المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رقائــق القلبِ في رمضان..( 27 )


يزيد فاضلي
15-08-2012, 02:06 PM
رقائــق القلبِ في رمضان..( 27 )

أحبتي الكرام البررة...

في الخطبة الحانية التي خطبَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه من الأنصار عقِبَ تقسيم غنائم غزوة حنين ما يستدعي التوقفَ والتأملَ...

وغزوة حنيْن-كما نعلم-كانتْ أسبابُها المباشرة من إفرازاتِ فتح مكة الأعظم،بل إن الزمنَ يكادُ يكونُ بينهما امتداداً لبعضه...

ففتـْحُ مكة وقع في العشرين من شهر رمضان،من السنة الثامنة للهجرة...

وغزوة حنين وقعتْ في الشهر اللاحق شوال من نفس السنة...

وقد مرَّّ المسلمون فيها بامتحانٍ صعبٍ،حين تطامنتْ نفوسُهم لكثرةِ العدد الذي حشدوه للمعركة،فما أغنى عنهم ذلكَ لولا أن عادوا لذخيرةِ الإيمان التي يتسلحون بها في كل مواجهةٍ ضد العدو بعد أن بلغتْ قلوبُهُم الحناجرَ..وفي عِزِّ الموقف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته يقول-كما روى الشيخان عن البراء بن عازب رضيَ الله عنه- :

أنا النبيُّ لا كَذِبْ ** أنا ابنُ عبدِ المطلب..!!

وكان يدعو : اللهم نزِّلْ نصرَكَ..

واندحرَتْ فلولُ المشركين من هوازنَ وثقيف،وفر مالك بن عوف ومن معه،تاركين خلفهم للمسلمين في الميدان غنائمَ هائلة...

تقول كتبُ السيرة المُحققة : كانت الغنائم ؛ أربعة وعشرين ألفاً من الإبل،وأكثرَ من أربعين ألفاً من الغنم،وأربعة آلاف أوقيةٍ من الفضةٍ،هذا إلى جانب ستة آلافٍ من السَّبْيِ..!!

لقد كانت هذه الأنفالُ المُستحَقة ثروة طائلة ًبمعايير ذلك الزمن...

وعندما حان التقسيم بعد مدةٍ،تأكدَ فيها النبي عليه الصلاة والسلام أن أصحابَها الكفار لن يعودوا تائبين،ثائبين للرشد،شرعَ يُسكِت المتطلعين من المؤلفة قلوبُهم بالمدرار الوافر من تلك الغنائم،حتى شاعَ في الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يُعطي عطاءَ من لا يَخشى الفقرَ..!!

كان الأنصارُ ممن وقعتْ عليهم مغارمُ التقسيم..!!

كانت الغنائمُ تذهبُ-بالقسمة-إلى المهاجرين حديثيْ العهد بالإسلام،ولحكمةٍ عظيمةٍ لمْ يُعْط َالأنصارُ شيئاً..!!

والظاهرُ أن هذه السياسة النبوية الرشيدة،لم تـُفهَمْ أولَ الأمر،فراحَ كثيرٌ من الأنصار يتهامسون في ما بينهم عن سر هذا الحرمان،إذ كيفَ يُحرَموا جميعاً أعطية حنيْن،وهم الذين بذلوا دماءَهم وأرواحَهم وقت الشدةِ،فطاروا يقاتلون في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،حتى إذا انكشفتِ المعركة عن نصر ساحق،هاهم أولاءِ يرونَ غيَرَهم يعودون لديارهم بطاناً بالغنائم..!!

وما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليفوته الأمرُ،فقد كشفَ في إشارةٍ واضحةٍ إلى الأبعاد الإيمانية من حكمة هذه القِسمة النبوية الجليلة...

