المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكاية في رواية _ "أبو البنات السبع"


ناجى جوهر
05-02-2013, 01:25 AM
حكاية في رواية

"أبو البنات السبع"
كان يا ما كان في سالف العصر والأوان, أخوان شقيقان
أحدهما صياد ماهر, و أخوه الأكبر رجل ثري تاجر
وذات يوم, و بعد أن يئس من الحصول على المزيد من أسماك البحر
طوى شبكته المُهترئة الخالية
ثم القى بجسده المنهك النحيل تحت ظِلِ قاربٍ مُتهالك
محتميا من لظى الهجيرة المستعر, ناشدا الإستظلال والإستبراد
وإلتقاط الأنفاس
كان العرق يتصبب بغزارةٍ على جبهته, فالنهار قد إنتصف
والشمس متوهجة في كبد السماء, وسياط لهيبها الحاِرقة تجلد بدنه بوحشية
وقد أوهاه وأعطَشه تكرار رمي الشبكة في البحر, وجرها فارغة إلى اليابسة
ثم تناول قربته الرثَّة, إجترع منها شربة ماء صرد(بارد) أطفأت نار الظمأ في جوفه
رفع بعدها كفيه في ضراعة, وقال مُبتهلا : لك الحمد يا رب البحر, ويا ربَ السماء
على ما رزقتني من خير كثير, وقد أنجيتني من المهالِك, وأبقيتني أسعى على بناتي
ثم قرَر العودة إلى المدينة, فكوخه الطيني يبعد ميلا
فركِب حِماره الأعرج الهرم
ولما أضحى في السوق, باع بعض السمكات, وأبقى على البعض منها, كوجبة غداء لإسرته
إنّهُ "أبو البنات السبع" الشقيق الأصغر"لأبي ساعِدة"
و قد رَزَقه الله بنات سبع, كأنّهنَّ أقمار سبعةَ
بيض الوجوه, أسيلات الخدود, ممشوقات القوام, ساحِرات العيون
ولو أنَّ التوأم سعدِيّة و سعيدة كانتا بدينتان, بطينتان, لا تأخُذهما بالطعام رأفة ولا شفقة
لكن حُسنهما البديع لا يخفى على عين راءٍ, ودماثة خُلُقهما جلِيةٌ على الأوجان المحمّرة حياء
أما سعاد وسعادة و مِسِعدة فإنهن شَبهن أمَّهن المولَّدة في اللُطف والرِقةّ وحُب الجمال
وكنَ مولعات بالحياة, يرغبن بالغالي والنفيس من المُقتنيات, ويعشقنَ المرح والسرور
بينما كانت سعدة وسعدى وهما الأصغر سنا, قد شبِهتا أبيهما في سمرة بشرته
وحَمَلتا عنه الذكاء الحاد, والجُرأة
علاوة على ما كسبتاه من طبائع أمهما الفضيلة, من بِرٍ و تقى, و رحمة بالضعفاء
ولدت "أم البنات السبع" في "كهف طيق" (يوجد في جبل سمحان, في ولاية مرباط)
وقد أرضعتها إحدى جنيات الكهف الصالحات, مع أبنائها فصارت أمها
بعد ذلك كان الجن إخوتها من الرضاع, يساندونها في كل شدة
فلمّا توفيت عطفت الجن على بناتها السبع. وإهتمت بهن, وخدمتهن, وساعدتهن
على تجاوز الكثير من المحن, بفضل الله و إرادته, إلا أنّهم كانوا لا يحضرون دائما
عندما وصل الصياد إلى كوخه الطيني المُتهالك, وهو مُعنتٌ (مرهق) مُنهك
إستقبلته بناته بالبشر والسرور, وحملن أمتعته القليلة وتبادرن إلى خِدمته
وبعد أن تناولوا تلك السمكات القليلة التي جلبها, وحمدوا الله وشكروُه
أحاطت البنات بأبيهنَّ إحاطة السور بالمعصم, وجلسن حوله, يُسلينه ويُشجعنه
فنسي الوصب (العذاب) الذي كان يُكابِده (يُقاسيه) في البحر, وحمد الله على القناعة
إرتفعت ضحكات الصياد و بناته السبع, وهم يُثرثرون في هناء وغِبطة (سرور)
كأنهم قد حازوا أيوان كِسرى, أو عرش بلقيس
فوصلت ضحكاتهم إلى مسمع أخيه "أبي ساعِدة" القابع في نافذة من نوافذ قصره
مهموما كئيبا, ساخِطٌا ناقِما
كان"أبو ساعِدة" قد إستولى على تركة أبيهما, ولم يترك لأخيه الأصغر شرو نقير
بل تخلىَّ عنه وهو طفل, فتولت خالاته تربيته ورعايته وحفِظه, حتى صار رجلا
ثم تزوّج "أبو ساعِدة" من "أم ساعِدة" وهي كريمة كبير تُجارالمدينة, فزادت ثروته
ونمت تجارته, وأنجبت له سبعا من البنين, ولكنّه أهمل تربيتهم وتهذيبهم وتعليمهم
و أسند أمرهم إلى "أم ساعِدة" التي أرضعت ولدها الإستعلاء والغرور, وإزدراء الفقراء
وعلَّمتهم قطيعة الرحِم, وكراهية عمهم وبناته السبع, وجعلتهم أعداء, وخصوم
وحين شبَّ الصِبية السبعة أغدقت عليهم الأموال, وأفسدت أخلاقهم بفرط الدلال
فلمَّا بلغوا مبلغ الرِجال كانوا عديمي الحيلة, فاقدي المروءة, وهاة العزيمة
و بعد أن عرفت خبث معدن زوجها, وجوره على أخيه, وظلمِه له
تسلّطَت عليه, وأستعبدته, فأستسلم لها زوجها وأستكان
وخاف الفضيحة والعار, ولم يخف الله ثم النار
وقد حرّضته على أخيه, فزعمت أن "أبا البنات السبع" يسعى للانتقام منه
و يحتال لأخذ حقَّه من الميراث
فصدَّقها "أبو ساعِدة" , و حقد على أخيه, وأبغضه, وأبطن له سؤ النية
وفي ذلك اليوم وحين سمع ضحكات أخيه وبناته السبع
أغتاظ غيظا شنيعا, وزاد شقاؤه ونحسه
فصاح على خادمه ياقوت الذي جاء مسرعا, والحُزُن بادىٍ عليه
فقال له آمِرا : أدعو لي إبني ساعِدة في الحال
إنصرف الخادم, وعاد بعد قليل لوحده
فسأله "أبو ساعِدة": الم آمُرك أن تأتي بابني ساعِدة ؟ ... فأين هو ؟
قال الخادم : لقد أبى أن يأتي يا سيدي ...
قال "أبو ساعدة" : ولم ؟ ماذا يفعل ؟
قال الخادم : إنه يأكُل يا سيدي
فهمهم "أبو ساعِدة" : لا شبِعت بطنه ...
ثم قال : إذن فأدعو لي سعد أو سعيد أو أي من أبنائي السبعة
خرج الخادم على الفور, ثم مكث طويلا قبل أن يأتي, و وقف بعيدا لا يتكلّم
فلما رآه "أبو ساعِدة" قد عاد لوحدة, قال غاضبا : إنهم جميعا نائمون, اليسوا كذلك ؟
هز الخادم رأسه مُوافقا, فتمتم بكلمات, تُنِمُ عن الغيظ الذي ملأ صدره
ثم قال : فلتذهب أنت إذن يا ياقوت إلى "أبي البنات السبع" ...
وأمنعه من الضحِكِ, وأمره أن يسكت, وليُسكِت بناته اليائسات
فإني أبغض ضحِكهم, ولا أحتمل سماع أصواتهم
ذهب الخادم, وبعد قليل قرعَ باب الكوخ مُترددا
فتلقّته سعدى وهى أصفر أخواتها, وكانت ذكية جريئة
فلما رأته واقفا منكِّس الرأس, علمت بما جاء من أجلِه
فقالت له : إنّه عمي "أبو ساعِدة" يأمرنا بالصمت, كعادته كل يوم
لا عليك سوف نصمت...!!
فأنصرف الخادم
لكن صدر "أبي ساعِدة" إمتلأ غيظا وحنقا, فأخوه وبناته, لم ياتمِروا بأمره, ولم
ينصاعوا لرغبته, وهم بالخروج من قصره, والتوجُه إليهم, ليُسمِعهم سِبابه
وشتائمه, لكن ضخامة جسمه, وعِظم بطنه منعاه من ذلك, خاصة وأنه قد تناول
طبقا مليئا رُزا, وصحنا من العصيد, وخضم ثلاث دجاجات سِمان, كما إلتهم فخذ
عِجل قد شُوِيت على الفحم, , وقوالب, الفالوذج والخبُز المُحلى بالعسل
فضلا عما شربه من الماء الممزوج بالسُكر
فثقُلت رأسه, وخارت قواه, فأرتمى على سريره
مغموما نكدا
ثم أنه أغمض عينيه, يريد القيلولة, ولما أحسَّ بحلاوة النوم تسري في بدنه
هبَّ فجأة من على فراشه مذعورا ...
محمرة عيناه, ضيق صدره, حائر فكره
فقد سمع أصواتا مزعجة مرعبة مخيفة, كأنها هدير الرعد, تهز أركان القصر
فخرج من غرفته فزعا, يلتمس مصدر الصوت وهو مرتبك مضطرب, وأخذ يتتبعه
حتى عرف أنّه ينبعِثُ من غرفة إبنه ساعِدة, فأقترب على حذر, ومشى الهوينى
خِشية أن تراه "أم ساعِدة", فتمنعه من الدخول, ولا تسمح له بمعاقبة أو بمعاتبة ولدها
وعندما وصل بأمان تام إلى الغرفة, التفت يمنة ويُسرة, فلمّا أطمأن إلى عدمِ وجودها
دفع الباب بكل ما أوتي من قُوة, فوجد أبنائه الخمسة
ساعِدة, سعيد, سعد, سعود, و سعدي قد إجتمعوا في الغرفة
أمّا ساعِدة فكان رابطا طبلا ضخما إلى حقوه ( خيط يربط حول الخاصره)
يقرعه بقوة وحماس, وهويُغنيِّ أُعنية بلهاء
بينما كان الأربعة الآخرون يرقصون في صفين مُتقابلين
وهم يلبسون لباسا مهلهلا ومُوحّدا, وقد صبغوا وجوههم بِطلاء, كما يفعل الزِنج
فذُهِلَ والدهم, والجمه المشهد, لكنه سيطر على ثورة غضبه
وأنتظر ردة فعل أبنائه حين يلاحظون وجوده, لكنهم لم يحفلوا به
وتجاهلوا حضوره, وأستمروا في لهوهم, لا يعيرونه أدنى إهتمام
فكان إذا حاول أن يفتح فمه, يأتون بحركة جديدة
ولكنه عندما رآهم يتمايلون بأجسادهم, ويهزّون رؤوسهم و مؤخراتهم
في خلاعة و ليونة, إحمرت عيناه غيظا ولم يُطِق الصمت
وعزم على تعنيفهم, وزجرهم, وتأديبهم, وإرشادهم إلى سوى السبيل
غير أنَّ الطبل والرقص توقّفا بغتة, وسمع صفيرا عاليا, وتصفيقا حارَّا من خلفه
فلمّا إلتفت رأى "أم ساعِدة" وقد أشرق وجهها غِبطة, وهي واقفة تحيي بنيها, فهابها
وأخذ يصفق مكرها, ثم إبتلع ريقه, وسأل إبنه بهُدوء وسكينة : ماذا تفعلون يا بُني ؟
قال ساعِدة بِفخر وإعتزاز: إننا نُمرِن أنفسنا, على رقصة, نؤديها أمام إبن الوزير ورِفاقه
بمُناسبة يوم ميلادِه. فما رأيُك في رقصتنا يا أبي ؟
لم يجرؤ أبوه على قول ما يتوجب عليه قوله, بل قال : إنها رقصة رائعة
ثم أنصرف مسرعا قبل أن ينفذ صبره, ويتفوّه, بكلا م يُغضب "أم ساعدة"
فإستوقفه إبنه ساعِدة قائلا : إنّ أخوي سعدون و سعدان
قد رفضا مُشاركتنا في مُجاملة إبن الوزير, فهلا عاقبتهمايا أبي ؟
عندها كاد أن يُغمى على "أبي ساعِدة" وهو يسمع هذا الكلام المُهين
قخرج ذليلا
وفي غرفته جلس يبكي بحُرقةٍ, وقد رأى بام عينيه, سُخف بنيه وتفاهتهم
ساعِدة وهو أكبر إخوته سنا, وقد بلغ تسعا وعشرين سنة من العمر
كان شابا مُدللا بطىء الفهم, قاصر الهمة, على الرغم من طوله الفارع, يحب اللهو
لا يُخالط أقرانه من الفتيان إلا نادِرا, فغدا ضعيف العقل, عديم الحيلة مسلوب الإرادة
وتأثر به إخوته, فكان كل من سعيد, سعد, و سعود يعتمدون عليه و يقلدونه في كل شىء
أما سعدون وهو خامس إخوته, وفي الثالثة والعشرين من العمر, فكان قصيرا دميما
بطين بدين شره, سليط اللسان, خبيث النفس, شرب كأس اللؤم مترعة من طبع أمه
سعدي وهو آخر العنقود وأصغر الأخوة, كان شهما نبيلا, تقيا ورِعا, في قلبه رحمة
بعد عصر ذلك اليوم أراد "أبو ساعِدة" أن يخرُج إلى السوق, و وقف يرتدي ملابسه
فحانت منه إلتفافتة إلى كوخ أخيه القريب من القصر, فجذبه مشهدُ أخيه وبناته السبع
وهم يُرممون كوخهم الطيني بهمة ونشاط, ولاحظ أن البنات قد شددن ثيابهن البالية
وشمّرن عن سواعدهن النحيلة, وهن يساعدن أباهن, ويفعلن فِعل الرِجال
فأغتم "أبو ساعِدة", من ذالك المشهد, وضاق صدرُه, ثَّم تنهَّدبمرارة وحسرة
وعقد مُقارنة سريعة, بين بنيه المائعين, المُدللين, التافهين, المُرفهين
وبين بنات أخيه الشبيهات بالرجال الأسوِياء, فشعر بالحزن يعتصِر قلبه
ولكن سرعان ما عادت إليه إبتسامته, عندما تذكّر إبنيه سعدون و سعدان
اللذين لم يكونا مع الراقصين, وقد ظنّ انهما أفضل حالا من الآخرين, فشعر بالرضاء
لذلك نادى خادمه, وقال له : أتني بإبنيّ سعدون و سعدان في الحال
فبحث عنهما الخادم, حتى عثر عليهما يلعبان في حديقة القصر
ولمّا أبلغهما برغبة أبيهما, ردا عليه بكل وقاحةٍ, وقلة أدب, وقال سعدون :
دعه يأتي إلينا إذا رغِب في رؤيتِنا, فإننا مشغولان ...
نزل "أبو ساعِدة" مُسرعا, وهو فرحانا مسرورا, لانه ظنّهما مشغولان بأمرٍ هام
وقال في نفسه : ليست بنات أخي وحدهن, من يشغلُهُ الجليل من الأمور ...
وحين وقع نظره على إبنه سعدون رآه واضعا على رأسه ما يُشبه عرف الديك
فتعجب من ذلك, وبينما هو في دهشته وذهوله, سمع نقيقا يشبه نقيق الدجاجة
فلما إلفت شاهد ولده سعدان الذي يبلغ السادسة عشر من العمر
يجلس القرفصاء على الأرض, فداخله الريب والفضول
وسأل إبنه سعدون : ماذا يفعُل أخوك ؟
فرد على أبيه بحزم : إنه دجاجة يا أبي, ألا تسمعه ينِقّ ؟
قال "أبو ساعِدة" وقد خاب رجاؤه : وأنت الديك, اليست كذلك ؟
قال سعدون : بلى يا أبي ألا ترى عرفي العظيم ؟
كتم "أبو ساعِدة" غيظه, وأنصرف لا يلوي على شىء ...
ثم خرج لائذا بالصمت و قد اختلجت في صدره مشاعر اليأس و القنوط
فصب جام سُخطه على أخيه المسكين و على بناته السبع, دون ذنب أو سبب
ليس إلا الحسد له على ما هو فيه من قرة عين و طمأنينة و سكينة, وتآلف
فركب حصانه الجرشع(الواسع البطن), و خرج من قصره, مصطنِعا العظمة, يحّفُ به الخدم
فكان كلما مر من طريق أو من زقَّاق, يرى الأطفال والصبية يفرون من أمامه في هلع
و يُلاحظ أنَّ الناس لا تحفل به, ولا تعيره أدنى اهتمامه, فقال في نفسه :
إنّ هولاء الرجال قد حسدوني, على ما أملكه من مال و بنين, ويتمنون زوالهما
وأمّا الصبيه, فإنّهم إنّما يوسعون لي الطريق, إحتراما وتقديرا, فهم يعلمون من أكون
أقنع نفسه بهذه الحجج الواهمة, ولكّن الحقيقة إن الناس لا تكن له ذرة احترام
والصبية إنما كانوا يهربون خوفا من بطش خدمه, و وحشِيّتهم وجبروتهم
عندما وصل "أبو ساعِدة" الى السوق وجد التجار قد سبقوه, وانتظموا في مجالسهم
وسمِعهم يتحدثون, فلما أنضم اليهم ساد الصمت, وأنصرف معظمهم. وبقي نفر قليل منهم
وبينما كان "أبو ساعِدة" يحادثهم لَمَحَ اخاه الصياد يأتي ماشيا على قدميه الحافيتين
و كان "أبو البنات السبع" كلما مر على ِمجموعة من الناس رحبوا به وحيوه وضاحكوه
ودعوه إلى الجلوس معهم, ثم شاهده يجلس مع بعض الصيادين في حلقة صغيرة
وبعد برهة لاحظ أنَّ عدةِّ حلقات قد إنضّمت الى مجلس إخيه, و أحاط به الصيادون
فكاد "أبو ساعِدة" أن يموت كمدا وتعاسة, و لم يطق السكوت
فسأل زملائه : ما بال أولئك الصيادين البؤساء قد إجتمعوا في مجلس واحد ؟
رد عليه أحد رفاقه : إنهم يستمعون الى أحاديث أخيك "أبي البنات السبع" الشيِّقة
قال "أبو ساعِدة" هازئا : و ماذا يعرف ذلك السفيه ؟!
إنه مجرد صياد جاهل ...
قال صديقه : لا يا "أبا ساعِدة" ان اخاك رجل حكيم, عذب الحديث, يُحبه الناس
قال "أبو ساعِدة" ساخِطا : أحبهم الموت, انهم تافهون مثله, لا يجيدون سوى الكلام الفارغ
فإنّك لو دخلت كوخه الحقير, لن تجد فيه عُشر مِعشار ما في قصري
إنه يائسُ مُعِدم, و بناته بائسات دميمات, و أنا رجل ثري أمتلك بستانا في قصري
و بساتين في القرى المُجاوِرة, و متاجر كثيرة. فضلا عن سفنى الراسية
والصافنات الجياد
و أبنائي السبعة من خيرة شباب المدينة, بل هم الأفضل والأمثل, والأحكم والأحذق
عندما ذكر "أبو ساعِدة" أبنائه تضاحك القوم, وتمتموا في سخرية و إزدراء
فأستشاط غضبا, و صاح في وجوههم ناقما : ما بالكم تضحكون من حديثي ؟
رد عليه أحدهم قائلا وهو يضحك :
أمّا وإنّك قد ذكرت أبنائك, فإنك تعلم كما نعلم, إنهم اقل شأنا مما تصف وتدَّعي
فأستبسل "أبو ساعِدة" في الدفاع عن ولده قائلا :
ما أعلمه ان أبنائي هم النّخبة من شباب المدينة
وإن أردت أن أدعوهم إليك لتنظر إليهم فعلت
قال الرجل متحديا : فأدعهم, و لكن لا تتدخل حينما أخاطِبهم أو أسألهم عن شئ !
قال "أبو ساعِدة": لك ذلك. ثم صاح بخادمه : أقبل يا ياقوت
فلما مثل بين يديه, ساره طويلا, ثم انصرف الخادم راكضا
انتظر "أبو ساعِدة" ورفاقه و قتا غير قصير, قبل أن يحضر أبناؤه السبعة
راكبين خيولهم الأصيلة, و قد ارتدوا من الملابس اغلاها, ومن التيجان اجملها
و تقلدوا سيوفهم الهندوانية المذهبة, و تخنجروا بالخناجر العمانية
و وضعوا العمامات الديوانية, و تمضخوا بالعود والغالية
فلما رأهم أبوهم مقبلين هب واقفا, وأخذ يصفق بيديه, وعلامات السرور بادية عليه
وشمخ برأسه عتوا وعُجبا
و لما وصل ساعِدة واخوته إلى المجلس, إستقبلهم والدهم إستقبال الفاتحين
وأخذ يرحب بهم, و يمتدحمهم, و يثني عليهم قائلا:
أهلا بالغر الميامين, مرحبا بصناديد المدينة, أهلا بفخر الشباب ...
كان رفاقه يغالبون ضحكهم, فلما قال : اهلا بالتقاة الأبرار, أهلا بحماة الديار ...
عجَّوا الناس بالضحك, فغضب "أبو ساعِدة" من سخريتهم, و إغتاظ من إستهزائهم
وقال لهم ساخطا : اما والله لأرينّكم العجَبَ ... ثم سألهم :
هلا نظرتم الى ما يرتدون ؟ هل رأيتم مثل هيئتهم النبيلة ؟
الا تنظرون إلى التيجان المرصعة و السيوف الهندية و السواعد الفتية ؟
اليست هذه الرجولة ؟ اليست هذه الفخامة ؟ اليست هذه الشهامة ؟!
قاطعه أحد رفاقه وهو يضحك : ليس الرجل بمظهره, و لكن بمخبره
فسكت "أبو ساعِدة" مندهشا, ثم سأل : ماذا تقصد ؟ّ!
قال الرجل : دعني آمرهم وانهاهم واسألهم. فان أحسنوا كانوا كما تقول
و إلا فلتعلم أنَّ قيمة الإنسان إنَّما تحددها أفعاله و أخُلاقِه
وافق "أبو ساعِدة", وهو واثِق كل الثِقة من أن أبنائه سيفحمون السائل, قولا وفعلا
قال الرجل : أُدنو مني يا ساعِدة, فدنا منه وهو مذهول مرتعِش, مبديا خوفه
فهي المرة الأولى التي يقف فيها أمام جمع كبير من الناس, وأخذ يلتفت إلى أبيه و إخوته
قال له الرجل : إني أرى ذبابة واقعة على عين القاضي النائم هناك, وتؤذيه
أريد منك يا ببُني أن تخلصه منها
فكر ساعِدة دهرا, ثم مشى على أصابع قدميه, حتى جلس
خلف القاضي منتظرا مجىء الذبابة
وعندما حطّت و أستقرت على أنف القاضي, صفعه ساعدة صفعة
أطارت النوم من عينيه, و أخذ يحكُّ خدّه متوجعا
بينما جلس ساعدة أمامه حائرا, وعندما سكن القاضي من الهلع
سأله : ماذا دهاك يا بُني ؟
فتلجلج ساعدة وضحك الناس
ووقف ساعِدة واضعا أُصبَعَه الإبهام في فمه, لا يفهم لم هم يضحكون
فغضب أبوه غضبا شديدا, وأعتذر إلى القاضي
ثم قال لإبنه : عد إلى أِمك لا بَارَك اللهُ فيك...!!
أمّا الرجل فإنّه نادى سعيدا, وهو الإبن الثاني "لأبي ساعِدة", وسأله :
قل لي يا بُني, كيف رفعوا هذه المِئذنة العالية؟
وأشار إلى مئذنة الجامع
طال تفكير سعيدٍقبل أن يهتدي للإجابة, وفجأة صرخ قائلا :
لقد عرفت يا عم, لقد عرفت ...
فقال له الرجل : هيا ... أخبرنا يا بني ...
قال : سعيد: لقد بنوها على الأرض, ثم جبذوها بالحبال, فأنتصبت كما ترى
فضحك الناس, وضحك الرجل حتى إستلقى على قفاه
فتقدم أبوه منه, وأمسكه من عضده, قائلا : عُد إلى أمِك لا بارك الله فيك
وضحك الناس حتى سالت أدمع أعينِهم, وأستلقوا على أقفيتهم
وعجبوا لهولاء الفتية, وقد لبسوا اغلى ما يُلبس, وظهروا على أكمل هيئة
ولكنهم, لا يُحسنون قولا ولا فعلا, وأدركوا أن لاخير في مظهر الإنسان
ما لم يكن له عقل وحكمة, وحُسن تصرُّف ...
و أيقن "أبو ساعِدة" أنّه قد أضاع بنيه بإهمال تربيتهم, وتركهم دون تهذيب أورعاية منه
وأن دلال أمهم المُفرِط, قد أفسدهم, فأمسوا ضعاف العقل, عديموا الحيلة
بُلهاء, حمقى, أعماهم الغرور, وفتنهم الترف, و أضاعهم المديح الكاذب
ومع ذلك, فقد أراد أن يُداري فضيحة أبنائه, وأن يُبررعجزهم وإخفاقهم
برمي الفشل على أخيه, وبناته السبع, حسدا وكيدا, ولم يشاء أن يقوم بنيه
فصاح بالرجل, الذي فضحهم, وكشف معدنهم, قائلا :
إن أبنائي لم يروا هاهنا من يماثلهم في سداد الرأي والحنكة, فأرتبكوا وخجلوا منكم
فلو بعثت إلى "أبي البنات السبع", و جلب بناته, ليناظرن أبنائي, لوجدتهن أقلُّ شأنا منهم !!!
إندهش الرجل من كلام "أبي ساعِدة", وسأله مذهولا :
وما شأن أخيك و بناته بالأمر ؟ إنَّ أخاك لاعلم له بما يدور بيننا
قال "أبو ساعِدة" : بل له شأن, فلقد أحرجت أبنائي, و أضحكت عليهم الصيادين
ولم تُتِح لهم فرصة إظهار براعتهم, والإفصاح عن مخزون عقولهم من الحكمة
فمن الإنصاف أن يستردوا كرامتهم, أمام القضاء, وبحضور جميع الناس
ولن نرضى إلاَّ بمناظرة البنات السبع, فهنَّ عدلهم في الأصل والنسب
و إلاَّ شكوتك إلى القاضي
فصاح أخوال ساعِدة, وأصدقاءُ أبيه, وجُملةٌ من ذوي الأغراض السقيمة, وقالوا :
نحن نشهد عليك مع "أبو ساعِدة", فإنك قد سخرت من بنيه, والحقت بهم العار وأحرجتهم
و إمتنعت عن إنصافهم, ومكرت بهم, وأنكرت حقهم, وأضحكت الناس عليهم, فتُحبس لهذا
أسقط في يد الرجل, وحار في أمره, فقال له "أبو ساعِدة" متوعِدا :
موعدنا غدا في دار القضاء, وهولاء الناس جميعا شهودٌ على عدوانك وبغيك
ثم أنصرف مع بنيه مُبتهجا
ذهب الرجل بعد مغيب الشمس, إلى "أبي البنات السبع", يجر رجليه جرا
وقد تمكن منه الإحراج والخجل, و ندِمَ على إستفزاز أولئك الطُغاة القساة
كان ذلك الرجل أحد أصدقاء "أبي البنات السبع" ألأوفياء, وجاره الجنب
لذلك لم يكن من السهل عليه ان يُورِّط جاره في هذه المناظرة, أو أن يزُجَّ ببناته
في منازعات الرجال وخصوماتهم, ولكنه يعلم تسلُّط و نفوذ "أبوساعِدة" وأصهاره
ويعرف قدرتهم على شِراء شُهود الزور, لذلك قصد صديقه وجاره وكاشفه بالأمر
فأراد "أبو البنات السبع" أن يجنِّب بناته هذه المواقف, وأن يسلم من الفتنة, فبكى الرجل
وشكى إليه خوفه وحزنه, وتوسَّل إليه وأستعطفه فرحمه ورثي لحاله, ووعده خيرا
عاد "أبو البنات السبع" إلى كُوخه بعد المغرب, وكان مُغتما حزينا, مشغول البال
لكنه يظهر البِشر و الإنشراح, و يكتُمُ الهم, فإستقبلته بناته فرِحات مُستبشرات كعادتهن
ولم يلاحظن ما بِهِ من غم, لكن إبنته الصغرى سعدى, وكانت ذكية أريبة, حادة الفهم
متوقِدة الذِهن, أدركت ما به, و لم تشاء أن تدخل الحزن على قلوب أخواتها الغافلات
فتركتهن حتى نمن, ثم تسللت إلى أبيها وسألته عما به, فأخبرها بكل شىء
فقالت له واثقة : لا عليك يا أبي, نم قرير العين, و دعني أتصدى لأولئك الحمقى
و مع أذن الفجر ايقظها "الجن" الصالح, وأيقظت هي أباها وأخواتها , ثم جمعتهم
و طلبت منهم ان يتركوا لها حرية التصرف, فوافقوا جميعا, لثقتهم بها
ثم خرجت البنات السبع برفقة أبيهن إلى دار القضاء, بعد شروق الشمس
فكانوا أول من وصل, و بينما كانوا ينتظرون قدوم الناس, و بدء المناظرة
أقبل ذلكم الرجل المسكين, وأخذ يعتذر اليهن, فكلمته سعدى من خلف الحجاب قائلة :
إّنك يا عم قد أوقعتنا في شراك "أبي ساعِدة", دون ذنب إقترفناه, وتعلم خبثه ومكره
فمن الإنصاف ان تضع عليه غرما, اذا نحنُ غلبنا أبنائه, وتفوقنا عليهم, فماذا تقول؟
قال الرجل : صدقتي يا بنتي ولك علي أن اثقل كاهله بشرط مذل, فماذا يرضيك ؟
قالت البنت : يرضيني أن يمنح أبي حمارا فارها و قاربا واسع
و أن يرسل إلينا ثيابا تستر أجسادنا
سمع القاضي شروطها, عندما دخل فقال : و أنا ضامن ذلك إن شاء الله
إجتمع الناس, وأستعدوا لبدء جلسة المناظرة, و لكن "أبو ساعِدة" و بنوه لم يحضروا بعد
ثم أقبل "أبو ساعِدة" وحيدا, منكس رأسه, يبدو عليه القلق, فلما أخذ مجلسه سأله القاضي :
أن أبناؤك يا "أبا ساعِدة" ؟
سكت "أبو ساعِدة" و تجاهل سوال القاضي
فصاح به القاضي غاضبا : الا تسمعني يا "أبا ساعِدة" ؟ لقد سألتك فلم لا تجيب ؟
قال "أبو ساعِدة" خائفا : معذرة يا سيدي... سيأتون ... سيأتون حالا
إنتظر الناس مدة طويلة و لم يأتي الأخوة السبعة, عندها وقف القاضي و نادى حاجبه
ثم قال له :
خذ معك بعض الرجال, وأذهب إلى قصر "أبي ساعِدة", وإتني بأبنائه على أية حال وجدتهم
نفذ الحاجب أمر القاضي وأحضر الإخوة السبعة وهم مذهولون, و لما دخلوا دار القضاء
شخصت إليهم الأبصار, فرأى الناسُ ساعِدة قد وقف مستترا خلف أبيه, يرتعد خوفا
و ذاك سعيد يتثاب بشدة, بينما إنزوى سعد وسعود و سعدي في زاوية المجلس
يغالبون النُعاس, وبقي سعدان وسعدون ينتبهان مرة, ويغفوانِ مرّة أخرى
كان بنو "أبي ساعِدة" قد أمضوا ليلهم سهرا, حيث إستقدموا بعض المُغنين
فأحيوا حفلة غناء, ورقصوا, حتى الفجر, وعندما أراد أبوهم إصطحابهم
للمناظرة, منعته "أم ساعِدة", فأتى لوحده, مقهورا
ثم خاطب القاضي "أبا ساعِدة", فقال :
أنظر الى ولدك يا "أبا ساعِدة", فلما رآهم على تلك الحالة لطم خديه
فسأله القاضي : أتكتفي بما تراى أم تحب أن نكمل المناظرة؟
البقية تتبع
إن شاء الله
كتبها/ ناجى جوهر
سلطنة عمان

