المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ليس من شِيمِنا ولا أخلاقنا


سالم الوشاحي
29-01-2013, 06:37 AM
ليس من شِيمِنا ولا أخلاقنا
د. صالح الفهدي


عُرف العمانيُّ بحسنُ أخلاقِهِ، وصدق مروءته، وعفّةِ لسانهِ، وصفاءِ جنانه، لهذا استحقَّ الشهادة الشريفة من أعظم الخلقِ خُلقاً، وأكملهم إيماناً نبينا صلى الله عليه وسلّم إذ قال لرجلٍ بعثه إلى حيٍّ من أحياءِ العربِ"لو أن أهل عمان أتيت ما سبُّوك وما ضربوك"..فكم هو فخرنا بهذه الشهادة الكريمة، وكم هو اعتزازنا بها اعتزازاً لا يعلو عليه قدرٌ غير دخولنا الإسلام طاوعيةً ونصرتنا إيّاه.
لقد ظللنا نفتخرُ بما للعماني من سماتٍ ميّزتهُ وعرف بها بين شعوبٍ كثيرة فأكسبتهُ الإحترامَ والتقديرَ والثناءَ من القاصي والدّاني. العمانيُّ عُرفَ بِسَمْتِهِ والسَّمتُ السكينة والوقار ولهذا فهو في المحافل والمناسبات رزينُ النّفس، هاديء الطبعِ، وقورَ الجانب، يحسبُ لكلِّ نظرةٍ، ويقلّب كلّ كلمة، ويتأمّل موضع خطوته فنال بذلك تقدير النّاس وإجلالهم.
وعُرفَ العماني بكلمتهِ فإن استجارهُ أحدٌ أجاره بل وفداه بنفسه وماله فللكلمة عنده ثمن غالي لا يوازيه ثمنٌ إلاّ عهدهُ مع الله في اتباع الحق. وعُرف العماني بدماثةِ خُلقهِ، وسخاءِ يدهِ، وعزّةَ نفسهِ، وكرمِ بذلهِ فلا غرابةَ أن أسمع من زوارٍ أجانبَ ومقيمين أحبّوا عمانَ لأهلها حتى قال لي أحد الأَعلام الذين زاروا عمانَ: لقد تطبّع الوافدُ بطبعِ العماني فصار لطيفاً في تعاملهِ، رفيقاً في أسلوبه، وقال أحد الرواد الذين زاروا البلد مؤخراً:"محرومٌ من زارَ عمان يبحثُ عن الطبيعة ولم يبحث عن إنسان عمان فهو أجمل من طبيعتها الجميلة". وفي أحد الملتقيات المنعقدة بإحدى الدول المجاورة كنت أدير جلسةً فجاءني بعدها رجلٌ من الحاضرين وشدَّ على يدي قائلاً: هذه هي الصرامة العمانية ويقصدُ بها المضاءُ والعزم والحزم.
هذه مزيّةٌ لا نريدُ أن نفقدها في شخصيتنا ليس لأننا عرفنا بها بل ولأنّها سمةُ الإنسان الذي يحترمُ ذاته، ويجلُّ قدرها. إلاّ أنه ومع ثورة تقنيات التواصل أصبحَ للكلمةِ عند البعضِ طريقاً آخر غير المشافهة، إذ تتلقّف الوسيلة كل ما تطبعه الأنامل من أحرف فإذا هي بسرعةٍ خاطفة تحت سمع وبصر شريحةٍ واسعة من الخلق. وبهذا وجدَ البعضُ مما لا يستطيع كبحَ جماحَ نفسه، ولا تقييد اندفاعها، ولا ضبط انفعالها مساحةً للقدحِ والتجريح والإساءة والسخرية والإستهتار ونربأُ بالعمانيّ أن يُسقط نفسه في مساقطها الوضيعة.
فما إن يكتبَ أحدهم خبراً ما في موقعٍ أو منتدى أو صفحة، وما إن يجتهدَ مجتهدٌ في عملٍ يقصدُ به الخير والصلاح إلاّ ويتشفّى منه من يظنّون أنفسهم أصحاب رأيٍ مخالفٍ وهو في الحقيقة غلٌّ وحقد وغلواء في النفوس..! يتشفّون منه بكلمة نابيةٍ، أو بتحقيرٍ، أو بسبّ أو شتيمة مما تأنفُ عنها الأذن العفيفة، وتتجنبها الأعينُ الشريفة.
ليسَ نقداً ذلك الذي يرمي الأبرياء بأقبحِ الألفاظِ، وأسوأ العبارات. ولا يمكنُ لعاقلٍ حكيمٍ حليمٍ أن يتقبّلَ الوقاحةً على أنّها نقد، ولا أن يفهم الصفاقة على أنّها مخالفةَ رأي، ولا أن ينظرَ إلى الشتيمة على أنّها حريّة، فالأشياء يجب أن تسمّى بأسماءها.
