المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العرب والهولوكوست


سالم الوشاحي
25-01-2013, 04:23 AM
رؤى
العرب والهولوكوست
محمد القصبي


حينما كان يسأل المفكر الفرنسي الراحل رجاء جارودي لماذا أسلم، كان يروي تلك الواقعة أنه وفرنسيين آخرين تم أسرهم في الجزائر خلال الحرب العالمية الثانية من قبل قوات حكومة فيشي العميلة للنازي، وصدرت التعليمات إلى الحراس بقتلهم، إلا أن الحراس الجزائريين رفضوا إطلاق النار على الأسرى، وقالوا إن دينهم يحثهم على حسن معاملة الأسرى وليس قتلهم! فهل يعد هذا حدثا استثنائيا؟
هذا ما تروج له وسائل الإعلام الصهيونية في الغرب والتي تغذيها أكاذيب منظمة العلاقات العامة الإسرائيلية الأميركية والمعروفة اختصارا بـ"ايباك" وغيرها من منظمات اللوبي الصهيوني على ضفتي الأطلنطي، أن ما يرويه جارودي إن كان صحيحا لا يعبر عن الخلق العربي، إنما هو حدث استثنائي، والقاعدة أنهم ـ أي العرب ـ فأشرار وقتلة وإرهابيون، وما كان عملا استثنائيا، ليس هذا رأينا نحن العرب، بل رأي مؤرخ يهودي له ثقله في النخبة الأميركية وله علاقاته الوثيقة بإسرائيل، هذا المؤرخ هو روبرت ساتلوف الذي روعته تلك الحملة الشائنة التي انطلقت عقب أحداث الحادي من سبتمبر في محاولة لتشويه صورة العربي عبر العالم وتسويقه كإرهابي، فبدأ يجمع المعلومات من قبل اليهود الذين كانوا يعيشون في دول المغرب العربي والتي خضعت للسيطرة النازية عبر حكومة فيشي الفرنسية الموالية لهتلر خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تعرض الآلاف من اليهود للمطاردة والزج بهم في المعتقلات وقتل الكثير منهم، فماذا كان موقف العرب من حملات الاضطهاد التي تعرض لها اليهود؟ رغم أنهم ـ أي العرب ـ لم يسلموا من الاضطهاد على أيدي الاستعمار الفرنسي، إلا أنهم مدوا يد المساعدة للكثير من الأسر اليهودية لإنقاذها، وما أكثر القصص التي أوردها ساتلوف في هذا الشأن عبر كتابه "العرب الأتقياء" والذي ترجمه الدكتور رمسيس عوض إلى العربية تحت عنوان "العرب ومحرقة اليهود".
وتلك إحدى القصص الشبيهة بقصة إسلام جارودي، ومسرحها معسكر العمل المعروف باسم "عين الأوراق" جنوب مراكش، حيث كان القيظ على أشده، وظل السجناء من اليهود محرومين من الماء طوال الليل، ورفض الضابط المسؤول عن المعسكر تزويدهم بالماء فأضربوا عن العمل في المناجم، ليأمر الضابط حراس المعسكر من الفرنسيين والعرب بإطلاق النار عليهم، إلا أن الحراس العرب تعمدوا إطلاق النار في الهواء، حتى لا يصيبوا اليهود، ويقول المؤلف إن اليهود ظلوا يذكرون هذا الموقف الرائع للحراس العرب وأبلغوا به القوات البريطانية التي حررت المدينة بعد ذلك.
ويورد المؤلف العديد من القصص حول مخاطرة عرب بحياتهم لإخفاء أو تهريب يهود مطاردين من قوات حكومة فيشي الفرنسية، ومن هذه القصص أنه حين اشتد القتال بين قوات الحلفاء والقوات الألمانية في وادي زغوان بتونس انتهز ما يقرب من 60 يهوديا كانوا معتقلين في معسكر نازي الفرصة ليهربوا، واستغاثوا بصاحب مزرعة عربي اسمه سي علي فأغاثهم وأخفاهم عن عيون القوات الألمانية وظلوا في رعاية الرجل إلى أن تمكنت قوات الحلفاء من هزيمة قوات النازي، ويقول المؤلف إنه وردت إشارات عن هذه القصة في كتابين لمؤرخين يهود، فذهب إلى تونس وزار المزرعة والتقى بأحفاد سي علي الذين أخبروه أن جدهم كان يخفي عن أهله وأقاربه تلك القصة حتى بعد هزيمة النازي ورحيل القوات الألمانية!