سالم الوشاحي
05-02-2013, 07:22 AM
أخي الغالي ناجي جوهر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شكراً على إتحافنا بهذه القصة الرائعة

والتي لها طابع خاص تمتاز بجمال الحبكة وروعة السرد

فالخير والشر والحسد في هذه الدنيا مادامت السموات والآرض

أنتظرك في باقي القصة ونحن على شوق ما ستأولوا إليه المناظره

سجل إعجابي وتقديري العميق .

رحيق الكلمات
05-02-2013, 09:27 AM
جميل هذا السرد اخي ناجي لك براعة في الاسلوب جعلتني استمتع بقراءة القصة رغم طولها

ناجى جوهر
05-02-2013, 05:42 PM
السلام عليكم, تحياتي الخاصة لكما أيها الرائعان
الغالي / سالم الوشاحي
والغالية/ رحيق كلمات النور
كم أبهجني هذا الثناء العطر
ما من داعي للقسم, ولكنني أريد أن أحلِّق في رحاب السعادة النفسية
هذا بفعل كلماتكما المحفِّزة الصادقة
فأدعوا لكما بالسعادة والصحة ودوام التقدم
وتقبلا شكري الجزيل
ناجى جوهر

أم أفنان الرطيبيه
07-02-2013, 01:15 AM
ناجي .. اسلوبك يجبر القارئ للتعمق في جماليات وروعة كتابتك
قلمك يستحق الثناء
واصل الابداع
بإنتظار الجديد

عبدالله الراسبي
07-02-2013, 01:34 PM
اخي العزيز ناجي جوهر تسلم على هذا النص الجميل والرائع
قصه جميله جدا ورائعه
واصل ابداعك الجميل وننتظر جديدك هنا دائما
وتقبل تحياتي

ناجى جوهر
13-02-2013, 12:53 AM
حكايات شعبية أبو البنات السبع" الجزء الثاني

أراد "أبو ساعدة "أن ينسحب, عندما رأى غفلة أبنائه وتفاهة أحلامهم

لكن فساد تدبيره أوقعه في ما يكره. فلقد ردَّ بإصرارٍ وغباء قائلا :

بل تبدأ المناظرة حالا

قال القاضي : فأختر أتكون المناظرة قولا أم فعلا ؟

قال : فلتكن قولا وفعلا, ولتسألهم سؤالا ولتسألنا سؤالا

فخاطب القاضي سعاد : أسألكِ عن شىءٍ أطولُ مني ومن أبيكِ

ولكّنه لا يستطيع لمس ضرع البقرة, ما هو؟!

قالت سعاد : إنه الدّرب يا سيدي

قال القاضي : أحسنت , بارك الله فيكِ

فأنبهر الناس من سرعة بديهتها, وجودة خاطرها

ثّمَ سأل القاضي ساعدة, فقال :

منتصب قـــــائم كالبنيان فـــي الطـول رمـح بـلا ســـنان

لا أذن لـــــه ولا لــسان يُشرب بعد العصرِ في رمضان

فما هو ؟

لم يفكّر ساعدةٌ, بل قال : أستغفر الله أيها القاضي

لا شيء يشرب بعد العصر في رمضان فالناس صائمون

قال له القاضي :

بل هناك ما يشربه المسلمون بعد العصر في رمضان .. !!

ثمّ سأل سعادة : أتعرفين أنت الجواب ؟

قالت سعادة : هو قصب السكر يا سيدي, يصنع منه العصير

فارتفعت صيحات الصيادين فرحة وسرورا

قال القاضي :

ما تقول يا سعدون في رجل مسلم بالغ, سميع بصير

صلـى بـالنـاس إمـامـــا , فــقـالـوا : صلاته باطلة

ثم صلى مع الناس مأموما, فقالوا: صلاته باطلة

وصلى لـوحـــده مـنفردا , فـقــالوا : صلاته باطلة

فما علته يا سعدون ؟

إرتجّ على سعدون , وأخذ يسأل إخوته و أباه و أخواله وأعوانهم

فلم ينجده أحد منهم بجواب

فقال "أبو ساعدة" : إنّ هذا كلامٌ مُبهم, لا تفسير له

قال القاضي : أفتينا يا أبنتي , إن كنت تعرفين

قالت سعيدة : إنَّ الرجل مجنون بلا عقل يا سيدي

ولا تصح الصلاة لفاقد العقل, من جنون أو من غيره

فكبّر القاضي, وعلت الأصوات تثني على البنات

فغضب "أبو ساعدة" وقال : فلتسألني أنا أيها القاضي

ثم اسأل "أبا البنات السبع"

قال القاضي : حسنا, فبين لن الحكم الشرعي في :

رجل مسلم , يأكل الميتة, ويصلي بلا ركوع ولا سجود

ويبغض الحق, ويحب الفتنة

قال "أبو ساعدة" : إنّ من يفعل هذا ليس بمسلم

قال القاضي :

بل هو مسلم, وليس عليه ذنب فيما يفعل, ولكنك رجل جاهل

يا "أبا ساعدة" فلتسمع ماذا يقول أخوك

قال "أبو البنات السبع" :

الرجل إنما يأكل السمك والجراد, وهما ميتتان, ويصلي على الموتى

وليس فيها ركوع وسجود, ويبغض الموت وهو حقَ

ويحب المال والبنين وهما فتنة

فأبتسم القاضي, وفرح الصيادون, وإغتم" أبو ساعدة"

وقال بعد أن أدرك أنهم ماضون في طريق الفشل :

فلننتقل من القول إلى الفعل أيها القاضي

قال القاضي : فماذا لديك ؟

قال : إنني أطلب من أبي "البنات السبع" أن يأتى بعد أيامٍ ثلاث

حاملا سلة مملوءة من شحم البعوض, وقد طُبخ بلبن العصفور

و إلاّ فإنّه و بناته يخسرون المناظرة, و يكون الشرف و الفضل لي و لأبنائي النجباء

عجب الناس من هذا الطلب الغريب العجيب, وأشفقوا على الصياد وبناته

قال القاضي : فصف لنا شحم البعوض ؟ وماذا يكون لبن العصفور ؟

قال " أبو ساعدة" مُستخِّفا : إنّ شحم البعوض شيءٌ لينٌ دسمٌ أبيض

أما لبن العصفور فهو سائل أشهب, ثم إستغرق في نوبة ضحك مجنونة

فقال القاضي : أمّا إن فعل" أبو البنات السبع"ما طلبت منه

فوالله لنغرمنَّك غرما يقصم ظهرك

ثمّ إنفضَّ المجلس, وإنصرف الناس, وغادرت البنات ووالدهن

وقد غلب عليهم الحزن والهم وحاروا في طلب "أبي ساعدة"

وبين جدران الكوخ جلسوا يتدارسون ذلك الطلب العجيب

فلم يتوصّلوا إلى شىء يقنع "أبا ساعدة" والقضاة

ومضى اليوم الأول , وتبعه الثاني, وبعد مغيب شمس اليوم الثالث

خرجت سعدى إلى منزل بعض الجيران

فشاهدت جارتها " أم أحمد" وقد وضعت جريشا أبيضا ناعما في صحن تريد تجفيفه

فسألتها : ما هذا أيتها الخالة ؟

فأخبرتها بإسمه

فسألت البنت : وهل يأكله الناس ؟

قالت الجارة : نعم يا أبنتي, بل ويستخرجون منه حليبا أيضا

قالت سعدى : فهل لي بالقليل منه ؟

دخلت "أم أحمد" وأحضرت شيئا, ناولته الفتاة

ثمَّ قالت لها : لقد أرسل إلينا "أبو أحمد" حمل بعيرٍ منها

ولكن أرجوك يا بُنيتي لا تخبري أحدا

إنصرفت سعدى تسابق الريح, و في الكوخ فتحت الكيس

وأخرجت هدية الجارية, ولكن أيٍّ من أخواتها لم تبدىء إهتماما

فهن لا يعلمن حقيقة تلك الهدية

فقامت سعدى وعالجت بعضا منها, ثم إستخرجت لُبا ناصع البياض

وجرشته, فتناثرت منه قطعا صغيرة بيضاء اللون

فلمّا رأت ذلك سُرَّت سرورا بالغا

ثم قبضت على حفنة من ذلك الجريش وعصرته بين يديها

فدَّرَ عليها حليبا ناصع البياض, فلمَّا تذوّقته, وجدته طيبا مستساغ

فأدركت أنّ أحجية "أبي ساعدة" قد فُكَّ لُغزها فحمدت الله وشكرته على لطفه

ثمّ أخفت ما تحصّلَ لها, وأنضمّت إلى أخواتها الباكيات

أمّا أبوها ,فإنّه إعتكف في المسجد يذرف العبرات, ولسانه يلهج بالدعاء

ولم يعد إلى الكوخ إلاّ بعد ان تيقّن من نوم البنات, فدخل مُتسللا

ونام حزينا كئيبا, كسير الخاطر, مشغول البال

وحين نهض فجرا لأداء الفرض, وجدَ سلّة أنيقة, مُغطاة بمنديل لطيف

قد وُضعت أمامه, وعندما رفع الغطاء شاهد شيئا لم يره قبل ذلك

فأحتار في أمره, وتشوش خاطره, وبينما هو كذلك , دخلت عليه إبنته سعدى

فبادرها مُتسآئلا : أأنت من جلب هذه السلّة ؟ وما هذا الذي فيها ؟

فأجابته : نعم يا أبي. ولكن الا تعرف ماذا فيها ؟

ردّ الأب نافيا : لا والله , لا أعلم ماذا يكون هذا الشيء

فابتسمت الفتاة قائلة : إنه شحم البعوض وقد طبخ بلبن العصفور

فضحكا حتى أيقظا النائمات, فأتينَ يستفسرن عن السر

في دار القضاء كان " أبو ساعدة" يترنح بِطرا وغرورا , وقد وضع على رأسه

عمامة " كشميرية" تِزنً أرطالا, وهو يقطع الساحة ذهابا وإيابا

ينتظر قدوم الناس ليشهدوا هزيمة أخيه النكراء ـ هكذا كان يُمني نفسه ـ

فإذا حضر احدٌ ما إستقبله أبو ساعدة" هاشا باشا, باسم الثغر منشرح الصدر

وما ذاك إلا ليقينه بأنّ البنات السبع وأباهن لن يفكوا أبدا طلاسم لغزه العويص

فكان يضحك مغتبِطا

وحين قدِم أخوه حاملا سلته, بادره" أبو ساعدة" ساخِرا :

ماذا تحملُ في هذه القُفّة القذرة ؟ أتظُنُّ أنّك قد عثرت على شحم البعوض؟

أم إنّك قد حلبت عصفورا أيها الأحمق ؟

ثم ضحِك ملتفتا إلى أعوانه الذين شرعوا في إمتهان "أبي البنات السبع"

لكن الرجل لم يهُشّ ولم ينُشّ, بل رماهم بنظرة تحدٍ ملتِهبة

فشعروا بالقلق, فهو يبدو واثقا من نفسه, وأضطرب "أبو ساعدة"

وحاول معرف سر السلّة, وقبل أن تبُدر منه بادرة أخرى

حضر القاضي. فشعر بالخذلان المبين وبدأت المخاوف تساوره

كانت القاعة تعجُّ بالحضور أبناء "أبي ساعدة" و أصهاره و أعوانه

وكذلك الصيادينن, ومحبوا "أبا البنات السبع" وغيرهم

فبدأ القاضي جلسته بحمد الله والثناء عليه

ثمّ سأل "أبا البنات" : هل أحضرت شحم البعوض ولبن العصفور ؟

قال "أبو البنات السبع" : نعم يا سيدي, إنّهما في هذه السلّة

فأستدعى القاضي "أبا ساعدة" فلما دنى منه

أمر ا القاضي" أبا البنات السبع" بإظهار المُخبّى فأزال المنديل, ورفع الغِطاء

وإغترف غرفَة وضعها في طبق فشاهد القاضي و"أبو ساعدة" الجريش الأبيض

يطفو فوق سائل يشبه اللبن , وعندما لمساه وجداه دسما

فتعجّبا أشدّ التعجب, ونكّس "أبو ساعدة" رأسه في حيرة ووجل

فأمر القاضي بعرض الجريش و اللبن على الحضور, ولمّا عاينوه جميعا

سألهم : أيعرِف أحد منكم ما هذا الشىء الذي رأيتم ؟

فلم ينطِق أحد بردّ

عاد القاضي وسأل : فماذا يكون ذلك السائل ؟

قالوا : إنه لبن, ولكننا لا نعلم لبن أي شىء هو

قال القاضي : فما تقول أنت يا "أبا ساعدة" ؟

تلعثم "أبو ساعدة" ثم قال : لا أعرف ... لا أعرف

قال القاضي : وما تقول أنت يا "أبا البنات السبع" ؟

قال "أبو البنات السبع" :

إنه لبن العصفور الذي طلبه أخي, وذاك شحم البعوض

فأعترض "أبو ساعدة" قائلا :

إنّ ما يقوله "أبو البنات السبع" غير صحيح. فلا شحم للبعوض, ولا لبن للعصفور

فوثب الصيادون و هتفوا : إنَّه شحم البعوض .. إنَّه شحم البعوض

فخاف "أبا ساعدة" و أنصاره, و اندحروا

فقال القاضي : لقد أخزاك الله أيها المغرور وفرّج كربة هذا الرجل الكريم

والآن. قل يا "أبا البنات السبع" : بماذا تُحب أن نعاقب هذا المغرور القاسي ؟

قال "أبو البنات السبع" : أطلب ...