ليس من الحريّةِ ذمُّ البشرِ، واتهامهم بشرِّ التُّهم وهم منها بريئون، والصاق أقبحُ الصفات عليهم وهم منها شرفاء ثم وصف ذلك بالحريّة..! بؤساً للحريّة إن تصوّر القبحَ على أنّه جمال..! ولؤماً للنقدِ إن كان هدماً وتسفيهاً وتحقيراً.
أقولُ ذلك بعد أن شهدتُ تعليقاتٍ من هنا وهناك عبر مواقعَ وصفحات وتغريدات ومناظرات مرئية ومقروءة وأقولُ بأن هذه التعليقات وإن لم تنل من أغلب من رمتهم إذ عوّدوا أنفسهم على الإيجابية وتقدير الذات والتحكّم في ردّة الفعل إلاّ أن الإنسان الرشيد ليسأل: ماذنب زائرٍ يكتبُ مثنياً على من زارَ فينبري من يشتمه منهم ويصفه بالنفاق؟! وما ذنب مجتهدٍ مثابرٍ يأتيهِ من يشبهه بالحيوانِ..؟! وما ذنب عاملٍ مخلصٍ لا يلاقي غير الذم والقدح والإتهام..؟!
ليس حرّاً من لا يملك قيادَ لسانهِ فيشتم هذا ويسب ذاك، بل هو عبدٌ لها وكاذبٌ لو حسبَ أنّه حرّ..! الحريّة كرامةٌ نفسٍ قبل كل شيء فكيف بمن لا يكرمُ نفسه ولا يعفَّ لسانه أن يدّعي أنّه يمارس الحريّة وهو في الأصلِ عبدٌ لأهواءه..؟!
كما أنّ قول الحقِّ له ألف بابٍ ميسّرةٍ له فليس على المرء أن يكون صفيقاً قبيحَ الأسلوبِ ليقوله ولو جازَ ذلك لكانت الفظاظة سمةُ نبينا المصطفى عليه السلام إلاّ أنه نُهي من ربّه اللطيف"ولو كنتَ فظّا غليظ القلبِ لانفضوا من حولك"آل عمران/159 وفي الأصلِ هو المتسم بها والممدوح من مولاه بالخُلقِ العظيم.
وكم وجدنا وراء من يتنطّع برأيٍ مخالفٍ سوءاتٍ لم يسترها، وفضائحَ يجاهرُ بها بين العبادِ ويفاخر..!! ومع ذلك يقذفُ الناسَ بحجرٍ وبيته من زجاجٍ يشفُّ عن مساوئه وخيباته. يقول زهير بن أبي سلمى:
ومهما تكن عند امريءٍ من خليقةٍ .. وإن خالها تخفى على الناسِ تُعلمِ
ووالله لو عمل كلّ مسلمٍ يتقي الله في نفسه ويخشاه يومَ يسائله الله عمّا قال بالأمرِ النبوي"قل خيراً أو اصمت" لشفى نفسه من الغلّ والضغائن والأحقاد، لكنّه عكسَ الأمر بما يستحق عليه التوبيخ والتأنيب فكان عنده "قل شرّا أو اصمت".. وهذا ينطبقُ عليه الحديث النبوي الشريف"من خرج عن سنتي فليس مني" أخرجه البخاري ومسلم، والخروج هو الإعراضُ والتنطُّع. وما أرى سبباً لهذا التبجّح وتلك الصفاقة إلا بسبب الكبرياء وفي هذا منازعةُ لصفات ذي الجلال والإكرام كما جاء في الحديث القدسي" الكبرياءُ ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار" أخرجه مسلم وأبوداؤود والترمذي.
إن الأشراف ليستهجنون سليطَ لسانٍ، أو قذفِ إنسانٍ، فالمرءُ مخبوءٌ تحت لسانهِ وكل تعليقٍ أو قول انعكاس لشخصيته، وكلّ كلمةٍ تخرجُ منه لا تعود إليهِ كالمسمار الذي يتركُ أثراً في مستقرّهِ وإن أُخرجَ منه ..!ولا يرضى الأُباةُ الذي يكرهون الضيم أن يكون من بينهم من يسفّه ضيف، أو يحقّر زائر، أو يقدحَ مثابر، أو يشتمَ مجتهد فليس ذلك من شيمنا ولا من أخلاقنا التي سارَ بها السُّراة، وأنشدَ بها كلّ من وطيء هذه الأرض الزكيّة. إن للحقِّ رجاله الذين يدركون أن "لكلِّ مقامٍ مقال" وأن للكلمةِ بعد ومدى، فيقولون الحقَّ، ويعبّرون عن الرأي لا كما يتصدّر له المتنطّعون بل كما يحقّ لفضيلة الحقِّ أن تُحمل وتستساغ "فآتيا فرعون فقولا له قولاً ليناً له يتذكّرُ أو يخشى"طه/44.دامَ العمانيُّ راقياً في لفظه، عفيفاً في منطقهِ، شريفاً في جنانه يضربُ به المثل عند جميع الشعوبِ والمِلل