المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حين يكون العلمُ مجرّد سلعة..!!


سالم الوشاحي
05-02-2013, 06:42 AM
حين يكون العلمُ مجرّد سلعة..!!


د. صالح الفهدي
إذا أصبحَ العلمُ مجرّد سلعةٍ يُقصدُ من وراءها التربّح الماديِّ، فانعِ العلمَ، واقرأ عليه الفاتحة وتقبّل فيه العزاء..! فإن للعلمِ أركاناً لا يستقيمُ بدونها، ودعائمَ لا يقوى إلاّ بها آلا وهي: الأخلاقُ والآدابُ والخشيةِ من الله، ونفع الناس، والجدّ في طلبه، والتواضعِ لكسبه. هذه الأركانُ والدعائم تجاهلها البعضُ من المتربّحين من وراءِ التعليمِ ولم يكترث لها البعضُ من سيقوا إلى العلمِ سوقا..!! تجاهلوها حين وضعوا نصبَ أعينهم كم يكسبون من المادةِ من هذا الطالبِ أو تلك الطالبة لا ما يرفعون به شأنهم من الأدب ومنزلتهم من الخُلق ثم منفعتهم من العلم..! قُصرَ النظرُ على مجرّدِ ورقةٍ توزّع في يومٍ بهيجٍ تتلألأ فيه الجلابيبُ المزخرفة ويلعلعُ فيه من لا يعرف الطلاّب منصبه في تلك الجامعة أو الكليّة أو المدرسة مبشراً بالمستقبلِ الزاهرِ الذي ينتظرُ هؤلاءِ الخريجون الذين هم مجرّد أرقامٍ في قائمة الدخل السنوي..!
كنتُ منذ أيامٍ قلائل أسيرُ في مكانٍ ما حين أقبلَ إليَّ ثلاثة من الشباب اليافعين، تبادلنا أطراف الحديثِ فسألتهم عن مكان دراستهم فقالوا في الكليةِ الفلانية، قلتُ هل صحيحٌ ما أسمعه عنها من ضعفِ التحصيلِ، وعدم الإكتراثِ بالحضور، وغير ذلك، فقال لي أحدهم: هذا أمرٌ معلومٌ للأسفِ ومشهود، حتى إننا إن ركبنا سيارة أُجرةٍ وقلنا لصاحبها: نريدُ الكلية الفلانية، يردُّ علينا: لماذا تتعبون أنفسكم، أعطوهم المال وسيمنحونكم الشهادة..!! وهذه مصيبة إن أصبح العلمُ مجرّد شهادةٍ تمنحُ لقاءَ حفنةٍ من المال..! مصيبة لمستقبلِ الوطنِ وأجياله..!
ليس هذا تعميماً – وأشدّد على ذلك- فهناك من يحرص على أمانةِ العلمِ وإقامة دعائمه السليمة إنّما الحديثُ هنا عن المؤسسات من جامعات أو كليات أو مدارس وضعت الربح المادي في المقدمةِ لا التربية ولا العلم ولا محصّلاته..! أخبرني مساعد عميد إحدى الجامعات الخاصّة بأن طالباً استصعب دخول الجامعة لقوة منهجها وعدد سنوات الدراسة فيها، فلمّا ذهبَ إلى كليّةٍ من الكليّات عادَ الطالب ليقول بعد أسبوعين: "لقد درست هناك ووجدت أن الدراسة في تلك الكلية أي كلام .. نعم سأحصل على الشهادة ولكن ما الفائدة فأي علم أجني وأي معرفة أكسب..لهذا سأنضم إليكم"
إن بعض المؤسسات التي تعدُّ صروحاً للعلمِ ظاهرياً لا يعنيها إلاّ حشو المعلومات، وتلقينها أذهان الطلاّب ليسكبوها بعد أيامٍ في أوراق الإختبار ثم تفرغ أذهانهم منها..! فما قيمة العلمِ إذن إن لم يكن سلوكاً قويماً، وخلقاً رفيعاً، وأدباً سامياً..؟! ما قيمة العلمِ إن لم يرق بالذوقِ، ويهذب النفس، ويعف اللّسان..؟! يقول تعالى: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ"
وفي إحدى الجامعات الخاصّة وقف عميدها وهو أوروبي ناصحاً ومحذراً أعضاء الهيئة التدريسية من اللباس غير المحتشم الذي لا يتوافق مع أعراف البلاد وأخلاقياتها وفي ذلك مؤشّرٌ صحي على وعيه بالرسالة الأخلاقية للعلم في بلدٍ أسس بنيانه على مكارمِ الأخلاق، إنّما في مؤسسات أُخرى فهناك من أعضاء الهيئة التدريسية من لا يكترثُ إطلاقاً بما يلبس وبما يقول وما يفعل إذ لا رقيبَ ولا حسيب..!
لا يمكنُ لمؤسسةٍ ما أن تدّعي حرصها على أمانة التعليم وهي تنظرُ إليه مجرّد ورقةٍ تُعين حاملها على الحصول على وظيفة، ولا يمكن لمؤسسة أن تفتخرَ بخدمةِ العلمِ وهي تنظرُ إلى مخرجاته على أنّها أرقامٌ في محصّلة التقرير السنوي..؟! ولا يمكن لها أن تجاهر بجودةِ خدماتها وهي تجلبُ معلمين هزلى في التعليم ارتضوا بالمرتبات المتدنية أو قبلوها عن كراهيةٍ، وفي المقابل تفرضُ رسوماً عاليةً بحجّة الجودةِ في التعليم، والإقتران بمؤسسات خارجية في الإعتماد..! لهذا فلا غرابةَ أن تجدَ من بين مخرجاتها من لا يُحسن القراءةَ، ولا الكتابةَ، ولا التأدب بأخلاقِ أهل العلمِ، ولا التحسّن بأساليبهم الراقية.