يتبع ...

إن شاء الله

حكاية في رواية

كتبها / ناجى جوهر

سلطنة عمان

السعدية
15-02-2013, 01:04 AM
ما شا الله عليك يا ناجي شكرا لك وربي يعطيك الف عافيه"
قصه جميله جدا ومجهود كبير"شكرا"

ناجى جوهر
18-02-2013, 12:21 AM
حكاية شعبية
أبو البنات السبع
الجزء الثالث
قال الصيّاد :
أريد حمارا يحملني ويحمل أمتعتي
و أريد قاربا واسعا, و أريد كُسوة لبناتي
فأمر القاضي أبا ساعدة بتلبية مطالب أخيه فورا دون تأخير
حينئذ شعرالتاجر الطمَّاع بمرارة الخسران , وعاقبة الإستخفاف بالناس
ثم توجه إلى أبنائه يلومهم و يسُّبهم و يصفعهم ويلطمهم
فأمسك به الحاجب و النقباء, و أخرجوه من دار القضاء
وعندما أراد أبو النات السبع أن ينصرف, أستوقفه القاضي, وسأله :
قل لي يا بُني : ما حقيقة الشحم واللين, اللذين أحضرتهما ؟
قال الصياد : لست والله أعلم ماذا يكونان, و إنما كان ذلك من تدبير إبنتي سعدى
قال القاضي : بارك الله لك في بناتك, فإنّ البنت نعمة وهبة, وقُرَّة عين
وعرفوا فيما بعد أنّ ذلك الجريش واللبن, إنَّما يستخرجان من ثمار شجرة
باسقة تسمى شجرة جوز الهند "النارجيل"
أما الصياد وبناته فقد عادوا إلى كوخهم يحفُّ بهم الأهلُ والأصدِقاء
مباركين و مهنئين, و قد عمَّهم الفرحُ, وغَمَرَهُم السُروُر
وعلم الناس بما يضمُرَهُ أبو ساعِدة من بغض وكراهية وحسد لأخيه و بناته
فصار ممقوتا, بغيضا, يتحاشون مخالطته والتعامل معه
أمَّا هو فقال في نفسه : إنَّ هولاء الصيادين قد حَسَدوني, فهم يكرهونني
ولم يرعوى عن ظُلمه وغيّه, بل زاد عتوا ونفورا
وكان ديدنه كسر خاطر أخيه, و الحطّ من قدره, والقدح على بناته
فبعد مدة من تلك المناظرة, تدبَّرَ حيلة ماكرة, يدخل بها الحزن والغم
على أخيه وبناته السبع, وتمكنه من الإساءة اليهم, لشدّة’ حِقده عليهم
فهداه عقله السقيم الى خدعة دنيئة, وَجَدَ فيها خير وسيلة تحقق مرامه
فأستدعى أحد العيَّارين, وأختلى به, ثم قال له :
أُريدُ منكَ أن تسرق حمار أخي, ثم بِعه في إحدى القرى البعيدة
فإذا قبضت ثمنه فأتني بِهِ نقتسمه, والزم الكِتمان
في تلك اللحظة مر إبنه ساعِدة و سمع تآمُرَ أبيه مع العيَّار
و قال في نفسه : سوف أسرقُ أنا الحمار و آتي به إلى القصر
فإني إن فعلت ذلك أدخلتُ السرور على قلب أَبي , و رضي عني
ثم خرج مسرعا الى إخوته, و أعلمهم بمرامه. قائلا :
أحب أن أفاجئ أبي, فوافقوه على رايه, و أمتدحوا ذكائه و نجابته
وفي اليوم التالي ظهرا, وضع ساعِدة لثاما على وجهه و خرج يريد سرقة الحمار
ومر على مجموعة صبية من أبناء الصيادين, كانوا يلعبون في الحي
فلما رأوه عرفوه وأستوقفوه و أردوا ان يهزأو به, ويسخروا منه
لشّدةِ جَهلِه وغبائه, وما اشتهر عنه من يلادة وحمق
فقال له أحدهم, وهو يصطنع عدم معرفته : من أنت أيها الملثم ؟
قال ساعِدة وقد إنطلت عليه الحيلة : أنا رجل غريب ...
قال ولد آخر : و لماذا أنت ملثَّم هكذا ؟
قال ساعِدة : أَخشى أن تحرق الشمسُ وجهي ؟
قال الصبي الماكِر : لكنني أرى ملامح وجهك الأسود ...
عندها غضب ساعِدة و كشف اللثام عن وجهه, ورمى به أرضا
ثم صاح بالصبي : أُنظر إلى وجهي أيها الأعمى.أتراني أسودا ؟
فضحك الصبية بعد أن كشفوه, وأوقعوا به. ثم أنصرفوا
أما هو فأعاد وضع اللثام, وأخذ يتسلل كما يفعل العسس
فلما وصل إلى الكوخ, سمع بنات عمه يتحدثن ويضحكن, فخاف أن يكشِفنه
وبقي مُختبئا في الزريبة حتى دخل الليل, عندها ظهر له جِنيٌّ من أخوال سعدى
وقد تشكَّل على هيئة الحمار, وحين رآه ساعدة شعر بالرعب يملاء كيانه
وسرت قشعريرة غريبة في جسمه, وثقُل لسانه, وخارت قواه وزاع بصره
و أراد أن يصرخ فلم تخرج الكلمات من فمه, وحاول أن يهرب فلم تتحرك رجلاه
وظّل بصره معلقا على الحمار الذي كان يقترب منه رويدا رويدا ...
وفجأة فتح الحمار فمه و ...

يتبع إن شاء الله

ناجى جوهر

ضي
21-02-2013, 09:47 AM
أخي ناجي قصة جميلة ...
قلم رائع ...
تجعلنا نتأمل كل حرف هنا ...
راقي بفكرك أخي ناجي ...
كن مميزا ...
تقبل مروري هنا ...

ناجى جوهر
25-02-2013, 10:49 PM
حكاية شعبية


أبو البنات السبع


الجزء الرابع

أغمي على ساعدة, ولكنه سرعان ماأستفاق

إذ أنَّ الحمار كان يلعق وجهه بلسانه, فلمّا عاد إليه رُشده

وزال خوفه, رأى أنَّ الحمار مطاوع له, فاقتاده إلى قصرأبيه

أما العيّار فإنه ذهب عند منتصف الليل ليسرق الحمار وعندما

فتح الزريبة ولم يجده عاد مُسرِعا إلى أبي ساعِدة وأبلغه

فداخلهما الفزع

وخافا أن يكون قد سمع مؤآمرتهما أحد وأبلغ الصياد

فباتا ليلة كئيبة وهما ينتظران رجال القاضي

أدخل ساعِدة و إخوته الحمار مع حمير و بغال أبيهم

ثم تَشَاوروا في أمره

فقال سعدون : أرى أن نصعد به غدا إلى غُرفة أبي

بعدان يستغرق في نومه ظهرا

وحين ينهض من قيلولته يجِد الحمار أمامه فيسُرمنا

و يعلم اننا رجالا ذوو حِنكةٍ و تدبير

فإبتهج إخوته لهذا الرأي الذي ظنَّوه سديدا

وعزموا و إتفقوا على تنفيذه

في صباح اليوم التالي

وعندما أراد أبا البنات السبع أن يخرُج للصيد كعادته

ذهب ليطعم الحِمار و يحمِّل عليه مؤنته

فوجد باب الزريبة مفتوحا و الحمار قد خرج

فظن أنّه خرج لوحده

وراح يبحث عنه في النواحي القريبة

حتى صار الوقت ضحى وفاته موعد الصيد

وحين لم يعثِر عليه أخذ يسأل كُل من يلتقي به و يقابله

و قد تملّكه الحز نُ وغلبت عليه مرارة خُسران قوت البنات

و بينما هو كذلك مر بِه أحد الصبية

الذين كانوا يعبثون مع ساعدة

فسأله و قد رآه حزينا : مابك ياعم ؟

فأخبره بضياع حِماره

قال الصبي : بالأمس وعندما كِنا نلعب

مر علينا إبن أخيك ساعِدة و كان مُلثما

و هو يمشي بإتجّاه كوخكم مشية مُريبة

فربما يكون قد شاهد الحمار

أسرع أبو البنات السبع إلى قصر أخيه و هو يُمنّي النفس

بسماع إجابة شافية من فم إبن أخيه

أو أن يُساعده في البحث عن الحمار

وحين وصل إلى باب القصر طلب من أحد الخدم

أن يستدعي ساعِدة

و الذي همّ بالخروج إلى عمه و هو خائف

من أن يكون قد كشف أمره

فاستوقفته أمه الجالسة على الدرج المشرفة على قاعة الضيوف

وسألته : إلى أين أنت ذاهب ؟

قال ساعِدة : إلى عمي أبي البنات السبع

سألت أمه : أين هو؟

وماذ ايُريد ؟

قال : إنه على الباب قد أضاع حِماره

و هو يتهمُني بسرقته.

كانت أم ساعِدة إمرأة جسيمة بدينة مُتسلِّطة

مع شراسة في أخلاقها و بذائة في لسان


ولها ولع شديد بأبنائها

ففي نظرِها هم أذكاء من إياس و أشجع من كُليب

و أجود من حاتم و أفقه من سُفيان و أنبل من عروة

فتُدللهم وتُنعِّمهم و تتساهل في تقويمهم

بل إنها تخالهم أشبه بالملائكة الكرام

فلا يُخطئون و لا يزِلّون

وعندما سمعت مقالة إبنها بشأن عمه

أخذتها العِزة بالإثم

فأرغت وأزبدت ثم هبطت كالصاعقة المرسلة

وقد شمَّرت عن ساعدها الغليظة, وإتّجهت صوب الصياد

ثّم وقفت خلف الباب وشرعت تكيلُ الشتائم و السباب

والقدح والذّم لأبي البنات السبع, و هو مذهول

لايدري علام تسبُّه تلك الشيطانة الرجيمة !!

ثم إنها صرخت في وجهه قائلة :

ماالذي جاء بِك إلى قصرنا أيها الفقير التعيس ؟

أجئت تستجدي قُوتا, أم جئت لتشفي غِلّك وحسدك؟

ردَّ الصيَّادُ مستهجنا فضاضة تلك المرأة :

إنما جئت لأسأل إ بن أخي إن كان قد رأى حماري

فقاطعته قائلة بوقاحة وغرور: يالك من نذل حقير

أتتّهمُ إبني الشهم النبيل بسرقة حمارك الغبي؟

يالجرأتك !!

يالوقاحتِك!!

ثم إستنفرت خدمها

وأمرتهم بإشباع الصياد ضربا و لكما.

فهب الناس الذاهبون والعائدون من السوق

والقاعدون على الطُرقات لنجدة الصياد المسكين

عندما سمعوه يستغيث ويستنجِد فخلّصوه

من أيدي الخدم و قد شارف على الهلاك

ثم حملوه إلى (الماريستان)

بينما أسرع بعضهم و أبلغ ا لقاضي بالحادثة

كان الوقت قد أوشك على موعد أذان الظهر

والمحكمة تكادت غلق أبوابها

فأمرالقاضي حاجبه بالذهاب الى الصياد قبل الصلاة

وأن يعرف منه ماحدث, ومن ثم يذهب إلى أبي ساعِدة

ويخبره بالأمر و يأمره بالمجىء إلى دارالقضاء بعد الصلاة

لعله يتصالح مع أخيه.

وصل الحاجب والنقباء إلى (الماريستان)

فوجدوا البنات السبع يندبن ويبكين بحزن ومرارة

وقد لبسنا السواد,وامتنعن عن الاكل والشرب

فرقّ الحاجب ومن معه لأولئك المساكين

ورثوا لحالهم المُتعثِّر

وبعد قليل من الوقت

أفاق الصياد من غيبوبته وهو يتأوه و يتألم

فقال له الحاجب : أخبِرنا يابُني

لماذا إعتدت عليك أم ساعِدة و خدمُها ؟

فأخبره, وهمهم الناس تأسُفا وشفقة

وهزالحاجِب رأسه تعجّبا !!

ثم أشهد الحضورعلى شكوى الصياد

وتوجه بعدها الى دا ر القضاء و أبلغ القاضي

بكل ما سمعه من فم الصياد

فأمره بِإستِدعاء أبي ساعِدة حالا

و عندما أقبل الحاجب و النقباء عليه و هو في متجرهِ

وعاينهم

إنخلع قلب أبي ساعِدة من مكانه وتشوّش خاطِره

وتملكه الخوف و الرُعب

وقد خالهم علموا بتدبيره مع العيا ر

وظل منكّس الرأس صامتا

مستسلما لمصيره ناويا على الإعتراف ...

يتبع

إن شاء الله

ناجى جوهر

نادية السعدي
26-02-2013, 12:28 AM
أخي ناجي قصة رائعة واسلوب جميل في السرد في اتظار البقية
تقبل مروري
كل التقدير

سالم الوشاحي
26-02-2013, 08:07 AM
أخي الغالي ناجي جوهر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سرد راقئ وطرح متميز بأسلوب

يتسم بالحبكه واللغه الجميله

أحييك ونحن من المتابعين لك أيها الأصيل

سجل إعجابي وتقديري العميق

ناجى جوهر
05-03-2013, 12:17 AM
حكاية شعبية
أبو البنات السبع
الجزء الخامس

ولما وصلوا إليه بادره الحاجب بالقول :

أما لك من سلطان على زوجتك يا رجل ؟

الا تخافان الله ؟ أهكذا تصل رحمك ؟

أهكذا تساعد أخاك ؟

فإنها قد فتكت بذلك الصياد المسكين أبا البنات السبع

و كادت تزهق روحه

فأحس أبو ساعِدة وكأنّ جبلا هائلا قد أُزيح عن كاهله

عندما سمع خطاب الحاجب
وعلم أن لا أحد قد فضح كيده, أو كشف تدبيره مع العيار
فتحجر قلبه ...
و أنسلخ من آدميته, وصار وحشا كاسرا
و رد بحزم وجبروت : إن زوجتي إمرأة راجحة العقل

وهي لن تتعرّض لذلك التعيس

أو لأحدٍ سواه بمكروه ما لم يسئ الأدب

أو يرتكِب أمرا قبيحا يغضبها

أو يستفز مقامها الكريم !!

فلما سمع الحاجب منه ذلك,الكلام قال غاضبا :

فإن القاضي ينتظرك
فذهب معهم معتدا بنفسه, تكاد عنقه تندقُّ من فرط

الشموخ الزائف
وتنادى أخوال ساعِدة وعُصبتهم, وتوجهوا إلى دار القضاء

وقد كثُر لغطهم

لم يكن أبو ساعِدة يعلم أن الحمار موجودٌ في غُرفته

بل وفي خزانة ملابسه

عندما أسمعه القاضي شكوى الصياد فثار غضِبه

و إشتد سُخطه على أخيه
فهاج وماج, وأرغى وأزبد, وعلا صوته

و إرتفع صراخه وضجيجه

فسمعه الناس خارج دار القضاء, فأيقظ فضولهم

فقدموا مسرعين

وسمعوه يقول :

إنك غير منصف أيها القاضي, تتهِمُ ابني بالسرقة

و ليس بيدك دليل ولا برهان

قال القاضي :
لا أحد يتهِم إبنك, كل ما في الأمر أن أخاك أراد أن يسأله
إن كان قد رأى حماره, ولكن زوجتك ,وخدمك

عاجلوه بالشتم والضرب

فهل تنكر أنَّ إبنك ساعِدة قد رأى حِمارِ عمه ؟
رد أبو ساعِدة ردا قبيحا, فقال :
بل أقسم على ذلك, وإن شئت أيها القاض

فإبعث رجالك ليفتِّشوا عن الحِمار بين حميري وبغالي
ذهبت رُسل القاضي, وفتشوا زريبة أبي ساعِدة

فلم يعثروا على الحمار

إذ أن ساعدة وإخوته كانوا قد أصعدوه إلى غرفة أبيهم

وأغلقوا عليه في خزانة ملابسه
ليفاجئوا أباهم مفاجأة سارة, عندما ينهض من قيلولته
كما يتمنون !!!
وعند ما عادت الرسل, ولم يجدوا الحِمار, قال القاضي :

برِئت ساحة إبنك من رؤية الحمار
ولكن ماذا عن إعتداء زوجتك, وفعلها بأخيك ؟

وضرب خدمك المبرح له ؟
قال أبو ساعِدة :

إنه قد تجرأ على إتهام إبني الهمام بما ليس فيه

وأساء إلى سمعته الطاهرة بهذه الأكاذيب

ورماه بالسرقة زورا وبُهتانا
فهو يستحق أن تُضرب عنقه, لا أن يجلد !!!
فسكت القاضي, وهو مذهول

ثم إنه رفع الجلسة لأداءِ صلاة الظُهرِ

وأنصرف الناس
خرج أبو ساعِدة من دار القضاء نشوانا جذلا

قد غمرته الفرحة وطغى عليه السرور
فلقد تحقق له مراده, في حِرمان أخيه و يناتَه من الإنتفاع بالحمار
وأعتقد أنه حققَ نصرا تايخيا مُؤزّرا, وأنه لن تقوم لهم قائمة

وأيقن أن مؤامرته الدنيئة مع العيار لن تُكشف

فزاده هذا الظن بِطرا وغُرورا
ولم يسأل نفسه عن مصير الحمار
فلما دخل قصره نادى بأعلى صوته : يا أم ساعِدة أقبِلي ...
فأتته مُتثاقِلة, مقطّبة الجبين, عابِسة الوجه, مُتجهِّمة

فلمّا رأى منظرها فزع وأرتاع ولكنه تماسك وتضاحك
وقال لها مُمتدحا :

أحسنت صنعا أيتها الأصيلة
لا عدمتُك, هكذا تصنع الحرة, وهكذا تكون الأمهات ...

لقد لقّنتي ذاك السفيه درسا لن ينساه

ولن يجرؤ بعدها على النيل من سمعتنا

ولن يكون بمقدور بناته السبع التافهات أن تقف

لِتناظر فتيتنا السبعة النُجباء
قالت أم ساعِدة ساخِرة :
يا لك من رجلٍ مهين, أتكتفي بعقوبتي له ؟
إذهب إليه أنت بنفسك الآن,
وقم بتأديبه بكل قسوة وغِلظة, لكي لا يعود لمثلها أبدا
قال أبو ساعِدة مُرتجِفا : سمعا وطاعة

ولكن أولئك الصيادون التُعساء
قد خرجوا للتو من صلاة الظهر, وهم مجتمعون أمام

(الماريستان)
وأخشى إن أنا عرضت له, أن يفتكوا بي ...
أعرضت عنه أم ساعِدة وهي ساخطة, تسُب وتلعِن ...
أما هو فقد صعد إلى غرفته, مُبتهج بالنصر المؤزر

الذي حققه على أخيه

الفقير المُعدم المسكين و بناته السبع اليتامى

ولم يتخيَّل أن الحمار في غرفته

فألقى بِجثته الضخمة على السرير وهو متخم

بعد أن التهم الكثير من الطعام
بينما حَرَمَ بناتَ أخيه من القوتِ في ذلك اليوم ...
إذ أن أباهن راقد في (الماريستان)
يثئن من وطئة الألم, كسير الخاطر, حزين, مُهُموم
كان أبو ساعِدة مُثقلا, وقد أرهقه إستجواب القاضي

و نكّد خاطره ذم زوجته
فأراد أن ينال قِسطا من الراحة, وما إن وضع رأسه
حتى غط في النوم.
فنامَ نومة أهل الكهف, وحين أستيقظ وجد نفسه

مُتأخِرا عن السوق
وقد ولى وقت العصر, وفاته مجلس القوم

فاراد أن يرتدي ملابسا فخمة
تُظهر سطوته و جبروته, فأندفع نحو الخزانة

وأمسك بالمغلاق يرزعه

وما إن أحس الحمار بحركة الباب حتى ...