فقد روى الإمام البخاري في صحيحه-بسنده-عن عمْرو بن تغلب رضي الله عنه قال : أعطى رسولُ الله قوْماً ومنع آخرين،فكأنهم عتبوا عليه فقال : (( إني أعطي قوْماً أخافُ هلعهم وجزعَهم،وأكِلُ قوماً إلى ما جعلَ الله في قلوبهم من الخيْر والغِنى،منهم عمرو بن تغلب ))..

قال عمرو : (( فواللهِ،ما أحب أن لي بكلمةِ رسول الله حُمْرَ النعم..!! ))..

أيْ ؛ إنَّ هذه التزكية النبوية لعمرو بن تغلب كانتْ أرجحَ وأحظى لديه من أموال الحياة الدنيا كلها..!!

وفي حديث صحيح آخر،رواه الشيخان والإمام أحمد في مسنده بسند صحيح،وكذا ابن هشام في سيرته وابن جرير وابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري رضيَ الله عنه أنه لما أصابَ رسولُ الله الغنائم يوم حُنين،وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسمَ،ولم يكن في الأنصار شيْءٌ منها-قليلٌ أو كثيرٌ-وجَد هذا الحيُّ من الأنصار في أنفسهم،حتى قال قائلهم : لقيَ-واللهِ-رسولُ اللهِ قومَــهُ..!! ،قال : فمشى سعدُ بن عبادة رضيَ الله عنه-وكان من وجهاء الأنصار-إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : يا رسول الله..إن هذا الحيَّ من الأنصار وجدوا عليكَ في أنفسهم..قال : فيمَ..؟؟ !! قال : في ما كان من قسمِكَ هذه الغنائم في قومكَ وفي سائر العرب،ولم يكن فيهم من ذلك شيء..

قال له رسول الله : فأين أنتَ من ذلكَ يا سعدُ..؟ قال : ما أنا إلا امرؤٌ من قومي..فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجمعْ لي قومَكَ في هذه الحظيرةِ،فإذا اجتمعوا فأعلمني...

فخرج سعدٌ يستجمعهم،حتى إذا لم يبقَ فيهم رجلٌ واحدٌ من الأنصار لم يتخلف،خرج إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم،وقام فيه خطيباً بخطبةٍ نبويةٍ،ضجَّتْ لها أسماعُ الكون كله ورقَّتْ لمعانيها الجلامدُ الصُّلـْدُ في راسياتِ الصخر،وفاضتْ بمعاني الرقةِ والذوْق الرفيع وبمشاعر المحبة الشديدة للأنصار..

إنها خطبة ٌتذرفُ لها القلوبُ قبل العيونُ لما تضمنتها أدقَّ خفقاتِ قلبه الكبير وألطف مشاعره صلى الله عليه وسلم..وقد لامستْ هذه الرِّقة-كما سنرى-سويداءَ الخوافق في مشاعر أنصاره ،اهتزتْ لها هِزَّة ًشديدة،وسرعان ما انجلتِ الغاشية عن عيونهم،حين بصَّرهُم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما غابَ عن بصائرهم لحظة ضعفٍ بشرية..!!

فكانت الخطبة-في الحقيقةِ-كنزاً من كنوز الإيمان التي تطيشُ معها حساباتُ المغانم والريوع...!!

فلنتأملْ-أحبتي-سويًّا ومليًّا في ما قاله النبيُّ صلى الله عليه وسلم-وفي الحوار الرفيف الذي تخلل الخطبة-ولنا أن نتحسس بعيون بصائرنا تلكَ الرقائق العظيمة من العِبَر التي احتوتها...

قال بعد أن حمدَ اللهَ وأثنى عليه بما هو أهله :

(( يا معشرَ الأنصار..ألمْ آتيكم ضـُلاَّلاً،فهداكمُ الله..؟؟ وعالة ً( أي فقراء ) فأغناكم الله..؟؟ وأعداءَ فألـَّفَ الله بين قلوبكم..؟؟!! قالوا : بلى..!! قال رسول الله : ألا تجيبون يا معشرَ الأنصار..؟؟ !! قالوا : وما نقول يا رسولَ الله،وبماذا نجيبكَ..؟؟ المَنُّ لله ورسولِه..!!

