المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نصف رغيف لفم كامل


جاسم القرطوبي
21-12-2009, 11:32 PM
http://up.arab-x.com/Dec09/ZDP22638.jpg (http://up.arab-x.com/)


عندما يحاجج الفجرُ الصادقُ الفجرَ الكاذبَ فيقضي بينهما نهار لا تعرف الرشوة جيبه ، وليس الظلم من عيبه، فيمنح للفجر الصادق كامل حقوق نوره لنتنفسه نفسا نفسا ، ويبقي للفجر الكاذب رغم ظلماتنا الثلاث ظلمته ، فيعم الأشراف بهذا الجو الكئيب ما لا نهاية له.. ويسود فياض مشاعرهم في هذه الأجواء ما أغرى الشعاع فجعل الضياء يغازل الرغام الأسمر .

إنها الساعة السادسة صباحا حيث العصفور لا يأبه بالنسور فيغادر عشه ولم يكن كالرقطاء ترقص في عسعس وتحتشم في غلس . الطيور ترحل بحثا عن طعامها ، والصيادون يحرثون البحر طمعا باللؤلؤ والمرجان والمزارعون يصطادون مخابئ الأمواه ليأكلوا بلح الشام . وفي هذه القرية التي أحسن ما فيها لهو أسوأ ما فيها حتما ، في قرية لا فرق بين المرأة و الرجل فيها إلا بالصبغة التي جبلوا عليها .

وأما هو وبعد أن اشتري جميع جرائد اليوم كعادته فيخرج بكرسيه المهتري ليتربع عرشه على ضفة النهر كما تملك الأسى منه بعد أن تحطم أمله في امتهان وظيفة الصحافة .. هذه المهنة التي كم كان يعشقها منذ الصغر ، والتي لأجلها قد شارك في الإذاعات المدرسية ليرضع بأفكارها ومبادئها فطام نهايته وشهرته فمن احترقت بدايته أشرقت نهايته . فلم يترك صفحة في صحيفة أو مجلة أو توراة أو إنجيل إلا وقرأها فضلا عن حفظه ليثري ثقافته .

