،حين ألهمه الله عزوجل أن يسمي حفيدَه اليتيمَ العظيمَ ( محمــداً ) ليكونَ محموداً في الأرض وفي السماء..!!

وحتى يجدَ لإحساسه المُلحِّ على العزلة والانفراد والاختلاء مُتنفـَّساً،فقد قادته أنوارُ السماءِ إلى غار حراء التليد،وتحكي كتبُ السِّيَر والصحاح أنه-صلى الله عليه وسلم-كان يهجرُ أهلَ مكة َ كل عام ليقضي شهر رمضانَ فيه،بعيداً ببضعةِ أميال عن البلدة الصاخبة،التي تستيقظ على تقديم القرابين لأوثان الآلهة حولَ الكعبة،وتنامُ على واقِعٍ لغوبٍ،شرحه جعفر بن أبي طالب-رضي الله عنه-بعد ذلكَ لملِكِ الأحباش النجاشي : (( أيها الملك،كنا قوماً أهلَ جاهلية،نعبد الأصنام التي نصنعها بأيدينا من الحجارة والأخشاب،نأكل المِيتة ونأتي الفواحشَ ونقطعُ الأرحامَ ونسيءُ الجوار ويأكلُ القويُّ منا الضعيفَ... ))...

إنها إحساساتُ العزلةِ والانفراد التي يشعرُ بها كلُّ نظيفٍ-في أي زمان ومكان-هالهُ مَــدَى انتشار الأدران والأقذار على امتداد الأفق،فاختنقَتِ الأجواءُ،وانحبستِ الأنفاسُ،فراحَ يبحث له عن ربوةٍ عليلةٍ في مرتفعٍ،يتنفسُ في عليائها هواءً نقيًّا،نظيفاً،ثم ينظر منها إلى السفح الخانق،يستجدي له-بالتأمل والتفكير العميقين-مَخــرَجاً مَّا...

وهناكَ في أعالي جبل من جبال مكة الفارعة الشاهقة،ينقطعُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم في رَبْوَتِهِ الصغيرة عن واقع الجاهليةِ وأدناسها وأوحالها وأركاسها وأنجاسها،ومع ذلك السكونُ المطبق على أديم الأرض في الليالي الرمضانية ذوات العدد،كان-عليه الصلاة والسلام-يرى العالمَ المريضَ بوضوح أكبر،ويُحددُ بالضبط الأدواءَ والأورامَ التي تنخرُ كيانـَهُ وتأكل نسيجَهُ الحَــيَّ...

في تلك القمةِ السامقةِ المنزويةِ،كان عليه الصلاة والسلام يأخذ زادَ الليالي الطوال،ثم ينقطعُ-في رحلة تدبر وتأمل فريدة-متجهاً بعقله وقلبه العامر إلى ربه سبحانه وتعالى...

ومن تلكَ الذروة الحِرائية كانَ صلى الله عليه وسلم يطل على أمواجٍ من حَمأ الجاهلية التي تسحَقُ الإنسان في تحتِها الخانق من غير أن يكونَ له أمَلٌ في مخرج أو بصيصٌ من نور...

كان يتحنث ويتعبد ويدخلُ في ما يشبهُ الفناءَ الروحي بالصقل والتجرد الفريديْن،حتى إذا راحتْ روحُه العظيمة تتسامى وتتعالى في معراج السموق والطهر والنقاء،أمسى-من نقاء السريرة-لا يَرَى رؤيا إلا جاءتْ كفلق الصبــح..!!

وحتى إذا اكتملَ نصابُ الإعدادِ في نفسه العظيمة،ورقتْ جوانحُهُ وهفتْ واستعدتْ،وحانتْ اللحظة التي انتظرها الوجودُ كلـُّهُ،فكانت الليلة السابعة والعشرون من رمضاننا الفضيل..لتبدأ مراسيمُ الدقائق الأولى من عُمْر البعثةِ النبوية الخالدة...انفتحتْ أبوابُ السماواتِ عن مَلـَكٍ كريم أمين اسمه ( جبريل )،أخذه،ثم أرسله،وهو يأمره ثلاثاً : (( اقــرأ..!! ))،فيردُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم-وهو الأميُّ الذي لم يقرأ يوماً ولم يكتب-في دهشةٍ لا تخلو من فرَقٍ : (( ما أنا بقارئ..!!! ))،فتنسابُ عندئذٍ التراتيلُ الأولى من أطياف النور الذي سيضربُ بها محمدٌ عليه الصلاة والسلام-هو وأتباعُه-الضلالة َضربــة ًقاصمة ً،تذهَبُ بها إلى غيْر رَجْعَــةٍ : (( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسانَ من عَلقٍ اقرأ وربكَ الأكرَمُ الذي علـَّمَ بالقلم علمَ الإنسانَ ما لم يعلم ))...

فكان لهذه اللحظةِ الحِرَائيةِ العظيمة ما بَعْــدَها..!!

لقد انفـَـضَّ عُكَاظ ٌ،وقامَ حِــرَاءُ...!!!