يتبع



إن شاء الله



ناجى جوهر

رحيق الكلمات
06-03-2013, 12:33 PM
أهلا
بمبدعنا
الأخ
ناجي
سردك
مشوق
ونقاط
التوقف
زادت
من
لهفتنا
لتكمل
لنا بقية
الحكاية

نحن
في الإنتظار

فلا تذهب
بعيدا

ناجى جوهر
11-03-2013, 11:51 PM
حكاية شعبية
أبو البنات السبع
الجزء السادس
وما إن أحس الحمار بحركة الباب حتى رفس رفسة مهولة بكلتا قدميه
وخرج يهرول مذعورا, وقد تلبَّسه الجن, وهو ينهق نهيقا مُنكرا متواصلا
فلقد حبسه ساعِدة وإخوته الأغبياء في مكان ضيق, يقلُّ فيه الهواء
و كاد يموت مختنقا, لهذا خرج وقد أفسد الخزانة ببوله وروثه و قذارته
ووقع أبو ساعِدة على قفاه مُغشيا عليه, وسمِع الناس نهيق الحمار المتواصل
ولكنهم لا يدرون من أين يأتي؟ ثم رآه أحدُهم في غرفة أبي ساعِدة
فتجمّعوا تحت القصر وتزايدت أعدادهم, وهم يتسآلون عما يجري ويدور
وبينما هم كذلك, جاء أحد الصيادين وعرف الحِمار, فصاح بأعلى صوته :
ذاك حِمارُ أبي البنات السبع فهتف الناس :
حِمارُ أبي البنات السبع ... حِمارُ أبي البنات السبع
وأرتفعت أصواتهم, وعلا ضجيجهم, حتى وصل إلى مسمع القاضي
الذي كان مُنتظما في حلقة ذُكر في المسجد, فأرسل من يأتيه بالنباء اليقين
أمّا أبو ساعِدة فما لبث أن إستعاد وعيه, ولكنه كان غير مُستوعب بعد ما
حدث له قبل قليل, و ما زال بصرهُ زائغ, وعقله مُشوِش, وجِسمه يؤلِمُه
وحين عادت إليه نفسه, نظر حوله فشاهد الحِمار واقفا على سريره متحديا
وهو يلتهِمُ فِراشه بنهم, فأذهلهِ وجود ذلك الحيوان في غُرفته, وتبادرت إلى ذِهنِه
أسئلة كثيرة حائرة, ولم يهتدي إلى حُسنِ التصرف, فثار على رِجليه ساخطا ناقما
وصمم على إخراج الحمار من غُرفته بالقُوة, لكّن الحمار نهق مُجدد وأخذ يعدو
ويرفُس بفعل تلبُّس الجن أخوال سعدى, و أبو ساعِدة يطارده من رُكن إلى رُكن
والناس أسفل القصر يتفرِّجون عليهما, وقد زادت نقمتهم و سُخطهم على أبي ساعِدة
وأخذوا يسخِرون من دنائته, وخُبثِه ولؤمه, وشراهة نفسه ...
وهو لم ينتبِه لوجودهم, و لِم يلحظ حُضورهم
كان الحمِار في حالة ذُعر شديد, و أبو ساعِدة في حالة سخط بالغ
فتعقد الوضع, لم يهتدي الحمار إلى الباب ويخُرج, لان الجن كانت تفزعه وتنخسه
ولم يهدأ الرجل ويُخرِجه بالحيلة, فظلا على ذلك زمن كاف لأن يراهما القاصي والداني
وتنادى الصبية, والنساء, والغوغائيون, للفرجة على أبي ساعِدة و هو يُصارع الحمار
وعندما تعِب وخارت قواه, توقّف ليلتقِط أنفاسه, فسمع صيحات الناس وهتافاتهم
وحين أطلّ من نافِذته, شاهد بعيني رأسه الجموع الكثيفة, من الرِجال والنِساء
والصبية, وحتى خادِمه ياقوت وهم يشيرون إليه بأصابِعهم في غضبٍ و إزدراء
ويصيحون بِه, فأرتاع, وسال عرقه خوفا وخجلا وأرتبك إرتباكا شنيعا
وصار في موقف حرِج, أمام الناس جمعيا, فجلس يعضُّ أصابع الندم
وبعد ساعة خرج الحِمارُ من الغرفة, وقد أحدث فيها, ورفس أبا ساعِدة أكثر من مرّة
عندئذ سارع وأغلق النافِذة, ثم جلس مقهورا, مخذولا, لا يدري كيف البصر ؟
ثم تحامل على نفسه, ووقف على باب غُرفته متميزا من الغيظ, ونادى خادِمه
فلما جاء, سأله : من أدخل الحمارا إلى غرفتي يا ياقوت ؟
كتم الخادم تهكّمُه ورد قائلا : لست أدري يا سيدي
قال أبو ساعِدة : فأين كنت يا ياقوت, الست مؤتمنا على قصري؟
والله لئن لم تدُلني على من فعل هذا بي, لأعاقِبنك عِقابا مؤلِما
خرج ياقوت مرتعبا من الخوف, وعرّج على الخدم يسألهم
فقال له أحدهم, إنه رأ ى ساعدة وإخوته وهم صاعدون بالحِمار ظهرا
فعاد سريعا إلى سيده, وأخبره, فقال له : أدعهم إليّ حالا
كان الخادم يعلم أن ساعِدة و إخوته, ما فتئوا يُطِّبِلون و يرقصون في غرفتهم
بينما كان أبوهم يصارع الحمار, ولم يعلموا بما حدث له, فلذلك توجّه إليهم
و قال لهم مبديا سرورا مصطنعا : إن سيدي ينتظِركم في غُرفته
وما إن سمعوا ذلك حتى ألقوا ما في أيديهم
وتسابقوا إليه ركضا وهم يظُنون أنه سُيكافئهم على ما فعلوا
كتم أبو ساعِدة غيظه وسأل أولاده : من مِنكم أدخل الحِمار إلى غُرفتي ؟
فصاحوا جميعا : أنا ... أنا ... أنا ...
فوقف أبوهم منتصبا, وقد إشتدَّ غضبه, وصاح بهم :
صهٍ ... أيها الحَمقى ... ثكِلَتكم أمكم
أنظروا إلى ما فعله ذلك الحمار اللعين بي. أنظروا إلى ما أحدثه في غرفتي
ثم علا صوته, وزاد صُراخه, فسمعته أم ساعِدة وصعدت إليه لتنظر ماذا دهاه
فوجدته قد حاصر أبنائها في ركن الغُرفة وقد زاغت أبصارهم, و أرتجفت قلوبهم
و أنسكبت عبراتهم, وتلعثمت السنتهم خوفا ورُعبا
فهالها ما رأت, وأشتدّ سخطها عليه, فصاحت به صيحة منكرة :
ماذا دهاك يا أبا ساعِدة ؟
فلمّا سَمِع صوتِها خاف وجَبُن, وقال لها متضاحِكا :
هَدَاكِ الله يا أم ساعِدة أُنظُري إلى ما فعلوه, لقد أدخلوا حِمارا إلى غِرفتي
ولمّا أردت إخراجه من غُرفتي, أخذ ينهُقُ بشدة, فأقبل أولئك
الصيادون الفضوليون, ووقفوا تحت نافِذتي, يتفرّجون عليه وهو يرفُسني
فماذا أفعل مع أبنائك المغفلين ؟
قالت غاضِبة : إنّما المُغفِلُ أنت ,و إلاّ لكنت شكرتهم, وقبّلتَ أيدِيهِم !!!
لأنهم إنما أرادوا أن يُعيدوا إليك ما هو لك, أيها الجاحِد !!
ثم خرجت مع أبنائها, تاركين أبا ساعِدة لوحده, يبكي كمدا
وفي المساءِ خرجَ يُريدُ المجيء إلى أصدِقائه التُجار, فلمّا رآه الصِبيةُ,أخذوا يجرون ورأئه
وهم يُنشِدون :
يا سارق الحِمار ... فضحوك بالنهار
فخجِل حِين سمعهم, وعاد أدراجه, قبل أن يزيد عددهم, وجلس وحيدا في بُستانه
يسترجِع الأحداث, وبداء ضميرُهُ يستيقِظ, فأخذ يُعاتِبُ نفسَه
ويلُومَها على ما فعله مع أخيه المِسكين, الذي حَرَمَهُ من حَقِّه في مِيراث أبيهما
وجاهرهُ بالعداوةِ, وأبطن له الحِقد والبَغضاء. وأخذ على نفسِهِ الإنتقاص من شأنه
في مجالسه ومسامِره. وتركه يُكابِد ويُعاني من الفقر المُدقع, ومن شظف العيش
وهو يُعيلُ بناتٍ سبع, وليس لهُ ولد , يُعينه, ويُؤآزِرُه
فأصبح لهنّ الأبَ والأمّ بعد وفاةِ أمَّهُنّ
إنحدَرَت دمعتان من مقلتية, وأدركته الرأفة والشفَقة, وأراد أخذ نفسه على الحقّ
وقهر ما خالط روحِه من بُغضٍ وكراهِية, وحَسَد, وعَزَمَ على إِنصاف أخيه وبناته السبع
لكن هذه الرِقة واللِين وهذا العَطف, لم يلقيا إستِحسانا من نفسه. لأنها خبيثة بِطبعِها
فنازعته أهواؤها, وغلَبته شهواتُها, وقالت لهُ زاجِره :
يالك من أبلهٍ, لماذا ترحم ذاك الفقير ؟!
ولماذا تحنو على بناتِهِ البائسات ؟!
إنه لا يقوى على فعل شيء يضُرَّك أو شيء ينفَعُك
فأنت لك المالُ, ولا مال له
ولك البنين وله البنات
تسكُن قصرا, ويسكُنُ كُوخا, يتودد إليك الأغنياء, ويُحبه الفُقراء !
دعهُ لبؤسِهِ وفقرِه, ولا تغم نفسك بِذِكره, وعِش حياتك كما تُحِب
فإقتنع أبو ساعِدة بهذا المنطق القبيح, ومحى من وِجدانه كلِ آثار الرحمة
وأستبدلها بخِصام فاجِر, وبمُقت فاحِش, ثم هَرَع إلى زوجتِه اللئيمة
يستوحي منها أخبث المكائد

يتبع إن شاء الله
حكاية في رواية

رحيق الكلمات
13-03-2013, 09:04 AM
حكاية شعبية
أبو البنات السبع
الجزء السادس
وما إن أحس الحمار بحركة الباب حتى رفس رفسة مهولة بكلتا قدميه
وخرج يهرول مذعورا, وقد تلبَّسه الجن, وهو ينهق نهيقا مُنكرا متواصلا
فلقد حبسه ساعِدة وإخوته الأغبياء في مكان ضيق, يقلُّ فيه الهواء
و كاد يموت مختنقا, لهذا خرج وقد أفسد الخزانة ببوله وروثه و قذارته
ووقع أبو ساعِدة على قفاه مُغشيا عليه, وسمِع الناس نهيق الحمار المتواصل
ولكنهم لا يدرون من أين يأتي؟ ثم رآه أحدُهم في غرفة أبي ساعِدة
فتجمّعوا تحت القصر وتزايدت أعدادهم, وهم يتسآلون عما يجري ويدور
وبينما هم كذلك, جاء أحد الصيادين وعرف الحِمار, فصاح بأعلى صوته :
ذاك حِمارُ أبي البنات السبع فهتف الناس :
حِمارُ أبي البنات السبع ... حِمارُ أبي البنات السبع
وأرتفعت أصواتهم, وعلا ضجيجهم, حتى وصل إلى مسمع القاضي
الذي كان مُنتظما في حلقة ذُكر في المسجد, فأرسل من يأتيه بالنباء اليقين
أمّا أبو ساعِدة فما لبث أن إستعاد وعيه, ولكنه كان غير مُستوعب بعد ما
حدث له قبل قليل, و ما زال بصرهُ زائغ, وعقله مُشوِش, وجِسمه يؤلِمُه
وحين عادت إليه نفسه, نظر حوله فشاهد الحِمار واقفا على سريره متحديا
وهو يلتهِمُ فِراشه بنهم, فأذهلهِ وجود ذلك الحيوان في غُرفته, وتبادرت إلى ذِهنِه
أسئلة كثيرة حائرة, ولم يهتدي إلى حُسنِ التصرف, فثار على رِجليه ساخطا ناقما
وصمم على إخراج الحمار من غُرفته بالقُوة, لكّن الحمار نهق مُجدد وأخذ يعدو
ويرفُس بفعل تلبُّس الجن أخوال سعدى, و أبو ساعِدة يطارده من رُكن إلى رُكن
والناس أسفل القصر يتفرِّجون عليهما, وقد زادت نقمتهم و سُخطهم على أبي ساعِدة
وأخذوا يسخِرون من دنائته, وخُبثِه ولؤمه, وشراهة نفسه ...
وهو لم ينتبِه لوجودهم, و لِم يلحظ حُضورهم
كان الحمِار في حالة ذُعر شديد, و أبو ساعِدة في حالة سخط بالغ
فتعقد الوضع, لم يهتدي الحمار إلى الباب ويخُرج, لان الجن كانت تفزعه وتنخسه
ولم يهدأ الرجل ويُخرِجه بالحيلة, فظلا على ذلك زمن كاف لأن يراهما القاصي والداني
وتنادى الصبية, والنساء, والغوغائيون, للفرجة على أبي ساعِدة و هو يُصارع الحمار
وعندما تعِب وخارت قواه, توقّف ليلتقِط أنفاسه, فسمع صيحات الناس وهتافاتهم
وحين أطلّ من نافِذته, شاهد بعيني رأسه الجموع الكثيفة, من الرِجال والنِساء
والصبية, وحتى خادِمه ياقوت وهم يشيرون إليه بأصابِعهم في غضبٍ و إزدراء
ويصيحون بِه, فأرتاع, وسال عرقه خوفا وخجلا وأرتبك إرتباكا شنيعا
وصار في موقف حرِج, أمام الناس جمعيا, فجلس يعضُّ أصابع الندم
وبعد ساعة خرج الحِمارُ من الغرفة, وقد أحدث فيها, ورفس أبا ساعِدة أكثر من مرّة
عندئذ سارع وأغلق النافِذة, ثم جلس مقهورا, مخذولا, لا يدري كيف البصر ؟
ثم تحامل على نفسه, ووقف على باب غُرفته متميزا من الغيظ, ونادى خادِمه
فلما جاء, سأله : من أدخل الحمارا إلى غرفتي يا ياقوت ؟
كتم الخادم تهكّمُه ورد قائلا : لست أدري يا سيدي
قال أبو ساعِدة : فأين كنت يا ياقوت, الست مؤتمنا على قصري؟
والله لئن لم تدُلني على من فعل هذا بي, لأعاقِبنك عِقابا مؤلِما
خرج ياقوت مرتعبا من الخوف, وعرّج على الخدم يسألهم
فقال له أحدهم, إنه رأ ى ساعدة وإخوته وهم صاعدون بالحِمار ظهرا
فعاد سريعا إلى سيده, وأخبره, فقال له : أدعهم إليّ حالا
كان الخادم يعلم أن ساعِدة و إخوته, ما فتئوا يُطِّبِلون و يرقصون في غرفتهم
بينما كان أبوهم يصارع الحمار, ولم يعلموا بما حدث له, فلذلك توجّه إليهم
و قال لهم مبديا سرورا مصطنعا : إن سيدي ينتظِركم في غُرفته
وما إن سمعوا ذلك حتى ألقوا ما في أيديهم
وتسابقوا إليه ركضا وهم يظُنون أنه سُيكافئهم على ما فعلوا
كتم أبو ساعِدة غيظه وسأل أولاده : من مِنكم أدخل الحِمار إلى غُرفتي ؟
فصاحوا جميعا : أنا ... أنا ... أنا ...
فوقف أبوهم منتصبا, وقد إشتدَّ غضبه, وصاح بهم :
صهٍ ... أيها الحَمقى ... ثكِلَتكم أمكم
أنظروا إلى ما فعله ذلك الحمار اللعين بي. أنظروا إلى ما أحدثه في غرفتي
ثم علا صوته, وزاد صُراخه, فسمعته أم ساعِدة وصعدت إليه لتنظر ماذا دهاه
فوجدته قد حاصر أبنائها في ركن الغُرفة وقد زاغت أبصارهم, و أرتجفت قلوبهم
و أنسكبت عبراتهم, وتلعثمت السنتهم خوفا ورُعبا
فهالها ما رأت, وأشتدّ سخطها عليه, فصاحت به صيحة منكرة :
ماذا دهاك يا أبا ساعِدة ؟
فلمّا سَمِع صوتِها خاف وجَبُن, وقال لها متضاحِكا :
هَدَاكِ الله يا أم ساعِدة أُنظُري إلى ما فعلوه, لقد أدخلوا حِمارا إلى غِرفتي
ولمّا أردت إخراجه من غُرفتي, أخذ ينهُقُ بشدة, فأقبل أولئك
الصيادون الفضوليون, ووقفوا تحت نافِذتي, يتفرّجون عليه وهو يرفُسني
فماذا أفعل مع أبنائك المغفلين ؟
قالت غاضِبة : إنّما المُغفِلُ أنت ,و إلاّ لكنت شكرتهم, وقبّلتَ أيدِيهِم !!!
لأنهم إنما أرادوا أن يُعيدوا إليك ما هو لك, أيها الجاحِد !!
ثم خرجت مع أبنائها, تاركين أبا ساعِدة لوحده, يبكي كمدا
وفي المساءِ خرجَ يُريدُ المجيء إلى أصدِقائه التُجار, فلمّا رآه الصِبيةُ,أخذوا يجرون ورأئه
وهم يُنشِدون :
يا سارق الحِمار ... فضحوك بالنهار
فخجِل حِين سمعهم, وعاد أدراجه, قبل أن يزيد عددهم, وجلس وحيدا في بُستانه
يسترجِع الأحداث, وبداء ضميرُهُ يستيقِظ, فأخذ يُعاتِبُ نفسَه
ويلُومَها على ما فعله مع أخيه المِسكين, الذي حَرَمَهُ من حَقِّه في مِيراث أبيهما
وجاهرهُ بالعداوةِ, وأبطن له الحِقد والبَغضاء. وأخذ على نفسِهِ الإنتقاص من شأنه
في مجالسه ومسامِره. وتركه يُكابِد ويُعاني من الفقر المُدقع, ومن شظف العيش
وهو يُعيلُ بناتٍ سبع, وليس لهُ ولد , يُعينه, ويُؤآزِرُه
فأصبح لهنّ الأبَ والأمّ بعد وفاةِ أمَّهُنّ
إنحدَرَت دمعتان من مقلتية, وأدركته الرأفة والشفَقة, وأراد أخذ نفسه على الحقّ
وقهر ما خالط روحِه من بُغضٍ وكراهِية, وحَسَد, وعَزَمَ على إِنصاف أخيه وبناته السبع
لكن هذه الرِقة واللِين وهذا العَطف, لم يلقيا إستِحسانا من نفسه. لأنها خبيثة بِطبعِها
فنازعته أهواؤها, وغلَبته شهواتُها, وقالت لهُ زاجِره :
يالك من أبلهٍ, لماذا ترحم ذاك الفقير ؟!
ولماذا تحنو على بناتِهِ البائسات ؟!
إنه لا يقوى على فعل شيء يضُرَّك أو شيء ينفَعُك
فأنت لك المالُ, ولا مال له
ولك البنين وله البنات
تسكُن قصرا, ويسكُنُ كُوخا, يتودد إليك الأغنياء, ويُحبه الفُقراء !
دعهُ لبؤسِهِ وفقرِه, ولا تغم نفسك بِذِكره, وعِش حياتك كما تُحِب
فإقتنع أبو ساعِدة بهذا المنطق القبيح, ومحى من وِجدانه كلِ آثار الرحمة
وأستبدلها بخِصام فاجِر, وبمُقت فاحِش, ثم هَرَع إلى زوجتِه اللئيمة
يستوحي منها أخبث المكائد

يتبع إن شاء الله
حكاية في رواية

تتناغم حروفك مع جمال سردك وتتابع عنصر التشويق بمهارة فائقة
استوقفني
كثيرا حديث النفس لابو ساعده
فالتركيز هنا ممتاز
فالنفس البشرية حين يسكنها الخبث
يصبح صوت الضمير ضعيفا مهما حاول
تحيتي لك

ناجى جوهر
13-03-2013, 10:49 PM
السلام عليكم
أسعد الله أوقاتك أختي الكريمة
أشكرك على هذه الملاحظات الثمينة
وهذا ما نحتاج إليه لكي نتمكّن من إنتاج ما يسعدنا جميعا
فلا تبخلوا على بالتوجيه و الإرشاد رجاء
وتقبّلى تحياتي