ويشير المؤلف بامتنان إلى موقف الأئمة المسلمين الذين أصدروا تعليماتهم من فوق المنابر بعدم السعي إلى استغلال محنة اليهود في الحصول على أي مكاسب مالية، حدث هذا في الوقت الذي لم يتورع فيه المستعمرون الفرنسيون عن ابتزاز اليهود في محنتهم، حين ألزمت حكومة فيشي اليهود بتسليم أموالهم وممتلكاتهم إلى الحراسة لإدارتها نيابة عنهم، لتتعرض للنهب من الحراس تحت سمع وبصر الحكومة، وبلغ الأمر بالأئمة أنهم في إحدى خطب الجمعة عام 1941 أن حذروا المسلمين من أن يقبلوا العمل كحراس لممتلكات اليهود أو يشتروا ممتلكاتهم التي تعرض للبيع بأسعار زهيدة، رغم أن العرب أنفسهم كما يقول المؤلف كانوا يعانون شظف العيش، ويورد المؤلف ما جاء على لسان أحد الخطباء في هذا الشأن، حيث قال مخاطبا المسلمين: إن إخوتنا يكابدون العذاب، فلا تستولوا على بضائعهم!
ويتساءل المؤلف روبرت ساتلوف في انبهار: هل هناك دليل أعظم من ذلك على الكرامة الجماعية وعزة النفس التي تثير الإعجاب!
وحين تردد أن جماعة فاشية فرنسية تحرض العرب على قتل اليهود، هب الشيخ طيب العقبي، خليفة الزعيم الجزائري عبدالحميد بن باديس، مدافعا عن اليهود وحظر على المسلمين إلحاق الأذى بأي يهودي، ويشير المؤلف إلى تأسيس ابن باديس العصبة الجزائرية للمسلمين واليهود التي أظهرت قدرا كبيرا من سماحة الزعيم الجزائري وانفتاحه على الآخر، كما يشير المؤلف أيضا إلى الموقف الرائع للزعيم المغربي السلطان محمد الخامس من اليهود، حيث قدم لهم الكثير من الدعم المادي والمعنوي، وفي إحدى خطب العرش قال موجها حديثه إلى زعماء الجالية اليهودية: "يجب علي أن أبلغكم بأن بني إسرائيل كما كان الحال في الماضي سوف يبقون تحت حمايتي"، وقال بصوت عال حتى يسمعه المسؤولون في حكومة فيشي الذين يكنون الكراهية لليهود "إنني أرفض التمييز بين رعاياي".
يقول المؤلف إن اليهود كانوا يعتبرون السلطان محمد الخامس أسطورة ونسجوا حوله القصص التي تعبر عن شهامته وبطولته وكانوا يعتبرونه نموذجا يحتذى به في العدل والتسامح، وما فعله زعماء الجزائر ومراكش لحماية اليهود فعل مثله حاكم تونس أحمد باشا وبعده ابن عمه منصف بك، حتى أن رجال حاشيته كانوا يقومون بإخفاء اليهود الذين تمكنوا من الهروب من معسكرات الاعتقال النازية. ويقول اليهودي ماتيلد جويز من مدينة صفاقس وطبقا لما ورد في كتاب ساتلوف أن حاكم تونس جمع كل أعيان ووجهاء المملكة في قصره ليحذرهم من أن اليهود يعيشون أوقاتا صعبة وقال لهم: "هم تحت رعايتنا ونحن مسؤولون عن حمايتهم، ولو أني وجدت مخبرا عربيا يتسبب في سقوط شعرة واحدة من رأس يهودي فإن هذا العربي سوف يدفع حياته ثمنا لهذا". ولماذا أصدر ساتلوف كتابه هذا؟ لأنه معني تماما كما يقول بتحقيق السلام بين العرب وإسرائيل، والسلام لن يتحقق إلا إذا فهمت أميركا وإسرائيل الثقافة العربية، تلك الثقافة التي تكرس قيم المحبة والتسامح والمروءة. لكن هل تغيب أركان تلك الثقافة عن الإسرائيليين؟ القصص التي أوردها ساتلوف في كتابه جمعها من أفواه يهود كانوا يعيشون في دول المغرب العربي، وكان بعضهم مهددا بالموت في معسكرات النازي لولا مساعدة العرب لهم، ولقد هاجر الكثير من هؤلاء اليهود إلى فلسطين بعد سنوات قليلة من إسدال الستار على معارك الحرب العالمية الثانية، لكنهم يردون الجميل بعد ذلك، حين شاركوا ولو بالصمت في واحدة من أبشع حملات التطهير العرقي عندما هاجمت العصابات اليهودية القرى والمدن الفلسطينية عام 1948 وأشاعوا الرعب فيها قتلا وتعذيبا وتدميرا لإجبار سكانها العرب على الرحيل!
إسرائيل ليست في حاجة إلى أن تفهم ثقافة التسامح العربية لأنها تعرفها جيدا، وتعرف أن اليهود عاشوا في كنف العرب في اطمئنان وعبر مئات السنين، سواء في فلسطين أو غيرها من الأقطار العربية، مشكلة العرب والعالم مع إسرائيل، بل مشكلة إسرائيل مع نفسها أنها تركت أمرها لحاخامات متعصبين يرون في قتل الأطفال الفلسطينيين كما يقولون في فتاويهم مرضاة للرب، ولجنرالات الجيش الذين توغلوا في الحياة السياسية، ويظنون أن الوسيلة الوحيدة للتعامل مع العرب كما يقول الكاتب الأميركي ريتشارد بن كرايمر هي القوة، فمن أين يأتي السلام، وهؤلاء من لهم الكلمة العليا في إسرائيل!




جريدة الوطن