لقد تهيأ وقتا طويلا لذلك وقتا لم يسمح له أن يهتم بترتيب غرفته ولا تهذيب لحيته ، ولا شذب شاربه ولا أن يسعى وراء قوته وقوت من يعول ..أنهى جرائد اليوم لم يترك فيها عمودا إلا وحلله وخط بقلمه على آفاقه خطوطا حمراء .. ثمَّ عمد لجرائد الأمس وقارن ما أتى فيها بما ورد أمس وما جاء في الأمس ، ثم تأفف : أف ، أف كلام مكرر ، لا أراه يتغير ، لا لا ولن يتغير .. كانت في مخيلته أفكارٌ عديدة ٌ بنسبة ٍ تدخل كلية الطب لا الإعلام فحسب هذا إن عادلنها بمعدلات طالب ثانوية عامة ،يغص بها صدره رغم رحابه ، ويضيق بها الفضاء رغم رحابته .. ماذا يفعل ؟ كيف سيوصل رسالته ؟ من سيفهمه . بل من سيتفهمه . تمعّر وجهه الشاحب ، واكفهر وجهه الذي كان كقطعة ليل مظلمة ، وظلت الناس التي في مراكبها تراقبه تارة ، والنساء اللاتي اعتدن غسل أوانيهن وملابسهن والأطفال المشاغبون والعابثون بأحجار الضفة ترمقه تارة أخرى ... أفكاره تذهب به إلى مكتب التحرير الطيب حيث فينة ، وتجئ به إلى تذكر وضعه وحاجته للمال فينة أخرى .. وتحلق به وساوسه أنه إن امتهن الكتابة فأي مثقفة ستسارع لتهبه نفسها وإن كان لم يدر أن مثقفة فعلت ذلك مع مثقف مثله بينما أدرك بالحواس الخمس أن مليارات المثقفات قد بعن أنفسهن لجهلة ومكرة ٍ وتزوجنهم فويل لكل همزة لمزة ... وما زال كذلك حتى هبطت طائرة نرجسيته به لأن يكتب مقالات تجعل العمي يلفتون أنظارهم إليه ، وتسمع الورى ما يقدمه شريطة أن لا يغضب مخلوقا فقد خشي أن يكون السجن كطرده قسوة ..
قلمي .. قلمي في فلك اختفى . قائلا ذلك في نفسه . بحث ميمنة وميسرة حتى اهتدى عليه وقد سقط في الأرض . هوى إليه ليرفعه فآثر جلوسا على الأرض بعد أفتاه قلبه مذكرا إياه بالمثل العماني : (أكرم طبيبك لو بغيت دواه ) ... مسك القلم وابتدئ يكتب رؤوس أقلام نفاق ، رياء ، حسد ، استعراض عضلات ، قوة من ضعف أدوات الاستعلاء وحروف الأنفة وأفعال الجبارين ، هامسا لنفسه قائلا : نعم يتعين علي أن أنتهج هذا المذهب من الآن فصاعدا ، فلم تجني علي القومية سوى التشريد ... ، ي ثم كأي أديب بشقي قسميه بيض ما سوده في قوالب هلامية . قال في نفسه : لا بد من موضوع بعد أن اتضحت الفكرة وانبلج المغزى وانبثقت القريحة .. سأكتب في الشعر ، لا لا ، يجاوب سؤال نفسه ، الآن ورثت الأغاني الهابطة القصائد لا سيما الكلاسيكية ، وظهرت دعاوى كثيرة تطالب بالتحرير والتنوير منهجية ،كما أنا الأمر ساء كثيرا فلا تعجب القصائد إلا من قيلت فيهم .. سأكتب القصص ، نعم سأكتب القصص ، مثنيا عبارته ، وبدأ يسطر بالنون من الأحداث ما سيكون وكتب كليمات كثيرة إلى أن قال في نفسه : لا أظن أن هناك من لديه الوقت الكافي ليقرأ كليمات بهذه الاستطالة فمن المؤكد أنهم لن يعتنوا بقراءتها. تأفف .. زمجر .. تأوه .. تنهد .. ثم صرخ : لا بد أن أكتب في السياسة .. لا بد أن أصدح بصوتي وما زال يصرخ حتى هدأت سورة غضبه وقال : وماذا سأجني إن سجنت ، أسأ كون بطلا ، (هه) ، وإن كنت بطلا في محيط من سأمخر.. صمت طويلا قبل أن تعن عليه فكرة أن يكتب قصته. وبالفعل بدأ يكتب حتى أنثنى أيضا عن فكرته بقوله : حتما الكل سيستهزئ بي إذا ما قرؤوها فكل قد علم سري وإعلاني ، وآه كم أسعى أن أحسن صورتي أمام الناس أو أن أجد مجنونا صدوقا يشاطرني خيبتي .. استلقى أرضا ورنا بنظره إلى السماء ومكث غير بعيد عن ما يحرق داخله كما تحرق هذه الشمس وجهه ، أغمض عينيه ليفتحها صارخا : يا إلهي وجدتها هذه المناظر التي أمامي ، وما انطوت عليه قريتي من ضفة جميلة ، ونهر أسجح الخدود مالي لا أرسمها لا سيما أنه لم أر رساما مهتما بهندامه قط .. وبنفس القلم بدأ يخط ملامح الحياة فأحجم القلم عن الحركة فصرخ عاليا هذه المرة : هذا القلم الملعون لماذا جف الآن ، ألم يجد وقتا يجف فيه إلا الآن؟ ؛ فرماه من يده أرضا فوقع على جريدة قديمة وسال مداده وكأنه أبدأ لم يكتب به على جملة فيها تقول : تقول : نحن صناع القرار وساسته ، ونحن فقط من يرسم ملامحها بالخطوط الحمراء .

نبيلة مهدي
22-12-2009, 01:04 AM
قصة جسدت زمننا هذا و صراعات الكاتب
و متهات الحبر.. شدتني كثيرا
رائعة حقا

كن بخير يا أخي جاسم القرطوبي...

جاسم القرطوبي
22-12-2009, 05:05 AM
الكاتبة المميزة ريحانة شاكر مرورك

مختار أحمد سعيدي
23-12-2009, 01:09 AM
أخي جاسم

سألتني صحفية يوما ..متى يأتيك مخاض الكتابة ؟ ..فقلت..وضع هذه الأمة مادة دسمة ، لا تحتاج الى مخاض.
هذا ما جسدته أنت في قصتك هذه..ثراء الهزائم ومساحات الجمال مفتوحة على مصرعيها
أمام أي قلم..لكن الكتابة الصادقة لا تزال مصنفة في قائمة المغامرات ، و الكتابة الهادفة لا يرسم وشمها
الا الجنون...
أشكرك على المبنى و المعنى وما بين السطور من تداعيات

تقبل مروري و خائنة عيني ..

مختار سعيدي

جاسم القرطوبي
23-12-2009, 07:09 PM
مختار سعيدي شاكر مرورك وبالنسبة لخائنة أعينك إن كان لك نقدا أو توجيها لهذا النص فجد به أستاذي

عبدالله العمري
30-12-2009, 06:56 AM
القرطوبي

إنت غير بمعنى دائما مميز

الله يحفظك

دمت سالم

سالم الوشاحي
01-01-2010, 01:19 AM
القرطوبي/ أنا

مثل ماقال أخي

وأستاذي عبدالله العمري

أنته غير وغيرررررررررر

((أبوسامي))

أميرة الرستاق
17-01-2010, 11:17 AM
تصدق شدتني الصورة كثير
وتذكرني بأشياء بأيام الصغر
تحياتي لك