ناجى جوهر
18-03-2013, 10:57 PM
أبو البنات السبع
الجزء السابع
أمّا أبو البنات السبع فإنّه وبعدِ إِنصراف الناسُ الذين زاروه في(الماريستان)
إختلى ببناته, وشرع يعتذِرُ إليهن عن تقصيرِهِ, وعجزِهِ عن توفير مؤنتهن
ولام نفسه على التوجه إلى إبن أخيه وسؤاله عن الحمار
لكنَّ البنات جعلن يُطّيِّبن خاطره, ويُهدّين من روعه, و يُطمأننه
فسألهن في قلق : وكيف تدبّرتن معيشتكن في غِيابي ؟
فأخبرهن بأنهن كنَّ يبعن ثوب إحداهن كل يوم, ويشترين بثمنه قوتا
فبكى سُرورا, حين علم أن بناته لم يسألن أحدا, وسجد سجدة شُكرٍ لله
شاهد رُسل القاضي صراع أبي ساعِدة مع الحمار, وسمعوا أقوال الناس
فنقلوا كل ذلك إلى أذنِ القاضي, بعد أن أشهدوا الشهود ...
فقال القاضي : إنّ غداً لِناظِره قريب ...
ولسوف يُشفى الصياد إن شاء الله, وحينها سوف أنصِفه, وأرد إليه كرامته وحقّه
بقي الصياد في(الماريستان) أربعة أيام, وفي اليوم الخامِس عصرا, غادره
وقد حفّ به أصدقاؤه الصيادون, وعندما صاروا على مدخل الحيِ
إستقبلتهم بناته, ونِساء الجيران بالتكبير و وبالزغاريد فسمِع الناس الهتافات
وأتوا مُهنئين على السلامة, ولما كثُرَ عدد الرِجال عملوا (مزفّا) وزفوه إلى كُوخِه
فوصلت أصوات الناس في (المزفّ) إلى مسمع القاضي, ولمَّا علِم
أنّ أبا البنات السبع قد غادر(الماريستان) وأمسى في كوخه ذهب إليه
مع مجموعة من وُجهاء البلد, وهنأوه على السلامة
ثم تلا القاضي : { وقُل جاءَ الحقُّ وزَهَقَ الباطلُ إنَّ الباطلَ كانَ زهُوقا }
(الإسراء81)
و وعدوه بالإقتصاص و الإنتصاف من أم ساعِدة و من خدمِها المُتوحِّشون
في تلك الأثناء كان أبو ساعِدة قاعِدا في السُوق مع أصدِقاء له من التُجّار
وعندما بلغه ما يفعلُه الصيادون من الإحتِفاء بأخيه أراد أن يحُطّ من قدرِه
وأن يُحرِّض الناس عليه, لكنهم فارقوه, وذهبوا لتحية الصياد
والتسليم عليه فبقي أبو ساعِدة لوحده, وقد ثار غضبِهِ, وزاد غمُّه
فأخذ يصفع وجه نفسه من شِدّة الغيظ
في صبيحة اليوم التالي, أرسل القاضي من يسأل أبا البنات السبع إن كان
قادِرا على الحضور إلى دارِ القضاء, لمُواجهة غُرمائه
فأتى وقد أمسكه رجُلين من أصدِقائه الصيادين, كل واحد منهما يمسِكُه من عضِد
حتى أجلساه أمام القاضي, ورافقتهم بناته وهُنّ قلُقات خائفات, والحُزن يعتصِر أفئدتهن
وحضر الصيادون, لمناصرته, وكذلك حضر الصِبيان الذين عبثوا مع ساعِدة ...
وكان القاضي قد بعث حاجِبه, ومعه عددُ من رجال الشُرط والنقباء
إلى قصر أبي ساعِدة وأمرهم بِإحضاره مع زوجته وإبنهما ساعدة والخدم
عندما وصل الحاجب إلى قصرهم, وأبلغهم بأمر القاضي
رفضت أم ساعِدة المجىء, وعلا صوتها على رِجال القضاء, وأسأت الأدب
فقال لها الحاجِب مهدِّدا : في هذه الحالة يُحبس إبنك ساعِدة لِوحده حتى تنصاعين
و تأتين للإدلاء بشهادتكِ, فإن كان الحُكمُ عليكِ ضوعفت مِدة حبسِ إبنك
وحُبِستِ أنت أيضا مُدة طوِيلة
فأصابها الهلع, لأن زوال الدُنيا أهونُ عندها من حبسِ ساعِدة
فوثبت من جلستها, وهُرِعت إلى إبنها, وأحتضِنته وهي تبكي بحُرقةٍ ومرارة
ثم صرخت في وجه زوجها المرتجف خوفا قائلة :
إنهض أيها البدين, قبل أن يغتاظ منَّا ذلك القاضي التعيس, فيحبِسنا
ثم قدِموا إلى دار القضاء, يحُّف بهم الخدم والحشم, والناس ترمقهم
بأعين ملئها الكراهة , والإحتقار, بسبب جورهم وظُلمهم و شدة غرورهم
ولمّا أخذ أبو ساعِدة مكانه, إستدعى الحاجِبُ أبا البنات السبع
بأمر من القاضي, ولما وقف أمامه, قال له :
إبشِر يا بُني, فإن الله قد أظهر حقك, وفضح غريمَكَ !!
وكَشَفَ سِره, وردّ كيدَهُ إلى نحره ...
لم يفهم الصياد مقصد القاضي, لكنه إبتسم راضيا
ثم إن القاضي أشار إليه بالجلوس, وأمر بإستدعاء أبا ساعِدة
فلمّا مثل بين يديه, قال له : أما زِلت تنكر رؤية إبنك للحمار؟
فردَّ مُتذاكيا : كلا أيها القاضي الفضيل, لا أنكر أن ولدي
الشهم ساعِدة شاهد حِمار عمِه بين حميرنا وبِغالنا
قال القاضي مُتسآئلا : وكيف أصبح الحمار بين حُمِرِكم وبِغَالِكُم ؟
سكت أبو ساعِدة قليلا, ثم قال مُستدرِكا : إنّ هذا ما يُحيِرُنا يا سيدي
فلعله قد حنّ إلى رفاقه ...
قاطعه القاضي قائلا : أو ربما
جاء ليطمئنّ عليك ... فعجّ المجلس بِضحك وتهكُمِهِم الناس
بينما صمت أبو ساعِدة مخذولا
فقال له القاضي : أفتنكِر أنّ ساعِدة قد سرق حمار عمّه ؟
قال أبو ساعِدة : نعم أنكر, بل وأقسم أنه لم يسرق حمار عمّه
فقال له القاضي : عد إلى مكانك, وسوف نرى
ثم جاء الدور على أم ساعِدة , فسألها القاضي من وراء الحِجابِ قائلا :
ما شأنكِ يا أم ساعِدة وقد كِدتِ تقتلين نفسا بغير ذنب ؟
سكتت أم ساعِدة وقد تملكها الخوف, حين شعرت بعِظم جُرمها
فأستطرد القاضي : ألك حُجة تنفي بها تهمة الشروع في القتل عنك ؟
فلمّا سمِعت كلام القاضي, زاد خوفها, وأرتعشت أطرُافها, وإختلّ
توازُنها, ثُمَّ سقطت على الأرض, مغشِيا عليها, فسكت عنها القاضي
و تركها, و إستدعى إبنها ساعِدة
فلمّا مثُل بين يديه سأله :
لماذا كنت تضع لُثاما على وجهِكَ, عندما التقاك هولاء الصبية ؟
وأشار القاضي إلى الصبية
لم يحُر ساعِدة جوابا, فسكت, وأمعن في السُكوت ..
قال القاضي : فهل رأيت حِمار عمِكَ أبي البنات السبع في ذلك اليوم ؟
ردَ ساعِدة سريعا : لا. لم أره
قال القاضي : إذن فأنت تُنكِرُ رؤيةَ حِمار عمِكَ في ذلك اليوم ؟
قال ساعِدة : نعم. أنا لم أرى حِمار عمِي ذلك اليوم
أصيب الحاضرون بالدهشة, من قُدرة ساعِدة على المرواغة, وتكذيب أباه
ولكّنَ القاضي كان أكثر دهاء, ومكرا من ساعِدة ومن أبيه وأمِه
لذلك عمِد إلى حيلةٍ محكمة, يوقع بها هولاء الأشقياء في يد العدالة

يتبع ...

إن شاء الله[/size]

ناجى جوهر
25-03-2013, 11:15 PM
أبو البنات السبع
الجزء الثامن
في أثناء إستِجواب ساعِدة , كانت أمهُ قد تعافت, وأرادت أن تتدخل
لِصالِحِ إبنها, لكن القاضي أراد أن يمكر بهم جميعا, فطمأنها قائلا :
لا عليكِ أم ساعِدة, ما دُمتم تنكرون, فلا حُجّةَ لنا عليكم ...
ثم إن القاضي تشاغل بقضايا أخرى, وكان مُرادِهِ, أن يُباغِت
ساعِدة بِسؤال مُباشِرٍ, يذهله, و يكشِفُ كذِبه, ويضع الحُجّة عليه
وكان يلتِفت إليه بطرف خفي بين حين وآن, لكي يراه حين يغفِل
وفجأة, صاح القاضي بصوت مُخيف :
لماذا كنت تضرب حمار عمِك, عندما سرقتُهُ يا ساعِدة ؟
إنخلع قلب ساعِدة من الخوف, وأرتبَكَ , فردّ مُدافِعاُ عن نفسه :
لم أُكن أضربه, أيها القاضي, بل سٌقته إلى الزريبةِ بِرِفق ولين
قال القاضي بحزم : فأنت قد سرقت الحِمار, بأمرٍ من أمِك ؟
نفى ساعِدة : لا ياسيدي, لم تأمرني أمي بِذلك
قال القاضي: فمن أمرك إذن ؟
بكى ساعِدة, ثم سَرَدَ كل ما دار بين أبيه و بين العيار
وما إتفق عليه هو وإخوته
فقال القاضي : سنُصليّ الظُهر, وبعد الصلاة, نصدر الحُكم المناسب
علت أصوات الناس في المجلس قبل دُخول القاضي, فلمّا وصل
سكت الجميع, وحين أخذ مكانه, إشرأبت إليه الأعناق ...
فأستدعي القاضي أبا ساعِدة
فلما وقف أمامه قال له : لقد كنتَ تُنكِر الحق
وأنت من حاكَ خيوطَ هذه المؤآمرة الدنيئة, وأراد الله كشف لؤمك وخُبثك
وسوء طويتك, ففضحك حمار على رؤوس الملاء, وأنت تُنكر وتكذب
ونطق إبنك بالحقّ دون إكراه منا, وكان قد جحد وأنكر, تماما كما أنكرت أنت قبله
وبِناء على ظُلمِك, وكذبك, أحكُم عليك, بالحبس شهرين مُتتاليين
وأن تدفع مبلغ مائة دينار إلى أخيك, عقوبة لك على الكذِب والتآمُر ...
كما أحكُمُ على إبنك بالحبس ثلاثة أشهُرٍ, وغرامة مبلغ
خمسين دينار, عقوبة له على سرقة الحمار, والكذِب على المحكمة
عندما سمِع ساعِدة الحكمَ, أخذ يعدو نحو أمهِ وهو يبكي وينتحِب
قال القاضي : كما أحكم على أم ساعِدة بالحبس سنة, ودفع مبلغ الف دينار إلى الصياد
عقوبة لها على الإعتداء بغير حقّ, والإستهتار بارواح الناس, والبغي عليهم
وحين سمعت ما نطق به القاضي, وقعت مغشِيا عليها ...!
فعالجتها النساء الحاضِرات, حتى عادت إلى رُشدِها
فأخذت تصيح, وتُولوِل, وتلطم خديها وتحثو التراب على رأسها ...
فرق لها إخوتها, وبعض الوجهاء والشيوخ, فسعوا لها عند أبي البنات السبع
ورجوه أن يتنازِل عن حقه في حبس أم ساعِدة
على أن تُعوِضه بمال جزيل, فوافقهم, ثُمّ ذهبوا إلى القاضي وأعلموُه بالتسوِية
وتوسلوا إليه أن يعفي أم ساعِدة من الحبس, على أن تدفع مبلغا مرضيا
من المال لأبي البنات السبع تعويضا له, ولِجبرِ خاطِره
فألزمها القاضي بدفع مبلغ الفي دينار نقدا
فقالت وهي تنتفِض من الهلعِ : سأدفع ... سأدفع حالا
أما أبو ساعِدة فقد إكتفى بلطم وجهه, وهو يقول : أنا أستاهِل ... أنا أستاهِل
ثم قام إلى أخيه يُقَبِل رأسه, ويرجوه أن يشفع له عند القاضي, لكي لا يُحبس
فقال أبو البنات السبع للقاضي :
أرجوك يا سيدي أن تُعفي أخي من الحبس !!
فأُعجِب كل من حضر, بِشهامته وحُسنِ خُلُقُهِ, فقال له القاضي :
قد وَهبنا لك حبس أخيك وإبنه ...
فصاح الناس مُهللين, ومُكبرين, وبادروا إلى الصياد يبارِكون له, إنتصافه ممن ظلمه, وبغى عليه
ثم حمله أصدِقاؤه الصيادون على أعناقهم, وزفّوه إلى كوخه, فكان يوما مشهودا
عندما خرج أبو ساعِدة وأهلُه من دار القضاء, تعرّض لهم الصبية
في الطُرُقات, وهم يُعِيرونهم, ويركُضون خلفهم, و يُغنون :
يا سارِقَ الحِمار .... فضحوك في النهار
فزاد غم أبي ساعِدة وشعُر بالذُل يغمُرهُ, فكتم غيظَه وحقده على أخيه
ولم يتدبّر نتيجة الظُلم, ولا عاقِبة الجور
فوصل إلى قصره يغلي من الحنقِ والغيظ, كما يغلي المِرجل
وأخذ يصول و يجول أمام عائلته مقبلا مدبرا, وهو كظيم
فأنتهرتهُ أم ساعِدة قائلة :
كلُ ما أصابني وأصاب ولدي, كان بسبب حماقتِك, وتخاذُلك, وجُبنِك
فصاح أبو ساعِدة مُغضبا : أُسكُتي يا إمرأة, يكفيني ما عانيت
منذ اليوم لفرط غباء وجهل أبنائك المُدلّلين ... !!
فهَاجَت كَوامِنُ الغضَبِ في نفس أم ساعِدة وفقدت السيطرَةَ
على نفسِها, فأطلقت لِسانَها البذيء, يتناول زوجَها بكل نعتٍ قبيح, وصفة مستهجنة
فلم يحتمِل كل ذلكَ القذف والسّب, وأراد أن يبطِش بِها
فأشتَبَكا في عِراكٍ شرِس, ولم يتمكِّن ساعِدة وإخوتُه, من إيقافِ
المعمعة, فعَلت أصواتُهم, وأَقبلَ الناسُ يتفرِّجون, على الزوجين البدينين
بين شامتٍ بِهما, و مُشفِق عليهما
فلمّا تعِب الزوجان, جلسا يلتقِطان أنفاسهما, وما راعّهما إلا وجودُ العشراتِ
من الرِجالِ والنساءِ والأطفال, قد مَلَئوا ساحةَ القصر, فأمرا خدمهم
بطرد المُتطفلين, وإخراجِهم, ثم سكنا حين سمعا نِداء صلاة العصر
ولكن أم ساعِدة لم يطِب خاطِرُها, وقد حُشي جوفها حقدا وحنقا
فقالت متوعدّة, قبل أن تنصرِف :
لسوف أرى بسالتك, وقُوتَك وبأسك غدا, حين يأتي إخوتي ويفتكون بِك
في ذلك الوقت, وبعد إنصراف المُهنئون, كان أبو البنات السبع
يُشاورُ بناتّهُ, في ما يجِب فعله بالنُقود الكثيرة, التي صارت في أيديهم
فقالت إبنتاه سعادٌ وسعادة :
نُحب يا أبي, أن نشتري بناجر الذهبٍ, وخواتم العقيق, وسلاسل الفضة, نتزَيِّن بها
وقالت مِسِعدة : أنا أشتهي تختا من الألبسة المُزركشة, وقوارير المسك الأذفر
فكان أبوهُنّ يقول : حسنا ... إن شاء الله ...
بينما كانت سعدية و سعيدة ترغبان بالكثير من الطعام ...!
ظلّت سُعدى و سعدة صامتتان
فقال أبو البنات السبع وهو فرحان سعيد :
وأنتما أيتها الحبيبتان, فيما ترغَبَان, وماذا تتمنِيان, فأحضره في الحال ؟
قالت سعدة : أنا أتمنى ما يرضيك, وما يُسعِدُك, وليس لي مطلب ثان
فهشَّ لها أبوها, وقبّلها على جبينها
ثم إلتفتَ إلى صغرى بناته, وقال لها :
فيما يُفكِر عقلكِ الماكر, يا حُلوتي ؟
فقالت بنبرةٍ جادة : أرى يا أبي أن لا نضيع هذا المال في الترَف
وأن لا نُنفقه على الملذّات والشهوات ... فصاحت أخواتُها مُعترِضات
ولكنها إنتهَرتهن قائلة : صهٍ ... أيتها الغافِلات, سوف يكون لكنّ ما أردتن
ولكن يجِب علينا أولا, أن نسعى لإنماء هذا المال ...
فسألتها سعيدة : وكيف ذلك ؟
قالت سعدية : تُريد سعدى أن ننتظِر, حتى يلِد المالُ صِغاره !!
فضحِكت أخواتُها
وقال أبوهن : صبرا يا بُنياتي, ودعنها تُفصح عن رأيها
هيا يا أبنتي الحكيمة تكلّمي, إنّ رأيُك دائما سديد ...
قالت سعدى : الرأى أن تشتري سفينة كبيرة, ثم ترافقكَ في كل يوم
ثلاثة منا حين تذهب للصيد, فيزيد رزقُنا, ويكثُرُ مالُنا, حينها تشتري لهن ما يتمنين وما يشتهين
فأشرقَ وجهُ أبو البنات السبع بِشرا, وتهللت أساريره حبورا, وأخذ يدعو لها قائلا :
حفظكِ الله يا أبنتي, ولا حَرَمني من رجاحة عقلك, ولا من جودة تفكيركِ وذكائكِ
ثم أتّفقوا على أن يخرج أبوهن غدا صباحا, لِلبحث عن سفينة, وشرائها
بينما باتَ أبو ساعِدة ليلته تلك خائفا يترقّب, لم يهنأ له بال !!
ولم يغمُض له جفن, فليس له ناصر, ولا مؤيِد, يقف معه أمام أصهاره
وقد أضاع نصيره الوحيد, وهو أخوه
ويعرِفً طُغيان أصهارهِ, وخِيانة أبنائه, وخُبث زوجتِهِ, ولؤم خدامه
وحين أصبحَ الصباحُ سمعَ قرعا خفيفا على باب غرفته
فأصيب بالهلعِ, وخشي العقوبة, فوقف على العتَبة, ثم سأل بصوت مرتعش :
من على الباب ؟
يتبع ...
إن شاء الله
حكاية في رواية

ناجى جوهر
01-04-2013, 11:13 PM
أبو البنات السبع

الجزء التاسع

قال الطارِق : أنا ياقوت و قد أتيُت لأسألك إن كنت ترغبُ في شيء ؟
ففتح أبو ساعِدة رُويدا رُويدا, فلما رأى ياقُوتا لِوحدِه, جذَبه إلى الداخل
ثم أوصد الباب, وأجلس الخادم على الكرسي, وبَرَكَ هو أمامه على رُكبتيه
وأخذ يبكي وينتحِب, ثم قال في ذُلٍ وإنكسار:
أرغب بالنجاة يا ياقوت , إن أم ساعِدة قد توعدتني, ولست آمن على نفسي نقمة إخوتها
فأنقِذني يا قوت ... أتوسّلُ إليك, أو أخرجني من هنا قبل مجيئهم, أو خبئني
حزِن ياقوت على ما وصل إليه حال سيده, نتيجة الظلم والبغي, والغرور والكِبر
فقال له ناصِحا : أرى يا سيدي أن تذهب إلى أخيك, وتعتذِر إليه, وتصافيه
فأستشاط أبو ساعِدة غضبا, وصاح بالخادم :
أنا أذهب وأعتذِرُ إلى ذلك الفقير الحقير ؟
والله لن يكون هذا أبدا, ولو جُلِدَ ظهري, ونُتِفت لِحيَتي !!!
أخرج عني أيها الرذيل, ولا تعُد لِمثلها أبدا
فخرج الخادم وهو يضرب كفا بِكفّ
كانت أم ساعِدة تتنصّتُ عليهما, فلمّا سمِعت ردَ أبو ساعِدة على الخادم
أعجبَها ذلك منه, ورَضِيت عنه, وزال غضبها, فبادرت إليه تراضيه
مضَت أسابيع وأشهُر عديدة, ولم ينسى أبو ساعِدة الخسارة المالية الفادحة التي مني بها
ولا ما تعرّض له من إمتهان, وسُخرية !!
وكان يُلقي باللوم على أخيه, ويتعلل بحسد الناس, وتحاملهم عليه
ولم يشاء أن يهتدي للحقِّ و الصواب, وأن يعتَرِف بأنّ خُبثِهِ ومكرِهِ
و سوء نِيته, وطمعه, وجشعه, وظُلمه, وكِبرهِ و عُتُوّهِ وغُروره
وإستسلامه لأم ساعِدة, وتفريطه في تأديب ولده كانت وراء ما جرى له
لذلك فقد إشتعلت نيران الحِقدِ في صدره, وزاد مُقتُ أخيه وبُغضِهِ في قلبه
فشرع في حِياكةَ خُيوطِ مؤآمرة جديدة, يتمكِّن بها من إسترداد أمواله
و الإنتقام لكرامتهِ التي داستها أرجل الصيادين .... !!!
كان أبو البنات السبع وعائلتِهِ قد إشتروا سفينة قديمة, ولكنها كبيرة واسِعة
فصار يصطحِبُ معه بعضَ بناتِه في رحلات الصيد اليوميّة
فبُسِط لهم الرِزقهم, وصلُحت أحوالهم, وتيسَّرت أمورُهم, وطابت معيشتهم, وبدأ البؤسُ يُفارِقهم
فأنفقوا مما كَسبوا على أعمال البِر, كفلوا الأيتام, وأعانوا الَعجَزة
وأطعموا الطعام على حُبِهِ المساكين, وعابري السبيل, والمعوزين
فغمَرَهم الكريم ببرَكةٍ من عنده, وحطَّ طائرُ السُعدِ على كوخِهِم
وأبتنوا دارا واسعة بعد أشهُرٍ أخرى, وذاع صِيتُهم, وعرفهم
القاصي قبل الداني, وحفلت المجالِسُ بذكرهم العطِر, وسيرتهم الحميدة, وأمتدحهم الشعراء
كانت هذه الأنباء تصل أبي ساعِدة و أم ساعِدة , فكانا يغتاظان, ويحترقان
من الغيرة والحسد, و يزدادان غِلا وحِقدا, ولكنهما لا يفعلان شيئا
يُحببهما إلى الناس, و يرفع مقامهما, ويُشرِّف قدرهما, فهما بخيلان
غليظان, لا يعرفان سخى اليد, ولا بذل المال, ولا عمل الخير بدون مُقابل
وأكتفيا بتدبير المكايد, والسعي للقضاء على تلك العائلة الكريمة, ومحو ذِكرها
ففي مساء يومٍ من الأيام, وبينما كان أبو ساعِدة يُسامر بعض خِلانه, في السوق
مرَّ من أمامهم إعرابي يُرافِق طفل في الخامسة من العُمرِ, وطِفلة أكبر سِنا
فأستدعاه أحد التجار, وسأله قائلا : عمّن تبحث يا أخا العرب ؟
قال الغريبُ : لقد سمِعنا عن رجلِ كريم يُدعى أبو البنات السبع, وقيل لي
إنه يؤوي الأيتام, ويُغيث الملهوف, ويُحِسن إلى الناس, وُيطعم ال ...
فقاطعه أبو ساعِدة غاضِبا : إنهُ صياد خبيث ماكر, يسعى لأن يمتدِحهُ الناس
و أنا أكثرُ منه مالا, وأعز نفرا, و أطولُ يدا, فقل لي ما حاجَتُك, فاقضيها ؟
قال الُرجل: إنّ هذين اليتيمين, كانا تحت كِفالتي, ولكنني ومنذ خسِرت
أموالي, لم يعُد بِمقدوري الإنفاقُ عليهما, فإن شئتَ أن تكفُلهما, وإلا أخذتهما
إلى ذلك الرجل الذي سمِعتُ عنه ...
فلمّا سمع أبو ساعِدة مقالة الرجل
إرتبك وحار, وقع بين نارين ...
إمّا أن يترك الغريب يذهب إلى أخيه, ويفتضح هو أمام رفاقِه وغيرهم من الناس
ويُصبِح حديث المجالس في البُخل, أو أنه يأخذ الطفلين, ويتعرّض لسخطِ أم ساعِدة
فسَكَتَ وهو مُحرج, فلمّا طال سُكُوتُه, قال له الإعرابي :
أراك قد كرِهت كِفالةَ اليتيمين ...
قال أبو ساعِدة : لست أكره كفالتهما, ولكنني ... ولكنني ...
فضحِكَ الناس, وأنصرف الإعرابي, وهو يهزاء به
لم يُطِق أبو ساعِدة بعدها المكوث في السوق, فغادر مُسرعا إلى قصرِه
وعندما وصل إلى القصر لم تكن أمُ ساعِدة موجودة, فأنتظرها مضطربا
إلى أن جأت بعد وقت قصير, وأخبرها بقصته مع الإعرابي, فقالت له :
أراك لا تُحسِن التصرُف, فعد إليه الآن قبل أن يصل إلى دار الصياد الحقير
ثم أعطه مبلغا من المال, وخذ منه اليتيمين, و أتني بهما, ودع الباقي عليَّ
كان ذلكم الأعرابي رجل شهم, وذو مال ورفعة, لكنه كان يُحب القِمار
فخسِر كل ما يملك, وأصبح فقيرا مُعدما ومديونا
لا يجد ما ينفقه على اليتيمين
وعندما عرض عليه أبو ساعِدة المال, مُقابل الطِفلين, غضِب غضبا شديدا
وثارت نخوتُه العربية, فأستلَّ سيفَه, وأراد أن يشُجّ رأس أبي ساعدة , فمنعه الناس
وفر أبو ساعِدة هاربا من أمامه, وعاد إلى قصرِهِ خائفا مرتجفا خائبا
فأستقبلته أم ساعِدة المتسلِطة, بالتسفيه, والتحقير
فصعد إلى غرفته مرعوبا, يلتمِسُ الأمان ...
أما ذلك الإعرابي فقد قُبض عليه, وأتِّهمَ بالجنون, وأودِع الحبس
فطلب من بعض الناس أن يُسلّموا الطفلين, إلى أبي البنات السبع
فإصطحبهما أحد أصهار أبي ساعِدة الخبثاء, فلما أمسوا في بعض الطُرقات
غدر باليتيمين, وتركهما يهيمان على وجهيهما, وهما غريبان لا يعرفان البلاد
وقد قاربت الشمسُ على الغروب, فخاف الطفلان وبكيا, وأخذا يطوفان
في الأزِقّةِ والحواري, على غير هدى ...
ولأنّ الفتاة ذات العاشِرة كانت خرساء, فلم يكن بمقدورها أن تستنجِد أوأن تستغيث
بينما كان أخوها طفلا صغيرا, لا يعقِل, فساقتهما أقدامهما إلى باب قصر أبي ساعِدة
وقد غربت الشمس, وحين قرعاه, فتح ياقوتُ الباب, ووجد الطفلين, وسألهما عن شأنهما
ولكنه لم يتلقى جوابا منهما, إذ كان الولد يبكي, ويرتجِفُ من الجوع والخوف والبرد
بينما كانت الفتاة الخرساء تحاول أن تنطِق, ولكنها لا تقول غير :
آ... آ... !!
حار خادم أبي ساعِدة وطال وقوفه على الباب, فنادته أم ساعِدة :
من على الباب يا ياقوت ؟
يتبع ...
إن شاء الله