إن بعض المؤسسات التعليمية ـ أشدد ثانية على البعض - لا تكترثُ للأخلاقيات ولا بالسلوكيات التي تقع أمام مرآها وفي أروقتها ومقاهيها ومرافقها والشواهدُ في هذا المجالِ كثيرة ومعروفة لدى البعضِ حتى حسبتُ أنها –وأنا أسمعها بدهشة- تقعُ في مؤسسات الغربِ المنفلت من ربقةِ الحشمة والحياءِ، حيث تقعُ المشاهدُ الخادشة للنفس الأبيّة هناك أمام عميد الكلية، وهو يشربُ الشاي ويتبادل النكات والقهقهات مع أصحابه..! ولهذا فإن هذه المؤسسات تضيّع –أيّما تضييع – قيمة العلم، فلا يُسأل بعدها إن كانت بعض مخرجاتها لا تتسلح بالأخلاق، ولا تتزيّن بالأدب..!
حدثتني طالبة لا تتعدى العشرة أعوام قائلةً بأسى طفولي:" أنا غير مرتاحة في مدرستي لما أراه بين الطلبة والطالبات الكبار" ..! هذا كلامُ طفلة لا يحتاجُ إلى تعليق..!!
إن تسفيه قيمة العلم في مثل هذه المؤسسات قللّ من قيمته في أنفسهم، حتى أن البعض لم يعد يعنيه الحضور لقاعةِ الدرسِ، أو الإستفادة، أو الانتفاع إن كان في نهاية المطاف يحصل على تلك الورقة المسمّاة بالشهادة، وينالُ بها وظيفةً ..!
يُحكى أن أمّ سفيان الثوريّ الذي أصبح فيما بعد علماً من الأعلام لابنها سفيان "يا بنيّ، خذ هذه عشرة دراهم، وتعلّم عشرةَ أحاديث، فإذا وجدتها تُغيِّر في جلستِك ومِشيتك وكلامك مع الناس فأقبِل عليه، وأنا أعينُك بمِغزلي هذا، وإلاّ فاتركه، فإني أخشَى أن يكونَ وبالاً عليك يومَ القيامة" ..!!
أمّا عن الساعون وراءَ العلمِ ليكسبوا من وراءه لقباً للتباهي، أو شهرةً للزهوِ بشتّى الطرقِ فليسوا عماداً لأمّتهم وإنّما وبالاً عليها..! وكنتُ قد ذكرتُ في ورقتي التي ألقيتها في ندوة القيم العمانية بأن هذا هو "الجهلُ المقنّع" مستدلاً فيها بقول سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي"أن بعضاً ممن يحملون الشهادات العليا لا همّ لهم سوى السمعة والشهرة، وأخذ المادة من وراء ذلك" وإذا كان العلمُ فريضةً، فلا يطلبُ لأجلِ شهرةٍ أو تباهٍ أو غرضٍ غير رفعة الأمّة، وازدهار حضارتها، وعلو شأن أخلاقها، أمّا السباق المحموم لأجلِ الألقابِ فذلك انعكاسٌ لما أصاب الأمّة من مرضٍ عضال جعلها تقدّر الظواهر لا الجواهر، وتحترم الألقابَ لا الأصحاب، وتجلُّ المناصبَ لا البشر. فالمخرجاتُ من هؤلاءِ تعينهم المؤسسات التعليمية ومؤسسات عملهم التي تدفعُ بهم لأسباب غير وجيهة..! هؤلاءِ يتخذون من الألقاب وسائد ينامون عليها، ومن الشهرةِ بهرجةً فارغةً لا تتركُ أثراً من السلوكِ في الواقعِ، ولا بصمةً في معاشِ الناس. فكم من خريج لغةٍ عربيةٍ أو أجنبيةٍ لا يقدرُ على كتابةِ مسودةِ رسالة..! وكم من خريجِ تربيةٍ يفتقدُ وحده إلى أُسسها..! وكم من خريج صحافةٍ يجهل آدابها..!
ليس علماً ذلك الذي لا يربّي إنساناً، ولا يهذّبُ طباعاً، ولا يرقى ذوقاً، ولا يعلي منزلة، ولا يُثري عقلاً، ولا ينتجُ مبتكراً، بل هو قعقعةٌ دون سيل..! العلم إن كان مجرّد حشو معلوماتٍ وبياناتٍ وحفظَ أرقامٍ ونظرياتٍ هو علمٌ أجوف لا قيمةَ له ولا أثر..! العلمُ شجرةٌ زكيّةٌ أصلها ثابتٌ بالأخلاقيات المكينة، والآداب الرزينة، والتربية الشريفة والعلوم الجليّة، وفرعها ممتدٌّ للسماءِ لا يتوقف عن العلوّ توقاً للجديد المستحدث وترقيةً للقديمِ المورّث، لا يتصدّى له إلاّ أمينٌ صادق يجعله تجارة رابحةً لا بائرة، تهُمُّهُ تننشئةُ الأجيالِ تنشئةً تنهضُ بالأمةِ نهضةً شاملةً لا الربح المادي الصِّرفِ مع خرابِ الأخلاقِ، وضياعِ الذمم، وانحراف الهمم، فأصحاب المسعى الأخيرِ إن كثروا في الأمّة فودّع العلمَ، وتحسّر على حضارة الشعوب، وانسَ ازدهار الأوطان..!
جريدة الوطن