جعلني اللهُ-وإياكم أحبتي-من عتقائه من النار في أنوار هذه الليالي الأواخــر...

الديمه
14-08-2012, 05:18 PM
بارك الله فيك أخي على الطرح الطيب
في ميزان حسناتك إن شاء الله

يزيد فاضلي
14-08-2012, 07:37 PM
أشرُفُ-أختي البديعة الكريمة الديمة-بهذا التوقيع البَهِيِّ الذي وَشـَّحَ رقيقتي بلمسَةٍ من بَهَاءٍ ونور...

جُوزيت ألفَ خيْر أختي...

yasmeen
15-08-2012, 02:52 AM
جزاك الله خيرا أيها الأستاذ الفاضل

أدامك الله بخير وألبسك ثوب العافية

يزيد فاضلي
15-08-2012, 01:52 PM
...وأدامِكِ الله تعالى-أختي البهية ياسمين-في حُللٍ من نور رضاه وسُرُجٍ من أنوار حكمتِهِ وتقوَاه...

شَكَرَ اللهُ تعالى لكِ كرَمَ المرور وجميلَ التوقيع..وجوزيتِ ألفَ خير...

سعاد زايدي
16-08-2012, 03:14 AM
أخي يزيد تحية رمضانية لك من الأوراس الأشم

إذا ما تطلعت روح المسلم لمعرفة الله تراه خاشعا، قانتا، وحيدا، متأملا السماوات متعلق فكره بما هو عال وسامي في ملكوت الله سبحانه وتعالى هادئ، يحدد زمانه ومكانه لفعل الخيرات حتى يصبغ وجهه بالرضى والسعادة فهو يبني في السماء، وإذا ما كان من أصحاب الدنيا تراه ناظرا للأسفل مسرعا لجمع ربما ما لا يفوته، محدقا لما يكسبه غدا لا يهمه زمانه ومكانه لا يرى في السعادة إلا ما يسعده لحظته فهو يبني في الأرض. وشتان بين هذا وذاك أيهما باقي وأيهما زائل، أيهما مفرح وأيهما محزن؟
هنا بيت القصيد والذي من خلاله نعي أن أهمية المكان الذي ينظر إليه المؤمن في الزمن الذي هو عليه فيقصده يختلف عن مكان وزمان المنظور إليهما من الآخرين،

هذا ما أعتقده والإعتقاد شخصي أخي يزيد إن إهتمام القرآن الكريم بالزمان والمكان له اثر في المعنى للعمل به لهذا نزل في غار حراء وفي ليلة القدر

خصوصية زمان ومكان النزول أو اللحظة التي ربطت فيها كما قلت السماء بالأرض لا بد من إعتناء خاص بها يجعل المسلم الرابح في الحالتين في مكانه أو في زمانه.

لم أحب أو أشأ أن أذكر فضائل ليلة القدر الأغلبية منا يعرفها ولكنني أحببت أن ألفت إنتباه أخي المسلم إلى أهمية الزمان والمكان وفضلهما في لحظة من أعظم اللحظات التاريخية لحظة صنعت بتاريخ البشرية من تحويل جذري ما لا يستطيع أحد صنعه إلا ربما اللغة إذا حققت معنى كلمتي قبل وبعد ولا بد لنا أن نتناول الموضوع من هذا المنطلق محاولين تعميم المنظور حتى في حياتنا اليومية كي نحقق التغير دوما إلى الأحسن إنشاء الله

والله أعلم

جعلنا الله من المقبولين.

يزيد فاضلي
16-08-2012, 01:45 PM
...مما لا شكَّ فيه-أختي البديعة الأصيلة سعاد-أن للزمان والمكان أثرًا مَّا في إحداثِ التغيير المناسب الذي يترتبُ عنه تغييرُ الظروفُ والأحوالُ من شكلٍ إلى شكلٍ آخر ومن صورة إلى أخرى...

لذا كان من سنن الله تعالى الجارية أن الأيامَ تتفاضلُ في ما بينها كما تتفاضلُ الأمكنة أيضاً..ولعل هذا هو المعنى اللطيف الذي أراده شوقي-رحمه الله-عندما قال :

قد يَهُونُ العُمْرُ إلا ساعــة ً** وتهــونُ الأرضُ إلا موْضِــعَا..!!

وبين رافد الزمن-الذي هو نهْرٌ من الاستمرارية والديْمومة الحيوية-وبين المكان الذي يُوحي بقدسيةِ الجلال في الفكرةِ..كانت الليلة الموعودة وكانَ حراءُ يُحققان لنا تلك المعادلة المتكاملة التي ستغيّْرُ وجهَ الحياة بزاويةٍ ثمانين درجة إلى الأفضل والأحسن والأصلح والأقوم...!!!

سعدتُ-وسأظل أسعَدُ-أختي البديعة بمَدَدِ الأفكار التي تثيرينها في كل رقيقةٍ،وتغطينَ بها ما بقيَ من هوامشَ على حواشيها...وتقبلَ الله مني ومنكم الصيامَ والقيامَ في ما بقيَ من لحظاتٍ رمضانيةٍ...