ناجى جوهر
08-04-2013, 10:47 PM
أبو البنات السبع
الجزء العاشر
خاف الخادم على الطفلين من جبروتها, ومن نذالة أبنائها وأراد أن يصرفهما بعيدا
فإذا بسعدانٍ يخرج, و لمّا رأى الطفلين, أنتهرهما بقسوة وغِلظة, و أراد أن يطردهما
فلمّا سمعت أمهُ إنتهاره, سألته عما يحدث, فقال لها :
إنهما طفلين حقيرين, من الذين يناصرون أبو البنات السبع
فأمرته بإدخالِهما, وما إن دخلا إلى المجلس حتى تبادر أبناؤها المُتغطرِسون
الى الضحك من الطفلين البائسين, والتهكّم على لباسهما, ونحافة جسديهما
وحين عرفوا أن الفتاة خرساء, أخذوا يُحاكونها, ويسخرون منها ويخرجون السنتهم
فأخذت تبكى, بصوت مكتوم, ودمع غزير, وهي مُحبطة مُحطّمة
بينما كان أخوها, يلتوي جوعا, وقد غارت عيناه من الإعياء والبرد
تذّكرت أم ساعِدة إنّ هذين الطفلين هما اللذان تحدث عنهما أبو ساعِدة آنِفا
ووجدت فيهما اداة طيعة لتنفيِذ خدع وحِيلٍ, تكيد بها غُريمها وبناتَه
فأمرت بإِطعامهما, حتى لا يهلكا جوعا, ثم أغلقت عليهما في سِرداب القصر
و أخذت تُفكِّر في حيلة. تُمِكِنها من الحاق الأذى بالبنات السبع وأبيهن
وفي اليوم التالي بكَّرت أم ساعِدة في إخراج الطفلين من السِرداب
وأمرت خادما لها بإصطحابهما إلى بيت أبي البنات السبع
لكي يتناولا الطعام مع الأيتام, ثم يعيدهما إلى القصر
وهكذا كانت تفعل كل يوم
حتى صارت الِطفلة الخرساء تأتي مع أخيها لوحدهما, وكانا لايرغبان في
العودة إلى القصر, فإن تأخرا أرسلت أم ساعِدة من يُعيدهما إليها قسرا
فلما تأكدت من أنهما أصبحا معروفين, وأنّ أبا البنات السبع و أسرته
قد ألِفوا وجود الطفلين مع الأيتام
بدأت أم ساعِدة بتنفيذ خُطّتَها الجهنمية
فذات مرة, وعندما أراد الِطفلان الخروج كعادتِهما كل يوم إستدعتهما
و وضعت عقدا نفيسا من اللؤلؤ في جيد الفتاة, وتركته بارزا للعيان
وبعد إنصرافهما أرسلت كل من سعيد ,سعد و سعدان في إثِرِهما, وأمرتهم
بمراقبة تصرُّفِ بنات عّمِّهم, حينما يرين العقد النفيس في عُنق اليتيمة
كان سعيد و أخويه مُختبئون, و فجأة شاهدوا الأطفال الأيتام
قد تجمّعوا حول الخرساء, يتفرِجون على عِقدها الثمين
وما هي سِوى لحظات يسيرة, حتى خرجت سعدِيّة و سعيدة
وهما المسؤلتان عن إعداد الطعام وتوزيعه, فلما لاحظتا ذلك التجمع
أسرعتا إليه, وحين عاينتا العقد, فرَّقتا الاطفالَ, ثم أسرعت سعيدة
وأبلغت أخواتها, فقررن حِفظ العقد لديهن, حتى يعرِفن أهل
الطِفلة اليتيمة, فيسلِّمنَه إليهم, وعندما أبصر سعيد وأخويه
ما فعلته بنات عمِّهم, أسرعوا وأبلغوا أمَّهُم
فما كان منها إلاّ أن أرسلت إلى القاضي رسالة مفادها :
إنَّ البنات السبع, قد سلبنَ و نَهَبَنِ عقدا ثمينا, كنت قد وهبته طِفلة يتيمة خرساء
أكفلها مع أخيها, هذا الصباح, والعقد بحوزتهنّ, فإذا كنتِ عادِلا حقا
فأعِد لليتيمة عِقدِها, وعاقِب السارِقات, وأقِم عليهنّ الحدّ.
وحين قراء القاضي الرسالة, أدرك أن في الأمر خُدعة
فأرسل حاجِبه على الفور, وأمره بإستدعاء البنات السبع وأباهن
فلما مثلوا امامه سأل القاضي الفتيات عن قِصة الِعقد فأخبرنه بالحقيقة, وسلّمنه العِقد
وكانت حُجّتهن أنهن أردن حِفظه من الضياع, حتى يهتدين إلى ذوى الخرساء
فيُعدنه, ولكن هذه الحجة لم تكن مقنعة, خاصة وأنهن لا يعرفن الفتاة
ولا يدرين من أين تأتي, ولا إلى أين تذهب
لذلك حار القاضي في الأمر
فأجَّلَ إصدار الحُكم إلى يوم غدا صباحا, مع حفظ العقد في عُهدته
وفي اليوم التالي إستدعى القاضي أبا ساعِدة وأخاه أبا البنات السبع
وفي نِيَّةِ القاضي أن يتصالح الأخوان فيما بينهما, ولا يشهّر بأيٍ منهما
فوجدها أبو ساعِدة فرصة نادِرة تمكِّنه من التنكيل بأخيه وبناتهِ
وأن يُلصق بهم تهمة السرِقة, لكي يحطّ من قدرهم عند الناس
ويظهر هو كإنسان شهم نبيل, فقال :
أيها القاضي, إنّ بنات أخي قد تطلعت أنفسهنَّ إلى لبس الذهب والفضة والحرير
وأبوهُنَّ البخيل يقّتِر عليهن, ويحرمهن الأطايب, لذلك فحين رأت عيونهن عِقد الطِفلة
اليتيمة, خلب البابِهن, وسحر أنظارهن, فسرقنه
وأنا سوف أعفو و أغفر لهنَّ
و أتركَ لهنَّ الجمل بما حمل
إذا أستطاع أبوهنَّ أن يُناظِرني, ويتفوق على حكمتي
و ينفِّذ ما آمُرهُ به
يتبع
إن شاء الله

ناجى جوهر
16-04-2013, 02:24 AM
أبو البنات السبع

الجزء الحادي عشر

قال أبو البنات السبع مُدافِعا عن بناته :
تعلمُ يا سيدي القاضي أن بناتي أكرم وأطهر من ان يمددنا أيديهن إلى مالٍ حرام
خاصة ما هو للأيتام, ولا أشُّك في أن الأمر بِرمَّته من تدبير أخي وزوجته
كيدا وبهتانا
فعلت الأصوات, وثار جدال صاخب, أوقفه القاضي بقوله :
أعلَمُ يا بُني أنكَ وبناتَك من خِيرةِ الناس في مدينتنا هذه
و من أشرافهم و أفاضلهم
إنّما لا يمُكِنني إطلاق حُكمَ إلا بِناء على أدِلةٍ و براهين وشهود
وقد عدِمتم ذلك
فأرى أن تُناظر أخاك, فعسى أن يكون في الشرِ خير كثير
فكّر أبو البنات السبع ثم قال متحديا : قد قبِلتُ مُناظَرَته
قال أبو ساعِدة مُخاطِبا القاضي والشهود :
أشهُدوا باني قد أمرت أخي أن يأتي غدا صباحا إلى المحكمة
ليس مشيا على قدميه, ولا راكبا دابة, ولا محمولا على الأعناق
وأن لا يأتي في الِظلام, ولا في النور
وأن يطعمنا طعامٍ نأكل منه جميعا, ليس من طعام البر
وليس من طعام البحر
فإذا فعل ذلك فالعقد له. فماذا يقول ؟
حار أبو البنات السبع من هذه المطالب العجيبة, وأراد ان يحتجّ
فأمره القاضي بالخروج, والبحث عن جواب وحلّ ...
فخرج حزينا, شارد الذهن
بينما ظل أبو ساعِدة يضحك في سخرية و إستهزاء ...
أما أخوه, فقد هام على وجهه, يفكِّر في مغزى هذه الأحاجي
العويصة, فلم يهتدي, ثم تباحث مع بعض الأصدقاء, ولكنهم فشلوا
ولم يشاء ان يعود إلى داره حزينا كدِرا, حتى لا يُحزِن بناته
اللاتي أصابهُن القلقُ لتأخره في دار القضاء
ولم يعلمنُ بما دار بينه وبين أبي ساعِدة فأردن الخروج
للبحث عنه, وقد غربت الشمس, وبينما كنا يتأهبن
أقبل أبوهنَّ يحمِلُ كيسا مملوءة بالحلوى العمانية
ففرِحن بها ونسينا القضية
ولم يُلاحِظ ما بِهِ من همٍ وضيق سوى إبنته الصُغرى سُعدى
فلّما جَّن الظلام, وحلّ سكون الليل, وغفت العيون
إنسلّت سعدى إلى أبيها وسألته
عما يشغُلَ خاطِره, فأنكر, ولكنها أصرّت و الحّت عليه
فأخبرها بما جرى وصار
فقالت له بلهجة الواثِق بالله, ثم بقُدراتِهِ العقلية :
نم يا أبي قرير العين, ودع لي التفكير
وحين تنهض من نومُكَ ستجدني قد عثرتُ على الحل, إن شاء الله
نام أبوها, بينما ظلت سُعدى تُفكِر, وحين رُفع أذان الفجر
نـبّهها الجن الصالح
فثارت إلى أخواتها و أيقظتهن جميعا
وبعد أداء الفرض جمعتهن, وشرحت لهن المشكلة
فجلسن يبكين و يولونَ, فانتهرتهن, وقالت :
لا يبكي سوى العاجز, وأنا قد وجدثُ الحلَ, فأذهبن وأحضِرن
فُؤوسا و زنابيلا و جواني فارِغة, فسوف نذهب الآن إلى البحر
أما أنت يا سعديّة فأجلببي شبكة صيد أبي الخرِقة
وأصنعي منها قميصا فضفاضا
ثم أسُرجي على العِجل الأسود, كما تسرُجين على الحمار
وسيساعدك اخوالنا الجن
وعندما أشرقت الشمسُ, كانت سُعدى وأخواتُها قد وصلن
مع جنِ أمها الصالحين
إلى شاطى مرباط الصخري, بأيديهِنَّ الفؤوس
والزنابيل والأكياس الواسعة
وعند الضحى كنا قد أنضجنا الطعام, وأحضرنا كمياتٍ هائلةٍ منه
لأن البحر كان ولحسنِ حظّهن جزرا
فعثرنا على مطلوبهن بيسر وسهولة
فأخذَنا يحشينه في الجواني -الأكياس الكبيرة-
وكان لذيذا طازجا
وهو ليس من طعام البر و ليس من طعام البحر
ثم أقبلت سعدِّية, وقالت :
قد أسرجنا على العِجل, وصنعنا قميصا و مئزرا من الشبكة
فأمرت سُعدى أخواتها بربطِ الأكياس إلى ظهر الحِمار
ثم ذهبت إلى والِدها
وطلبت أن يستعدَّ للذهاب إلى دار القضاء
على الصِفة التي إشترطها أبوساعِدة
وبلّغته أنَّ الطعام الذي طلبه قد أُنضِج
وما عليه سوى, تقديمه لأبي ساعِدة و لكل من أحب أن يتذوقه
ثم قالت له : فإذا ظفِرت به, فقل له :
إن بناتي أذكى و أمهر من بنيك
وهُنَّ يتحدّينهم في السفر إلى البلاد البعيدة
على أن يعودون جميعا بعد شهرين
ويكونُ المجد لمن ربِح أكثروكسِبَ أعظم
فإذا وافق على ذلك, فأشهد عليه الشُهود, ثم عُد إلينا سريعا
هذا ما كان من البنات السبع وأبيهُن, أما أبو ساعِدة فإنَّهُ
و قبل ذهابه إلى دار القضاء, توجَّهِ إلى صديقه
اليهودي الذي أمدّه بتلك الأحاجي
وسأله إن كان بإمكان أبو البنات السبع أو بناته أن يهتدوا إلى حلها
فطمأنه اليهودي, وغرر بِهِ, فذهب إلى القاضي مزهوا بنفسه
مُطمئنا إلى أنه لا يُمكن لأحدٍ أن يحل أحاجيه أو أن يفكَّ لغزها
وبالتالي فسيتمكِّن من إذلالِ أخيه وبناتهِ
وسيحُطُ من مكانتهم بين الناس
وسيظهر كرجل حكيم
وقبل أن يذهب إلى دارِ القضاء
قرر أن يصطحب زوجته لِتشهد بنفسها هزيمة
أخيه أبي البنات السبع , لعلها تشفي غليلها, وترضى عنه
وحين سمِعت أمِ ساعِدة عرضه, بادرت إلى أبنائِها
وأيقظتهم جميعا
ثم خرجوا, وقد لبسوا أجمل ما يُلبس, وهم واثِقون من الفوز
يسعى الخدمُ عن أيمانهم وشمائلِهم, وقد طغى عليهِم الزهوُ والإعتداد

يتبع

إن شاء الله

أمل فكر
16-04-2013, 11:08 AM
صباح الخير:)،،

ما شاء الله عليك أخي الكاتب "ناجي جوهر" إبداع بحق..
قصة وكأنها مسلسل لا نكتفي من متابعته.
والجميل توضيحك لبعض الكلمات الصعبة بين قوسين التي قد تسهل للقارئ.

حكاية رائعة بالفعل تحكي وجهان متناقضان في الحياة هما الخير والشر.
حكايتك هذه لها من القيمة الكثير لما تحمله من قيم ومبادئ..

سلمت. وفي أنتظار تكملة هذه الحكاية الممتعة جداً.

تقديري،؛،

ناجى جوهر
23-04-2013, 12:05 AM
حكاية شعبية
أبو البنات السبع

الجزء الثاني عشر

فوصلوا إلى دار القضاء قبلا
وفي إنتظار أبي البنات السبع , كان أبو ساعِدة وزوجته
يتبادلان السُخرية, والإستخفاف, والهمز واللّمز, والقذف على غريمهم وبناتِه
وكان القاضي, ومُحبوا أبي البنات السبع ومؤيدوه, في قلق بالغ
فلمّا طال الإنتظارِ, وثب أبو ساعِدة وقال :
يا قوم إنَّ أبا البنات السبع قد عجِزَ عن تفسير الأحاجي
و أرى ان يُرسل القاضي من يحضِرهُ عُنوة, ويجلِبَ
بناتَهُ السارِقات, ليُقام عليهِنَّ الحد
ثم جلس مُتفاخِرا بنفسه, فقام إبنه سعدي وتوجّه إلى القاضي
ثم قال : أيها القاضي العادل إن كان عمي أبو البنات السبع قد أخلَّ بالشروط
وعجز عن الوفاء بها, فأنا كفيل بِدفع ثمن العِقد
ولكن لا تؤذوا عمي و بناته
فغضِب أبوه, وصاحت أمهُ :
أخرس أيها التافِه, إنّهم لا يستحِقونَ الرأفة, أنسيت ما فعلوه بِنا
فخرج سعدي و هو ينتحِب, وتوجّهَ إلى عمِه ليقِفَ معه في هذه المِحنة
ولمّا وصل إليه وَجَدَه وبناته ومناصروه يستعِدُّون للذهاب فأستوقفهم
ثم أخرجَ كيسا مملوءة بالنقود, وقال لِعمِّهِ :
أرجوك ياعم, خذ هذه النُقود, فأدفعها لهم, عِوَضا عن العِقدِ المشئوم
فنزل عمُهُ أبو البنات السبع وأعتنقَه, ثم شكره و إعتذر إليه
وقال له : تعلمُ يا بُني أنني لست أرضى, أن يُصيبكم أي سوء أو مكروه
ولكن أخي أبا ساعِدة لا يثِق بي ويظن أنني أبغِضه وأكرهه, أو أحمل
له الحِقد والبغضاء, ويشهد الله أنني لا أحمل له في قلبي سوى الوِدّ والأخوّة الصادقة
إنصرف سعدي بِرِفقة عمِهِ وبناته, وقبل أن يصِلوا إلى دار القضاء
طلبت سُعدى منه أن يبلِّغِ القاضي ومن معه بِوصولِ أبي البنات السبع
كما إشترط أبو ساعِدة وأنَّ عليهم ان يخرُجوا لِيشاهدوه بأعيُنِهِم ...!
فخرجَ القاضي والناسُ جميعا, ورأوا أبا البنات السبع قادما نحوهم
يلبِسُ عباءة مصنوعة من شبكة صيدٍ , و يبدو عليها ظلّ الشبكة فهو ليس في الظِلِ ولا في الشمسِ
وكان يركِبُ عِجلا, و رجُلاُه تخُطُّان على الأرض, فهو ليس براكِبٍ ولا بماشٍ على رِجليه
فصاح القاضي : الله أكبر... ها هما شرطاك قد نفّذهما أبو البنات السبع
اليس هذا ما أشترطت يا أبا ساعِدة ؟
فصاح أبو ساعِدة غاضِبا : هذان شرطان فقط, وبقيَ شرط ثالث
فهو قد أخلَّ بالشروط, وخسر الرهان
فناداه أبو البنات السبع , بلهجةٍ مُطمئنة :
هُلّم يا أخي لتتذوق طعاما ليس من البر, وليس من البحر
ولا من السناء فلما سمِعت البنات كلام أبيهن, بادرن إلى أخراج الصياني والأطباق والصُحون
ثم غرفنَ فيها من ذلك الطعام بمعاونة سعدي والجان الصالح
فأقبل القاضي, وتبعهُ الناس, وأكلوا حتى إمتلأوا, وهم يمتدحون أبو البنات السبع
ويثنون على ذكاء بناته
لكنَّ أبو ساعِدة إعترض قائلا :
إن بلح البحر, يوجد في البحر, فهو طعام بحري
فتوقّفَ الناسُ عن الأكل, وساد الحزنُ المكانَ

