المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التراث والإبداع


سالم الوشاحي
17-02-2013, 06:30 AM
أفق
التراث والإبداع آخر تحديث:الأحد ,17/02/2013


منّي بونعامه

لايزال تزايد الاهتمام بالتراث الشعبي المروي والمكتوب في العالم اليوم، ينسف فكرة أدعياء التخلّي عن الموروث الثقافي للأمة، بوصفه عاملاً أساسياً ومحورياً في التخلّف الثقافي والحضاري، والتأخّر عن ركب العالم المتطور . ذلك أن ثمة العديد من المنظمات العربية والعالمية التي تعنى بالحفاظ على التراث، وصونه من الاندثار والضياع، وتبذل جهوداً كبيرة في سبيل تحقيق هذه الغايات السامية، من أدنى العالم إلى أقصاه، وتحفر في ثنايا الماضي، وتنبش في أعماق التاريخ ما تعالق في ذاكرة المكان من معالم ثقافية وحضارية اختزل الإنسان من خلالها نظرته إلى الحياة، وأسلوبه في العيش، وتكيّفه مع الواقع، وتعامله مع المتغيرات بحزم وجد ومثابرة، وأودع تلك الصنوف والصور والأهوال التي كانت يقاسيها، والمجاهل التي كان يرتادها في الترحال، والصيد والبحث عن الكلأ في ذاكرته، وسجّل ملامح منها في كراريسه ودفاتره الخاصة، من مخطوطات وكنانيش لايزال بعضها يغالب الشيخوخة، ويصارع الموت كل حين .



وتبذل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونيسكو” جهوداً كبيرةً في الحفاظ على التراث الإنساني في العالم، بقطع النظر عن هويته، وملة أهله، ضمن قوائم الحصر التي تعتمدها المنظمة لتسجيل التراث الإنساني واعتماد ما تراه جديراً بالعناية والحفظ .



التراث والإبداع أمران لا يكادان ينفصلان عن بعضهما بعضاً، لكن ذلك لا يعني تلازمهما تلازماً قطعياً ينفي وجود الإبداع خارج فضاء التراث، بل قد يتحقق الإبداع خارج ذلك الفضاء وفق ممكنات المبدع نفسه، وتراكماته الثقافية والفنية . ومع ذلك فقد كان التراث ولايزال، ملهم المبدع، فمنه يستخرج مادة إبداعه، ويستلهم صوره، ومشاهده، ويستحضر عاداته وتقاليده، وحكاياته، وقصصه، وأغانيه، ورقصاته، وأهازيجه الشعبية وهكذا دواليك .



النظر إلى التراث ومحاولة تقييمه من زوايا عقلانية وفلسفية غربية لا تمت بأدنى صلة إلى ثقافتنا ومقاييسنا، ولا تسمن ولا تغني من جوع، وهي تلغي كل الروابط “الماضوية”، وتحاول خلق هوة سحيقة، وقطيعة كاملة مع الماضي، ليست ذات أهمية ولا جدوى في الحكم الصحيح والصائب على تراث أثرى، وأغنى، وقدّم وأسهم في بناء أسس حضارة مكينة سادت العالم حيناً من الزمن، ثم زلّت بها قدم فهوت إلى قاع سحيق .



ما علق بالتراث من شوائب هو ما جعل البعض من منظّري بني جلدتنا يسمه بالتخلف والرجعية، وأنّى له ذلك، بل إن البعض ليغرق في هذا التوصيف والتسفيه، ويذهب إلى أعمق من ذلك وأشد وأنكى حينما يعدّ التراث عائقاً من أبرز عوائق الإبداع في الثقافة العربية . بينما يذهب أنصار الاتجاه الآخر إلى الإيغال في عمق الماضي، متوقفاً على دمنه البالية، ومرابعه الخالية، يبكي ليلاه على هواه . وما بين ذلك النظر الحسير، وهذا البصير الضرير يضيع تراث أمة بين الإفراط والتفريط، وكان من الأحرى أن يكون بين ذلك قواماً .
جريدة الخليج