قال : واللهِ لو شئتم لقلتـُمْ،فصدقتـُمْ وصُدِقتـُم : جئتنا طريداً فآويناكَ،وعائلاً فآسيْناكَ،وخائفاً فأمَّنـَّاكَ،ومخذولاً فنصرناكَ..!! فقالوا : المَنُّ لله ورسولِه..!!

فقالَ : أوَجدتمْ في نفوسكم-يا معشرَ الأنصار-في لعاعةٍ من الدنيا،تألفتُ بها قوْماً أسلموا،ووكِلتـُكُمْ إلى ما قسمَ اللهُ لكمْ من الإسلام..أفلا ترْضوْنَ-يا معشرَ الأنصار-أن يذهبَ الناسُ إلى رحالهم بالشاء والبعير وتذهَبوا برسول الله إلى رحالكم..؟؟ فوالذي نفسي بيده لو أن الناسَ سلكوا شِعْباً وسَلكتِ الأنصارُ شِعْباً،لسلكتُ شِعْبَ الأنصار،ولولاَ الهجرة لكنتُ امرُؤًا من الأنصار..!!

ثم رفعَ يديْه الشريفتيْن يدعو في خشوع : اللهمَّ ارحم الأنصارَ وأبناءَ الأنصارَ وأبناءَ أبناءِ الأنصار..

فبكَى القوْمُ حتى اخضـَــلـَّـتْ لِحَاهُمْ..!!! وقالوا جميعاً : رضينا بالله ربًّا،ورسولِه قسَماً..ثم انصرفَ..وتفرق القوْمُ بسكينةٍ واطمئنان.. ))...

فِداكَ أبي وأمي يا رسول الله..!!

أيُّ كلامٍ جليل هذا الذي تنثره علينا من عليائكَ السامقة..؟؟!!

أية رقةٍ وعُذوبةٍ هي هذه القطيْراتِ النديَّاتِ التي تهاطلتْ بها كلماتـُكَ الحنونة الشفوقة الرحيمة...؟؟!!!

وأيَّـة ُمعانٍ هذه التي تغسل بها أرواحنا وقلوبَنا..؟؟!!!

وتقبلَ الله-أحبتي-منا ومنكم ما بقيَ من نفائس ساعاتِ الصيام والقيام والاحتساب في هذا الشهر الفضيل...

سالم الوشاحي
15-08-2012, 03:20 PM
الأستاذ يزيد فاضلي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أشكرك جزيل الشكر على هذا التواصل الجميل

خلال هذا الشهر الفضيل برقائق ترق لها القلوب

وتدمع لها العيون ...

بارك الله فيك وفي معانيك أيها الأصيل

سجل إعجابي وتقديري بماتكتب.

سعاد زايدي
16-08-2012, 03:30 AM
كل أقواله، كل أفعاله وكل ما يسنه صلى الله عليه وسلم له من البعد الإيماني ومن المقصد التشريعي شريعةً أو عقيدةً ما هو بحق السماء إلا مدرسة تربي وتقوم أمة لا تهون ركائزها ما عاشت.

وغزة حنين ككل الغزوات جعل الله منها دروسا وعبر بطريقة النصر ما نقف عليه نحن اليوم وما ينظم حياتنا نحن اليوم ما علينا إلا أن نتبع خطوات الهدى من كتاب الله وسنة نبيه من هذه الدروس:

1- إنتصار المسلمين بفتح مكة جعل بعض القبائل تنزعج وتفزع فتخاف على ما تملك تسرع بالحرب فتهزم –الإسراع ينقص من قوة التخطيط.
2- الإغترار بكثرة العدد ينقص من قوة الإيمان بالنصر -تغيب على المسلم فضائل الله.
3- القلة لا تعني الهزيمة شريطة أن يتسلح المؤمن بسلاح العقيدة والإيمان لقوله تعالى: ". إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" محمد:07.
4- النصر والهزيمة نتائج المعارك لا يحسمها العدد.
5- حرص المسلمين على تلبية نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6- الحكمة من تقسيم الغنائم وتوزيعها.
7- تحقيق مشروعية الجهاد كأول دافع عن الدين الإسلامي هو هداية الناس إلى الطريق المستقيم وإرشادهم إلى الدين ليس من أجل أهداف حُكْمْ أو إقتصاد أو سياسة.
8- الخطبة التي ألقاها على الأنصار وما فيها من تبجيل وإعتزاز وإتباع جاءت ككشف سبب الذي قامت عليه القسمة.
9- عدم تجاهل النبي صلى الله عليه وسلم للتساؤلات المطروحة من طرف الأنصار.
10- رحمة العباد في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخي يزيد هذه عشر مواعظ استخلصتها من غزوة حنين أتمنى أن أصيب الهدف من الرقيقة والله أعلم

صدقني بهذه الرقائق لا أخفي عليك أخي يزيد فقد حركت آلة الفكر عندي والتي أخمدتها مدة شكرا لك

تقبل الله صلاة وصيام قيام الجميع إنشاء الله

yasmeen
16-08-2012, 07:11 AM
الأخ الأستاذ الفاضل يزيد فاضلي جزاك الله خيرا على هذه الدروس العظيمة

وأرجوا من الله أن يوفقك لما فيه الخير دوما وأبدا

يزيد فاضلي
16-08-2012, 01:55 PM
...أستاذي الكريم وأخي الحبيب سالم الوشاحي...

لا يزالُ شكري وامتناني موْصوليْن بمروركَ العَبـِق على رقائقي المتواضعة،فما تفتأ تزدادُ بهَاءً وضياءً وألـَقاً،وما تلبَثُ تزدهي في حروفها ازدهاءَ عرائس الزهر الفواحةِ حين يُلامِسُ طلعَها صفاءٌ ونقاءٌ من ندَى الغيْث الرضـِبِ...

شكراً-أخي-على التوقيع الجميل،واللهَ أسألُ أن لا يَحرمنا أجرَ الإخلاص-إن كنا من أهل الإخلاص-في ما جادتْ به القريحة وسطـَّرَتْ...شكراً...

يزيد فاضلي
16-08-2012, 02:04 PM
...تلكَ-أختي الكريمة الأصيلة البديعة سعاد-عشْرُ عِظاتٍ هادفةٍ حكيمةٍ يُمكنُ استخلاَصُها مما حدثَ في غزوة حنيْن ومما أعقبَها من حكمةِ تقسيم غنائمها ومما يكمنُ استنباطه من تلك الخطبة العظيمة الجليلة التي خطبَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أنصاره-أوسِهِمْ وخزرجهِم-وها نحن أولاءِ نرى كيفَ أنكِ لملمْتِ تلكَ العِبَر والعِظاتِ بإيجازٍ بليغٍ وعنصرةٍ رائعةٍ،فازدادَتِ الأفكارُ في الرقيقة إيضاحاً وتبيَاناً وجَــلاَءً....

ألفُ شكرٍ-سيدتي الأوراسية البديعة-واللهَ أسألُ أن يُكافئكِ بما يُكافئُ به عبادَهُ الصالحين...وشكراً جزيلاً...

يزيد فاضلي
16-08-2012, 02:09 PM
...وجزاكِ اللهُ تعالى أنتِ أيضاً-أختي البديعة الكريمة ياسَمِــين-على هذا التوقيع الأرْجُوَانِيِّ الذي ألِفتـْهُ رقائقي فتوشتْ منه ثياباً خضراً من سندس واستبرقٍ إن شاء الله....

شكرَ اللهُ لكِ أختي الأصيلة..واللهَ أسألُ أن يُكرمنا بجمال العمل والاتعاظ من هذه الدروس العظيمة كما أكرمنا بحُسْن العرض والإثراء...ودمتِ بيننا عَبَقاً فوَّاحاً من أرَج الياسَمين الأبيض الناصع...