يتبع

إن شاء الله

ناجى جوهر
29-04-2013, 11:49 PM
أبو البنات السبع

الجزء الثالث عشر

فصاحت سُعدى : فليذهب رجال إلى الشاطىء الصخري
وليرافقهم عمي أبو ساعِدة فإن وجدوا البلح في البحر
كان طعام بحري, وإن وجدوه في البر, كان طعام بري
وإن وجدوه بينهما, فهو ليس من البر, و ليس من البحر
فقال القاضي : بل أذهبُ أنا بنفسي و هولاء الناس جميعا
فلمّا وصلوا إلى ساحل البحر, وجدوها جزرا, و بلح البحر
قد يبِس على الصخور, فصاح القاضي :
الله أكبر ... ظهر الحق, وبطُل الباطِل
فأراد أبو ساعدة أن يحتجّ , ولكنه سمع ثناء
الناس ومديحهم لبنات أخيه, فسكت مقهورا
ثم عادوا أدراجهم إلى دار القضاء حيث حكم
القاضي لأبي البنات السبع بالفوز, وربح الرهان
فأعاد العقد للفتاة الخرساء, فلّما قبضته
ألقته في وجه أم ساعدة التي إرتبكت وخافت الفضيحة
أراد أبو ساعِدة أن ينسحِبَ بهدوء, خاصة بعد أن أهانته أم ساعِدة على رؤوس الملاء
فقال له أبو البنات السبع :
مهلا, و إعلم يا أخي, أنني لا أحبُ أن أراك في هذا الهوان والذُل
ولكنكَ لم تترُك لي خيارا, ولتعلم جيدا إن بناتي أذكى وأمهر من بنيك
الذين أهملت تربيتهم و تهذيبَهم
وبناتي تُراهِنُ أبنائك على السفر إلى البلاد البعيدة متاجِرين
وبعد شهرين يعودون جميعا, ويكونُ الشرف والمجد لمن ربِح أكثر وكسِبَ أعظم
فماذا تقول ؟
برِقت عينا أبي ساعِدة سرورا عندما سمع مقالة أخيه
وقال في نفسِهِ :
وبماذا ستتاجِر بناتُه, وليس لديهن مال, ولامتاع ؟
ولا يملِك أبوهن من السُفنِ سوى تلك الغنجة (من أسماء السفن) المتهالِكة
أما أنا فسأرسِل سبع سُفنٍ فائقة السرعة, قوية متينة, محملة بالبضاعة
لكل واحدٍ من أبنائي سفينته وبِضاعتَهُ الخاصة, وجملةُ من الخدم
فلمّا سأله القاضي عن ردِّه. قال :
نعم أوفِقَ على هذا الِرهان, وستنطلِقُ السُفن بعد خمسة أيام
قال أبو البنات السبع : لكن هناك شرطٌ جزائي
قال أبو ساعِدة : وما هو ؟
قال أبو البنات السبع : يشهد الشُهود على أنّ من ربح الِرهان
يكون من حقِهِ أن يفعل ما يشاء بِغرُمائه
كان أبو ساعِدة واِثقا من فوز أبنائه ,لأنّ لديهم مالا وفيرا
وحينئذٍ, يُمكنهم أن يجلدوا بنات عمِهم, أو أن يبيعوهن كجواري
فقال متلهِفا : قبلت كل هذه الشُروطَ, وليشهد الشُهود
فأنفضّت الجلسةُ وقد حار الكثير من الناس في أمر الصياد
عاد أبو ساعِدة وبنوه إلى قصرهم يملأهم الفخر والزهو
والشُعور بالتفوُقِ, وقد ظنوا و أعتقدوا بأنَّ الغلبة ستكون لهم
بينما عاد أبو البنات السبع إلى كُوخِهِ, واضِعا يده على رأسِهِ
وهولا يفهم لماذا أصرّت إبنته سعدى على هذا التحدى الصعب
عندما أتى الليلُ لم يتمكّن أبو البنات السبع من النوم, وغَرِق في الهم
وفي صباح اليوم التالي خرج من غُرفتُه, فوجد
ثلاثة من بناته يجهِّزن عدة و أدوات الصيد, كما يفعلن كل يوم
فأستغرب من ذلك, وسألهن : وماذا عن السفر ؟
فقلن له : إن سُعدى هي من أمرنا بالخروج للصيد
فناداها : سُعدى ... يا سُعدى ..., ولكنها لم تُجِبه
وعندما توجُهَ إلى غِرفتِها, وجدها تصلي, فأنتظرها
وبعد التسيلم, سألها بلهفةٍ وحُيرة :
ماذا عن السفر يا بُنيتي ؟ وبِماذا ستتاجِرن ؟
ولم أركِ جلبتي شيئا مما يتاجر به الناس
وماذ ستفعلن في البِلاد الغريبة, وأنتن بنات ؟
وأنى لي أن أطمئِن عليكن, و هي أول مرة تسافرن, ولوحدِكُنَّ ؟
ثم كيف لي أن أصبِر على بُعدكن و فراقكن ؟
أظنُّكِ يا أبني أخطأتِ هذه المرّة, ثم جلس يبكي وينتحِب
فتقَدّمت منه سُعدى ,وقبّلَت يده, وأخذت تُشجِّعه, وتشرحً
لهُ خُطَتَها, حتى إنشرح صدرُه, وإبتسمَ, ثم خرج, وهو يقول :
أيتها الماكُرة, رُفقا ببني عمِّكِ, فإنّهم ضحايا, لا ذنب لهم
عندما وصل أبو البنات السبع إلى الساحِل شاهد
أخاهُ مُمسِكا بعصا غليظة, يضرِبُ بها الخدم, وهو يحثهم على العمل
والسرعة في شحنُ السُفنِ السبع, فقال في نفسه :
أسألُ الله أن يهديكَ, وأن يمحو من قلبك البغضاء
وقف الناس يتفرِّجون على سُفنِ أبي ساعِدة , وقد شُحِنت بمُختلفِ
أنواع البضاعة, وهم يتعجبون لشأنِ البنات السبعِ وأبيهن
فهم لم يضعوا كيسا واحدا في سفينتهم, وقد إقترب موعد الإنطلاق
ولم يعد لديهم من الوقت هذه الليلة ...
فكانت الناس تشعر بالحُزنِ والرِثاء لهولاء المساكين
وعند منتصف الليل, وحين غفتِ العُيونُ, خرجت سعدى وأخواتها
وباشرنا تحميل سفينتهنّ ببضاعتهنّ, ثم عدنا إلى دارهنّ دون أن ينتبه أحد لهن
وفي ضُحى اليوم الموعود, خرج الناس كافة, ليشهِدوا إنطلاق السُفن
في رِحلة التحدى الكُبرى, فأقبل أبو ساعِدة وهو باسم الثغر مبتهجا
يتوسّط بنيه, يحف بِهم أخوالُهم, وأصدِقاؤهم, وخدَمُهم, والكثير من المنتفعين
بينما كان المُنشِدون, والمُغنون والراقِصون من ورائهم, وقد إرتفعت
أصوات الطبول والمزامير والأبواق, ورددوا الاهازيج وكأنهم في مهرجان
مشى أبو ساعِدة الخيلاء أمام الناس, منتشيا متعجرفا حتى وصل إلى البندر( مرفاء)

يتبع

إن شاء الله

ناجى جوهر
06-05-2013, 11:51 PM
أبو البنات السبع

الجزء الرابع عشر

ولمّا همَّ بالصُعود على ظهر سفينةِ إبنه ساعِدة, إنتهره القاضي ومنعه
وقال له : ليس من شأنك التدخل في الأمر, ودع إبنك يفعل كل شىء بنفسه
وبعد قليلِ أتى أبو البنات السبع ومن ورائه بناتُه وبعض الأصدقاء
كان الحُزن بادٍ على وجهه, والقلق يساوره, ومؤيدو أبي ساعِدة يرمُقونهم بنظرات
الإحتقار والإزدراء, وهم يتغامزون و يهمسون, ويتهمون البنات بالوقاحة والغرور
فلمّا أصبح كلُ فريقٍ على ظهر سفينته, صاح القاضي :
أرفعوا المراسي, فرفعوها ...!!
ثم إستطردَ : أنصبوا الأشرعة, فنصبوها ...!
ثم صاح بأعلى صوته : انطلقوا...
فأنطلقت سُفن أبي ساعِدة تمخُرُ عباب البحر, إذ أنها قوية متينة
حديثة الصنُع وعلى كلٍ واحِدةٍ منها أكثر من ثلاثة أشِرعة
أمّا سفينةُ أبي البنات السبع فكانت قديمة, ثقيلة كبيرة واسعة
و شِراعها قِطعة قُماشٍ بالٍ مُرقَّع, فكانت أبطىء من سُلحفاة
وهذا ما جعل أبا ساعِدة و أنصاره يضحكون, و يسخرون من سفينة البنات
عندما غابتُ السُفنُ عن أنظار الناس في البندر, تفرّقوا
وذهب كلٌ إلى شأنِه, وبقي أبو البنات السبع جالسا لوحده, تفترسه الأحزان
يُراِقبُ الأفق وقد غمره القلق والهمّ, وتملَّكه الخوف والوجل ...
ثُمَّ دخلَ الليل ولم يُغادِر مكانه, على أمل أن تتراجُعِ بناتِهِ عن
هذا الرِهان الذي يظُنُه خاسِرا, فيسعد بعودتهنّ ولن يُبالي بسخريّة الساخِرين
أما أبو ساعِدة فقد جلَس مع أصدِقائه, وشرع يُروِج لفوزِ بنيه الساحق
ويُبشِّر بعودتهم الحميدة, سالمين غانمين مُظفَّرِين
وقد باعوا و أشتروا, وجنوا الأرباح الهائلة, وكسبوا المجد والحمد
فكان الناس يقولون له :
لا تستبِق الأحداث يا أبا ساعِدة وإنّ غدا لناظِرِه قريب
فيضحك ملءُ شدقيه, ويقول: أنا متأكد من هذا
مضت بِضعةُ أيامٌ على البنات, قبل أن ترى أعيُنهُنّ برا ولا يابِسة
وفقدن الأمل في الِلحاق بِسفنِ بني العم, ولكنّهن بقينَ عازماتٌ على الإستمرار
مُصِرات على المُضي حتى النهاية, ولم تَهن عزيمتهن, ولم تضعف حماستُهن
ولم يخبوا أملُهُنَّ في تلقين, عمَهُّنَّ وأبنائه السبعة, درسا قاسيا, وعقوبة مؤلمة
تردعهم عن الغي والبِطر
أمَّا ساعِدة فقد إصطحب معه على مِتنِ سفينتِه عددا من المُغنين والمُهرَّجين
يُحيُون لياليهم طربا وسمرا حتى الصباح, و يُقيمون المآدِب, ثُّم ينامون معظم النهارا
وكانوا يُسرفون في إستُخدام الماء العذبِ, وتبديد الموؤنة
فإذا إحتجَّ النوخذةُ(ربان السفينة)على هذا التبذير والإسراف
قال لهُ ساعِدة : وما شأنُكَ أنتَ ؟ إنها سفينتي, وأنا حُرٌ فيما أفعل
وكانت حمولة سفينته من الحلوى العمانية, واللؤلؤ البحريني والعقيق اليماني
و كمِيات كبيرة من عاج الفِيَلة الكينية, والفصوص الصقلية
وجلود السلحفاة
بينما كانت سفينة سعود قد شحنت بالأسماكِ المُجففة, والجُلود والحطب
أما سعدونٍ و سعيد فبالسمن البلدي وباللُبان والبُخور والكندر قررا المُتاجرة
وفضّلَ سعد و سعدان أن يُتاجِرا بالصفيلح (أذن البحر)
وحمَّلَ سعدي سفينته بالخيول العربية الأصيلة
كان الإخوة السبعة يُبحِرون سنجارا (مُتجاورين) ليُساند بعضهم بعضا
ومع بُزوغ فجِر اليوم التاسِع من الِرحلة, بدأت تلوحُ لهم في الأفق البعيد
أماراتٌ مُنذِرة بهبوب عاِصفةٍ قوية, فها هي الرياح تشتدُّ شيئا فشيئا
والسماء تتلبَّدُ بالغيوم, والبحر مضطرب, والأمواج تزدا إرتفاعا وعنفا
وسُرعان ما هبّت العاصفة وزمجرتِ الرياح و إرتفعت ألأمواج
وأرعدتِ السماء رعدا هادر تتصدع منه القلوب, وترتعد منه الفرائص
وأبرقَت برقا يخطُف الأبصار, وهاجت الأمواج حتى أمست كالجبال العالية
وإنهمر المطر كأفواه القرب, فتمايلت السفن, وترنَّح رُكابها
وتدفَّق إليها الماء من جوانبها, وتمزقت الأشرعة, و إنقطعت الحبال
وصاح الركاب خوفا وهلعا, وحين أطبق الظلام الدامس, زاد صراخهم
فلمّا عاين الأخوة السبعةُ ذلك, إنخلعت أفئدُتهم فرقا و رُعبا

يتبع

إن شاء الله

أمل فكر
07-05-2013, 08:25 AM
جميل
تزداد الرواية حماساً أكثر فأكثر


في الانتظار،؛،

ناجى جوهر
13-05-2013, 10:51 PM
أبو البنات السبع

الجزء الخامس عشر


ولجأوا إلى قمرات سفنهم (غُرف القيادة) وأختبئوا فيها خُذلان وجُبنا
وتقاذفت الأمواجُ السُفنَ السبع, ودفعتها الماية (التيارات المائية) والرياح
في إتجاهات شتى طوال الليل, ومع طلوع النهارُ, وبعد سكون العاصفة
كانت السُفن السبع, قد تفرّق شملها, وتبدد جمعها, وعندما أضحت الشمس
أدخل ساعِدة سفينته إلى خليج صغير, وهناك قام بترميمها, ثم إنتظر لم الشمل
أما سعيد و سعد و سعود و سعدان فقد تمُكنوا من مواصلة الرِحلة إلى الشرق
بعد ان تجاوزوا العاصفة بسلام, فوصلوا إلى بندر سيراف في بلاد فارس
وذلك بعد إثنتى عشر يوم من الإبحار, وهناك وجدوا أنَّ المُلكَ
صار في يدِ رجلٍ ظالم, يُدعى علي بن بدرى نسبة إلى أمه, فأستولى على سُفنِهم
وزج بهم في غياهب السجون, وكان هذا دأبه مع السفن التي تصل إلى بندر"سيراف"
أما سفينة البنات فقد مرّت بها العاصفة قبل أن يستفحل أمرها, ويشتد خطرها, فدفعتها
الرياح إلى الأمام بسرعة عظيمة, بينما كان الجان الصالح يوجه دفتها بأمان وسلامة
فسُرت البنات, وأوصلتهنَّ الرياح إلى جزيرة نائية, تسمى "سرنديب" و لكنهن حظين
بإستقبالٍ فاتر من قبل التجار, وقيل لهن : إن هذه الجزيرة قد تعرّضت للسطو
المسلح من قبل القراصنة البوذيين , فقتلوا ونهبوا وخربوا فأفلس تجار الجزيرة
وأنه بإمكانهن حمل بضاعتهن, على الحمير والبغال, إلى المناطق الجبلية
وأن أهالي الجبال بحاجة ماسة إلى بِضاعتهن, حيث كانت حمولة سفينتهن ملحا أجاجا
لذلك وحين وصلت البنات بمرافقة الأدلاء والمترجمين إلى تلك القرية الجبلية
فرح القرويون بقدومهن, وذبحوا الذبائح, وأقاموا الولائم والمأدب وشروا بضاعتهن
مقايضيين الملح مقابل اللحم المُقدد, وجواني (أكياس واسعة) الرز والعدس والبُرّ والشعير
أقامت البنات السبع ومرافقيهنَّ ثلاثة أيام في ضيافة القرويين, ثم عادوا إلى البندر
فوجدن الحراس المكلفين برعاية سفينتهنَّ, قد قاموا بترميمها, وحمل الماء اليها
فشكرنهم وقدَّمن لهم المزيد من الجوائز والهبات
ثم حمَّلوا البضاعة الجبلية إلى الخنَّ(بطن السفينة)
وبعد أيامٍ خمس قضتها سفينة البنات في جزيرة سرنديب
(سيرلانكا) عزمنَ على مواصلة رحلتهن
ومقصدهن الوصول إلى ميناء الزيتون في الصين
ومرادهن شراء كميات كبيرة من الأدوات الحديدية و الفخار الصيني و الحرير
والحديد الملون، والديباج, والدار صيني, ثم العودة بها إلى أرض الوطن
حيث بإمكانهن جنيَ الأرباح المضاعفة من بيع هذه المواد المرغوبة في مدينتهن
فنشرن أشرعة السفينة التي أشترينها من جزيرة سرنديب وأنطلقنا بحول الله
لكنَّها المرة الأولى التي تسافر فيها البنات, لذلك فقد عُدنا بسفينتهن إلى الغرب
وهنَّ لا يُركنَ ذلك
كان سعدون و سعدي قد ربَطا سفينتيهما معا, بحبالٍ متينة قبل هبوب العاصفةِ لكي لا تفتِرقا
فظلَّت سفينتاهما متجاورتان, ومترابطتان, وعندما إشتدَّت العاصفة إنقطعت الحبال فجأة
فأندفعت السفينة المتقدِمة بسرعة إلى الأمام, وتراجعت السفينة الخلفية بقوة وعنفٍ
حتى غاصت مؤخرتها في البحر, فصاح بحارتها, وبكوا وضجّوا, ورفعوا أكّف الدعاء
وأمرهم النوخّذة بالتوجه إلى مقدمة السفينة, حتى تتوازن وتعتدل, ولكن السفينة كانت تغرق
فقفز الناس إلى الماء, وتمسّكوا بما طفى إليهم من الواح, وقِرب وتشبثوا وتعلَّقوا بها
ثم إن سعدي وبحارته إنتبهوا لغرق سفينة سعدون فأداروا الدفّة عاجِلا
وعادوا من فورهم حتى وصلوا إلى الغرقى, وألقوا إليهم بالحبال والقوارب
وأصعدوهم إلى ظهر السفينة, فزادت حمولتها وثقُلت وتمايلت وأضطروا إلى
رمي بعض البِضاعة في البحر, لكي لا تغرق سفينتهم أيضا, ثم أبحروا مضطرِبين
وبعد أيامٍ ثلاثة كانت موؤنتهم قد نفِذت, فأقتاتوا على ما يصطادون من أسماك
وشرِبوا من مياه البحر المالحة, فأصابت مُعظمهم الصفراء وأيئسوا من النجاة
وفيما هم في نكبتهم, لمح بعضهم سفينة البنات السبع تتقّدمُ بإتجاههم

يتبع

إن شاء الله

ناجى جوهر
20-05-2013, 10:24 PM
أبو البنات السبع

الجزء السادس عشر

ففرحوا وأستبشروا
وبعد طولِ إنتظارٍ غدت تِلكَم السفينة على مقربة منهم
فعجَّوا بالصراخ, ولوّحوا بأيديهم
وضجَّوا بالبكاء ,وطلبوا من البنات مدّهم بالماْءّ والقوت والغذاء
فقالت لهم سُعدى : الماءُ والزاد مُقابل بِضاعتِكم
فوافقوها على الفور
وأرسلوا قواربهم وقد حملوها بالسّمن البلدي وباللُبان والبُخور وغيرها
وبعد أن أفرغوها في سفينة البنات
ملئوها بقرب الماء وأكياس الرز والعدس واللحم المقدد
ثمَّ قرروا العودة إلى أرض الوطن
وأعلم سعدي بنات عمه بالوجهة الصحيحة فأدرن الدفة
إلى الشرق
ولما وصلت سفينة سعدي إلى بندر مرباط
أستقبلهم أبو ساعِدة بالتوبيخ والإنتهار و الإحتقار
بينما أمضى ساعِدة ثلاثة أيام في ذلك الخليج
منتظِرا قدوم سفن إخوته, فلما لم تظهر
أمر النوخذةُ بحارته بنشر الأشرعةَ ورفع المِرساة والإنطلاق إلى وِجهتهم
ولكن ساعِدة إعترض, ومنعهم قائلا :
سوف نحتفل أولا بنجاتنا من الهلكة, ثُّمَّ يمكننا أن نلحق بسفن إخوتي المُتقدِمة
فأرخى البحارة حبل المرساة, وطووا جميع الأشرعة
وذبحوا الذبائح وأقاموا الموائد
وكأنهم في قصر أبي ساعِدة, وليسوا في عرض البحر
وأمضوا نهارهم في أكلٍ و شُربٍ و رقص وغناء ولهو وطرب
وبينما هم في غفلتهم تلك و لَعِبهم ذلك, وقد أوشكت الشمس على المغيب
شاهد بعضهم سفينة البنات السبعِ, أمام سفينتهم
تتهادى و تجري ببطء شديد فعرفوها, وأعلموا ساعِدة بذلك
فجن جنونه, وأمر برفع الأنجر(المرساة)
ونشر الأشرِعة كلها, والإنطلاق لكي لا تسبقهم سفينة البنات
فقال له النوخذة : لا يُمكننا الإبحار الآن, وقد غابت الشمس وحلَّ الظلامُ
وليس بمقدوري تحديد مسار السفينة ليلا, ما لم أكن قد أبحرت قبل الغروب
فغضِب غضبا شديدا, وأرغى وأزبد, وتهدد وتوَّعّد لكن البحارة عاندوه
ولم يكد ينبلج فجر اليوم التالي, حتى خرج من قمرة النوخذة, وأخذ
يصيح بالبحارة : أرفعوا المرساة ... أنشروا الأشرعة ... جدِّفوا بقوة
يجب أن نسبق سفينة البنات السبع, التعيسات البائسات, هيا يا رجال
وبعد ساعة من الوقت شاهدت البنات سفينة تلاحقهن, ففِرحنَ كثيرا
وقد حسبنها سفينة سعدي عادت لمرافقتهنَّ
وما هو إلا قليل, حتى كانت سفينة ساعِدة تقترب من سفينتهن
فأبطين السرعة
ووقفت سُعدى على مقدم السفينة وصاحت بأعلى صوتها :
يا أبن العم ... أخرج إليَّ أكلمُك ...
فخرج ساعِدة رافعا راية الغرور, وقد أرتدى ملابس أنيقة
و تمضَّخ بالعود والغالية ووقف أمامها مُعتدا بنفسه
ثم أشار إليها بيده إشارات إستعلاء و إستخفاف أن انصرفي
فسألته سعدى : أتحتاج إلى عونٍ منا أو مساعدة, يا أبن العم ؟
فغضِب غضبا عاصِفا, وأخذته عِزَّة زائفة, وقال :
أمِثلي يحتاج إلى مِثُلكِ أنتِ ؟
أُغرُبي عن وجهي, قبل أن أنالك بالعُقوبة ...
فقالت له : سوف تحتاج إلىَّ يوما, يا إبن العم, ولن أرُدك
ففتح ساعِدة بوابة شتائمه على مصراعيها, لا يردعه عقل ولا ضمير
أما سُعدى فقد أمرت أخواتها برفع الشراع الجديد, ومواصلة الإبحار, وفي
قلبها حُزن وأسى على ما تشربته نفوس أبناء العم, من حقد وكراهية
فبكت شفقة عليهم, ورحمة بِهم, فهم ضحايا الحسد والغيرة العمياء
ولم تغرُب شمس ذلك اليوم حتى كانت سفينة ساعِدة قد تركت سفينتهن ورائها
فأنتشى ساعِدة وطرِب, وأراد أن يقيم مأدبة فاخِرة كعادته, فقال له الطهاة :
لا يوجد ماء كافيا, ولا لحما ولا أرزا... فبهِت, و تباغت وحار
ثم توجه الى النوخذة, وشكى اليه الطباخين, فقال له :
إنها سفينتك, وانت حر فيما تفعل, فسكت نادِما على ما بدر منه
ثم إنَّ النوخذة أعلمه بان الماء والطعام لن يتوفرا لأكثر من يومين, بسبب الإسراف
فقال ساعِدة : وما العمل ؟
قال النوخذة : ليس أمامنا سوى انتظار سفينة البنات السبع, وأن تطلب منهن مددا
فغضب ساعِدة وقال : فإني أُفضِّل الموت جوعا, على أن أستغيث بهنَّ
لكنَّ الطعام والماء نفذا من السفينة, ولم يتحمّل رفاقه الجوع والعطش طويلا
فضج المهرجون, وتماوت المغنون, ولاموه, و عاتبوه على الكبر والعناد
فأسقِط في يده, وتوجّه إلى النوخذة, وطلب منه التوقف, و الإستنجاد بالبنات
وحين إقتربت سفينة البنات السبع من سفينة ساعِدة, ضج بحارته ورفقاؤه
و أستغاثوا بهن, وشكوا إليهن قلة الماء والقوت على سفينتهم, وتوسلوا إليهن
طالبين الرحمة والغوث من الله ثم منهن
فقالت لهم سُعدى : إن سفينتنا مليئة بالماء والزاد, فإذا طلب عمارة ذلك منا
وهبنا لكم ماشئتم
فأقبل ساعِدة مطأطأء رأسه, ثم قال بصوت متحشرِج :
رفقا يا أبنة العم, فإني سأبتاع منك ماء و زادا
فقالت : لك ما تريد, فأرسل إليَّ قاربا مملوء بالحلوى العمانية
واللؤلؤ البحريني, و سأعيده إليكم مملوء بالماء العذب والطعام
فرح رفاقُ ساعِدة بالماء والطعام, وأخذوا يسرفون في الأكل والشرب
حتى نفذ ما لديهم في وقتٍ قصير, فأنتظرواسفينة البنات للمرة الثانية
فقلنّ لهم :
لم يبقيَ لدينا من الطعام والشراب الا القليل, ولا يمكننا بيعه, أو إعطائه لكم
فبكى ساعِدة و رِجاله, وخافوا الموت جوعا وعطشا, وهم في عرض البحر
فشرعوا يتوسلون إلى البنات, واحدة تلي الأخرى حتى أشفقن عليهم, ورحمنهم
فقالت سُعدى:

يتبع

إن شاء الله

ناجى جوهر
27-05-2013, 11:18 PM
أبو البنات السبع

الجزء السابع عشر

سوف نهبكم نصف ما لدينا من المؤنة
على أن تُعوِّضونا عن ذلك بكلِ حمولة سفينتكم من البضائع
فوافق ساعِدة دون تردد, إذ خاف نقمة البحارة وصولتهم
ثم قرر العودة إلى الوطن, بعد أن خسِر ماله, وجهِل مصير إخوته الستة
وفي بندر مدينة مرباط وبعد أيام شاهد الناس سفينة مقبلة, وأبلغوا أبا ساعِدة
فجاء مسرعا وهو يظن ان أحد بنيه قد نجح في مسعاة, وعاد فائزا مُظفّرا
فلمّا عرف ما جرى لإبنائه, أصيب بخيبة أمل مريرة, ومرض مرضا عضالا
في ذات الوقت أراد أبو البنات السبع أن يسأل إبن أخيه ساعِدة ورفاقه
إن كانوا قد رأوا البنات السبع, ولكّن أبو ساعِدة أمر خدمه بمنعه من الإقتراب
ثم إن النوخذة الذي رافق ساعِدة طمأنه على بناته, وأبلغه أنهن
يبحرن بسلامة, وقد ربِحنَ حمولة سفينتين من البِضاعة النفيسة فأرتاح باله قليلا
أما سفينة البنات فقد دفعتها الريح الطيبة’حتى أوصلتها إلى جزيرة تسمى"ملقا"
في ماليزيا, وهناك حظين بمعاملة طيبة, ولكنهن لم يبعن شيئا من بضاعتهن, لكساد السوق
فواصلن رحلتهن إلى ميناء كانتون جنوب الصين, وبعد أيام من الإبحار وصلن إليه
فوفقهن الله لبيع حمولة السفينة, من الخيول و اللؤلؤ البحريني والعقيق والعاج و الكندر
واللُبان والبُخور والحلوى العمانية, وغيرها مما كان مع ساعدة وأخيه سعدي
ثم أبلغهن بعض التجار العرب بما جرى على أبناء عمومتهن, في يندر سيراف
وحذَّروهن من الإقتراب منه, وعندما قررن العودة إلى أرض الوطن, ذكَّرتهن
سعدى بالهدف الأساسي من هذه الرحلة, وهو إثبات مقدرتهن على منافسة الفتيانبل والتفوق عليهم
فلما سألتها أخواتها عما تعتزم فعله, قالت لهن :
سوف نكتري سفينة صينية, ونحملها بالذهب والعطور, والحرير و الديباج
والشاي والتوابل, والحديد الملون, والعود والمسك, والدار صيني
ونرسلها إلى بندر مسكت وهناك تنتظر قدومنا, أما نحن فيجب علينا أن
نحرر أبناء عمنا المحبوسين لدى علي بن بدرى في سيراف فوافقنها
ثم إستأنفت البنات رِحلتهن, بعد أن حُزنَ على بِضاعة كثيرةٍ و متنوِّعة
وبعد أيامٍ من الإبحار, لاح لهنَّ بندر سيراف في بلاد الفُرس, فلبِسنا لبس الرجال
وتنكَّرنَ على هيئتهم, وتقلّدن السيوف, وشددنَ الألثمة السوداء على وجوههن
فلمّا صارت سفينتهن على مقرِبةٍ من البندر, إعترضتها سفن السلطان الجائر
وعلى متنها العساكر والمُفتّشون, ثم إقتادوا السفينة, حتى أدخلوها إلى المرفاء
وهم يحسبون أن طاقم السفينة رجالا, عند ذلك دلف إليها وكيل السلطان, وسأل
عن حمولة السفينة فأنزلته سُعدى إلى الخنَّ (بطن السفينة) فذهل حين رأى
سبائك الذهب,و الأحجار الكريمة, وقناني العطور والعود والمسك, وطيات الحرير و الديباج
والكافور والزباد, ومختلف أنواع التوابل, والحديد الملون, والدارصيني, والأدوات الحديدية
ونزل مسرعا إلى سلطانه الذي دعاهن إلى قصره, وأقام مأدبة حضرها شخصيا
لغرض في نفسه, وكان مقصده المكر بهن وحبسهن
ولكن سُعدى كانت قد علمت من رجلٍ صالح بما جرى على بني عمها
وعلى سفنٍ أخرى, فأحتاطت من ظلم الحاكم ومكره
فأرسلت اخواتها إلى منزل ذلك الرجل الصالح سرا, وإتفقت مع جنِّ أمها على
أن يرافقها ستة منهم إلى قصر السلطان, وقد تشكّلوا على أنهم بحارتها
ثم نزلت مع الرجال الستة, وتوجّهوا إلى قصر الحاكم, إستجابة لدعوته
وحين صافحها علي بن بدرى وتلامست راحتيهما, شعر بشعور غريب
وبعد إستقبال الضيوف, وخلال الإستراحة, تمكّنت سُعدى من رِشوة
كبير خدم علي بن بدرى فأعطاها خاتما من خواتم الحاكم, لأنه كان يكرهه
وفي الليل وبعدما أوى الضيوف إلى مضاجعهم, إختلى على بن بدرى بأمه
وكاشفها وصارحها بما يختلجُ في صدره من شكوك بشأن كبير الضيوف
فلما سألته أمه عن شأنه, أجابها بأنّه يظّنُه فتاة عذرى, وليست رجلا, فهو
جميل جمالا أُنثويا, يتمايس في مشيته, كحيلة عيونه, ناهد صدره, مسترسلا شعره
فقالت أمه الخبيثة : بعدما ينام ضيوفك, مر خُدامك بوضع إنائين على رأس كل
واحد من الضيوف, إناء فيه ماء, وإنا آخر فيه طعام, فإناء الأنثى لن يفسد طعامه
وهكذا فعل الخادم, ولكنهم في الصباح وجدوا كل الآنية قد فسد طعامها وشرابها
إذ قامت سُعدى بإستبدال إنائها, بإناء جارها, قبل أذان الفجر بساعات
إحتار الحاكم, ولكنه لم يقتنع بعد, فهو متأكد من أنها فتاة عذرى, فعاد إلى أمه
فنصحته بتقديم طعاما حارُ لضيوفه, ولن يكون بمقدور الفتاة تناول الطعام الحار
ولكنه فغر فاه عندما لاحظ ان الجميع يتناولون طعامهم بلذة و شيهة مفتوحة
فقد إستعانت سُعدى بجانِّ أمها, فكان أحدهم يلتقم اللقمة قبل أن تصل إلى فمها
فشعر على بن بدرى بالقهر والإخفاق, وعاد إلى أمه الماكرة, وأخبرها
فمدته بالعديد من الحيل والألاعيب, ولكّنَ سُعدى تمكَّنت من تفنيدها وإفشالها جميعا
فقالت أم الحاكم : لم يبقى في جُعبتي, سوى حيلة أخيرة
قال إبنها : أسعفيني بها يا أماه
فقالت له : أدعو ضيوفك للسباحة في حوض القصر غدا, على مرأى ومسمع منك
وحينها سيتحقق مناك, وسوف تظهر و تبان علامات جسدها الأنثوية دون شك
وعندما عُرضت الدعوة على الضيوف, أبدى الجميع سعادته لهذه الدعوة الكريمة
وفي أثناء الإستعداد للنزول إلى حوض السباحة, أرسلت سُعدى ذلك الخادم الخائن
وطلبت منه المرور على حوانيت الحاكم, وأن يُحمل سفينتها, وسُفن أبناء عمها
بما خفَّ وزنه, وغلى ثمنه من مجوهرات, وأحجار كريمة, ومصوغات وحرير
مستخدِما خاتم علي بن بدرى ومن ثم يطلق سراح بني عمَّها المحبوسين
ويأمرهم بالرحيل مع أخواتها, وأنها ستلحقُ بهم في عرض البحر, عندما تنتهى
من تلقين ذلكم الحاكم الظالم درسا لن ينساه
ثم أمرت جنيا من جن أمها بالوقوف بجوار مِظلَّة الحاكم, وحين
يشاهدها قد نزلت إلى الحوض, فعليه إسقاط المِظلة على رأس علي بن بدرى

يتبع

إن شاء الله

ناجى جوهر
03-06-2013, 11:27 PM
أبو البنات السبع

الجزء الأخير

وإحداث الكثير من الفوضى والهلع, ومن ثم يطير بها إلى سفينتها عندما تأمره
وهذا ما حدث فعلا. وشاهد الحاكم ضيوفه جميعا في الحوض يسبحون
وعندما أراد أن يدقق النظر في الفتاة, هوت المظلة فوق رأسه
فذهل وأنشغل في النجاة بنفسه, وهو يستشيط غيظا وحنقا
في تلك الأثناء خرجت سُعدى من الحوض, و كتبت على حائط المجلس:
{دخلت عذرى, و خرجت عذرى, على رغم أنفك, وأنف امك, يا علي بن بدرى}
ولم يغب نهار ذلك اليوم حتى كانت السفن الخمس, تسابق الريح في عرض البحر
و عندما سكن روع على بن بدرى أراد أن يتفقد ضيوفه, ولكنه أصيب
بخيبة أمل مريرة, عندما عثر خدمه على الكتابة التي تركتها الفتاة ورائها
وفيما هو متفكِرا في أمرها, جأته أنباء إطلاقها سراح المحبوسين, وسطوتها على
حوانيته, ومغادرتها البندر منذ ساعات, فأهتاج , وثار في قلبه الغضب, وأقسم
بكل مًقدّسٍ لديه, على أن يلحق بها إلى بندر مرباط وأن يقتلها, و أن يشرب من دمها
أما البنات السبع و رفاقهن, فقد واصلوا إبحارهم إلى بندر مسكت فوصلوه
في مُدّة وجيزة. إذ كانت الجِّن تسبح بالسفن وتدفعها من ورائها
ثم إنّ البنات إصطحبن السفينة الصينية التي سبقتهن, وغادرن إلى بندر مرباط
كانت الرياح مواتية, ولذلك لم تستغرق رحلة العودة سوى ستة أيام
وفي اليوم السابع شاهد المرباطيون الجالسون على رمال الفرضة (ميناء مرباط)
سفن سِتّ, تتقدمها سفينة سعود بن أبي ساعِدة, فهرع البعض يبشره
بمقدم أبنائه الغائبين, فأتى على عجلٍ, يجر ردائه تيها وعجبا, وقد أرسل
إلى زوجته من أنبأها بعودة الأبناء المظفرين, فأتت تزفها خادماتها
وهن يغنين, وينشُدن الاشعار, ويضربن الدُفوف وكأنها عروس الموسم
وحين علم أبو البنات السبع بقدوم السفن, أراد أن يسأل عن بناته
فتعرَّض له أبوساعِدة وأهانه, وأسمعه ما يكره, ثم إنصرف عنه
تاركا إيّاه يبكي, خوفا على بناته
وبينما هو في حزنه وخوفه وبكائه, أتاه بعض الصبية, وأكدوا له
أنّهم شاهدوا سفينة بناته, وهي تتقدم نحو الفرضة, تكاد تغرق من ثقل حمولتها
فكفكف دموعه, وأخذ يجري بإتجاه رأس زهير(قبر صحابي مُزار في مرباط)
حيث يمكنه رؤية السفن بوضوح, وعندما شاهد بعينيه سفينة بناته
أخذ يلوح لهن, ويناديهن, فسمعت البنات صوته, ورأينه يقف وحيدا
فوق حصاة عبد الله (موقع سياحي في مرباط)
فأرسلنا إليه أحد الجِّن الصالح الذي طار به
وأوصله إلى سفينة سعود, فوجد بناته, وبعد البكاء والعناق
حكت له سعاد عن كل ما جرى عليهن, منذ إنطلاق السفن
وحتى هذه اللحظة, فحمد الله, وسجد سجدة شكر لله تعالى
ثم نزل إلى السفينة الأخيرة, والتي فيها أبناء أخيه, فسلَّموا عليه
وأعتذروا إليه, وأبدوا رغبتهم في بناء علاقة جديدة معه ومع بناته
أما أبوساعِدة وزوجته, فكانا يوزعان الحلوى والنقود, وهما
يظنان أن تلك السفن هي سفن أبنائهم, وقد طاشا كبرا وغرورا
وعندما أرست السفن في الفرضة, بادر إليها وكيل الوالي, فأستقبلته سعدى
وأبوها وأخواتها, وأخبروه بأن السفن, وما فيها هي ملك للبنات
فنزل مسرعا, ثم توجُه إلى الوالي والقاضي, وأبلغهما الخبر فسرا سرورا عظيما
ثم إن البنات السبع و أبوهن نزلوا على متن الجالبوت(قارب خشبي)
فلمَّا عاينهم أبو ساعِدة ورأى أخاه وقد لبس دشداشة صورية
مطرّزة بال"زري"وخيوط الفضة, وتخنجر بخنجرٍ"نزوانية"
وتعممَ بعمامة "كشميرية"ولف حول جسمه "بشت"من بشوت الشيوخ
ولبس في رجليه حذاء مصنوعا من جلود التمساح, وقد أمسك بخيزران
ملبس بالفضة والصفر(النحاس) وهو واقف بفخرٍ و إعتزاز, وحوله بناته
أغمي على أبي ساعِدة ولما فاق أخذ يفرك عينيه غير مصدِّق
ولما لم يشاهد أبنائه, أصابته لوثة, وأخذ يسأل الناس :
هل رأيتم أبنائي ؟
أين سفنهم؟ أين أموالي؟
ماذا فعلوا بها ؟
وراح يبكي في حرقة ومرارة, ثم توجه إلى أم ساعِدة مغضبا
فوجدها في حالٍ أسواء من حاله, فقد مزَّقت ثيابها, وحثت الرمال
على رأسها, وبركت على الساحل مثلما تبرك الناقة, وهي تنوح وتولول
فوقف أبو ساعِدة أمامها, ثم قال لها ما كان ينبغي ان يقوله سابقا:
أنتِ سبب بلائى وشقائى, لقد أفسدتي علاقتي بأخي, وضيعتي أبنائى
وتحكمتي ... وبينما هو كذلك نزل أبو البنات السبع إلى اليابسة
وذهبت بناته إلى الدار, ترافقهن بنات ونساء الصيادين والأطفال الأيتام
بينما أسرع أبوهن إلى أخيه, وأنفرد به يحدِثه, فرأى الناس
وجه أبي ساعِدة وقد تهلل وأشرق, ثم عانق أخاه وهما يبكياني
والناس لا تفهم شيئا
ثم إنهما ركبا في الجالبوت وتوجَّها إلى السفينة الأخيرة, وبعد برهة
عادا برفقة سعود وإخوته الثلاثة, وقد لبسوا ملابسا حسنة
فلما رأتهم أمهم, نزلت إلى الماء, وأخذت تحاول السباحة, فلم تفلح
فلما نزلوا عانقتهم, وقبّلتهم, وهي تبكي
ثم أمر الوالي بعمل وليمة كبيرة, وأحتفل الناس بهذا الحدث الجميل
ثم إن أبا ساعِدة تقدّم إلى أخيه وطلب منه تزويج بناته من أبنائه فوعده خيرا
إستمرَّت الإحتفالات لمدة يومين, وفي اليوم الثالث صباحا شاهد الناس
سفينة كبيرة ضخمة, تدخل فرضة مرباط فهبوا لأستقبالها, وتسآلوا
عن شأنها, وبعد قليل نزل منها رجل يبدو كملك أو سلطان
قد أحاط به العساكر, المدجدجون بالسلاح, فأستقبله والي المدينة وشيوخها
وبعد مراسم الحفاوة والإستقبال, سأله الوالي :
من تكون أيها الرجل المبّجل؟
فرد عليه : أنا علي بن بدرى صاحب سيراف وملكها
وقد أتيت بحثا عن سبع أخوات, زرنَ بلادي منذ شهر
وأعجبت بمهارتهن وشجاعتهن, وأرغب في الزواج من أميرتهن
فلما سمع الوالي منه هذا المقال, أرسل إلى أبي البنات السبع
فجاء على الفور, وحين طلب منه علي بن بدرى الزواج من إبنته, قال له :
إنني قد وعدت أخي, فإن رغب إبنه عن إبنتي, فلك ما تريد
فذهب علي بن بدرى إلى سعيدان الذي تنازل عن إبنة عمه
مقابل أموالا جزيلة, فتم عقد قران علي بن بدرى على سعدى
وفي ليلة الدخلة عزم علي بن بدرى على الفتك ب سعدى إنتقاما منها
فهي الوحيدة التي قهرته وأذلته, وداست كبريائه
كانت سعدى تعلم هذه الحقائق, وتعرف أن مراده قتلها, لذلك أخذت حذرها
وقبل دخول العريس إلى مخدعها, عمدت إلى قربة كبيرة, وملأتها
عسلا, ثم البستها ثوبا, وأجلستها على هيئة آدمية, بينما إختبأت هي
تحت السرير, وحينما دخل "علي بن بدرى" وشاهد القربة, ظنَّ أنها
غريمته "سعدى" ولشدة حقده, إستلَّ خنجره, و وجاء بها عنق القربة
فأندلق العسل, و حين أراد أن يشرب من دمها, وجده عسلا مصفَّى
فقال نادما : إذا كان هذا طعم دمك, فكيف بطعم لحمك ؟!!
وجلس يأسف على تسرعه في قتلها
فلما شاهدت الفتاة ذلك, خرجت من تحت السرير, وقد لبست الحلل
البهية, وتزينت بأجمل زينة, وتمضّخت بالمسك والصندل والبخور
كأنها حورية نزلت من جنان الخلد, متورّدة الخدين, بارزة النهدين
فلمّا رآها "علي بن بدرى" واقفة أمامه, طار لبه, وهام فيها حبا
فوقع عليها, ولما قضى وطره, قال لها :
أنشدك بالله, إلا أخبرتيني لماذا فعلتي ما فعلتي بي؟
فقصت عليه الحكاية من بدايتها, إلى نهايتها, فزاد إعجابه وحبه لها
ثم بعد أيام تم زفاف أخواتها على بني عمها, وسافرت هي مع زوجها
وعاشوا في هنا وسرور, وهكذا الحياة تدور.

والى اللقاء مع حكاية

التوأم

كتبها / ناجي جوهر
سلطنة عمان

أمل فكر
02-10-2013, 11:53 AM
ما شاء الله رائع ائع جداً، وفوق الرائع
رجعت المنتدى وأنا أبحث عن بقية أجزاء هذه القصة، ووجدتها ولم أندم على أنتظاري وتكميلتي بقية قصة البنات السبع
؛ فهي شيء يستحق بالفعل القراءة وتجذب المرء أو القارئ على القراءة والمواصلة لما تشده الأحداث التي في القصة،

بصراحة من لم يقرأ هذه القصة فقد فاته الكثير من المتعة القصصية المتمثلة هنا في قصتك المجزئة هذه أبو البنات السبع

أعجبتني المصطلحات القديمة والتي تعد موروثاً عمانياً جميلاً، وطبعاً من الرائع شرح معناها بين قوسين، مثل:
(خن، وبندر مسكت أي مسقط، الجلبوت،...)
وأعجبني ذكرك اسماء ومواقع حقيقة لأغلبها أثر تاريخي..
أخي أنت كاتب تكتب قصص تستحق النشر والقراءة وأن يكون لك قراء بحق يحبون بحق قراءة (القصة أو الرواية أو الحكاية)

أترقب قصة التوأم، لدي فضول في قراءة لذات الكاتب لربما بذات الأسلوب أو بأسلوب مختلف
؟؟
:rolleyes:

أطرائي الصادق
تقديري أمل فكر#

ناجى جوهر
12-10-2013, 12:15 AM
السلام عليكم أمل فكر
أشكرك عظيم الشكر
و يشرفني إنطباعك
و يسعدني أن يقرأ لي
المثقفون من أمثالك
آمل أن تجدي المتعة و الفائدة
في الحكايات القادمة
أكرر شكرا و إعتزازي بشهادتك
و تقبلي تحياتي