المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أدب الاعتراف الذي يأتي دائما متأخرا!


سالم الوشاحي
08-03-2013, 06:35 AM
أدب الاعتراف الذي يأتي دائما متأخرا!



كم يحتاج الغرب من الوقت ليعترف بأخطائه، بل خطاياه تجاه البشرية؟ في طفولتي المبكرة، وربما حتى سن الثانية عشرة كنت أكن كراهية عميقة للهندي الأحمر، فمن خلال عشرات الأفلام التي أنتجتها هوليوود رأيته شريرا متوحشا، إن وقع في قبضته الملاك الأوروبي الأبيض رقص حوله رقصة الموت قبل أن ينقض عليه ويطرحه أرضا ويسلخ فروته، وأظن هذا حال مئات الملايين من عشاق السينما حول العالم، لا عين يرون بها الهنود الحمر سوى عين هوليوود، لكن بعد أن استيقظ الضمير الغربي بدأ يزيح الستار عن الحقيقة التي حجبها عن العالم أربعة قرون، أن الهندي الأحمر كان ضحية الرجل الأبيض الذي عبر المحيط الأطلنطي لينتزع منه أرضه ووطنه، بل ويشن ضده حرب إبادة، وحاولت هوليوود التكفير عن آثامها فقدمت أفلاما تحاول فيها إنصاف الهندي الأحمر مثل فيلم الرقص مع الذئاب الحاصل على سبع جوائز أوسكار للمخرج كيفين كوستنر.
والقصة تتكرر مع زنوج إفريقيا وإن اختلف السيناريو وأحداثه، الرجل الأبيض في العالم الجديد في حاجة إلى من يخدمه في بيته، ومن يزرع له أرضه، فيرسل سفنه إلى الشاطئ الغربي لإفريقيا حيث يجري اختطاف آلاف الرجال والنساء من الزنوج، لتبحر بهم السفن عبيدا إلى شواطئ أميركا، لتدور واحدة من أقسى ملاحم العبودية في التاريخ البشري التي لا مثيل لها، اللهم إلا في روما القديمة، قتل خلالها عشرون مليون إفريقي، سواء غرقا في المحيط أو في أعمال السخرة بمزارع القطن الأميركية.
وكيف كانت الأدبيات الغربية تسوق الزنجي؟ غبي، متوحش، ومن أكلة لحوم البشر، إلا أن الرجل الأبيض اعترف بخطيئته مع قانون إلغاء العبودية الذي ناضل الرئيس الأميركي إبراهام لنكولن لإقراره وقاد حربا ضد ولايات الجنوب التي رفضت القانون، ومع ذلك ظلت العنصرية نهج البيض في الولايات المتحدة ضد الزنوج حتى منتصف القرن العشرين، وتم إجبارهم على التخلي عن هذا النهج مع إشعال الزنوج ثورتهم السلمية بقيادة الزعيم مارتن لوثر كينج الذي دفع حياته ثمن نضاله من أجل إلغاء التمييز العنصري البشع الذي يمارسه البيض ضد الزنوج حين أرداه متعصب أبيض بالرصاص عام 1968.
وأخيرا أقر البيض بحق السود في المساواة، لكن متى؟ بعد قرنين من الاضطهاد والتعسف، وبدا تتويج باراك أوباما في 20 يناير عام 2009 كأول رئيس أسود للولايات المتحدة الأميركية وكأن الرجل الأبيض يكفر عن خطيئته حين استعبد أخاه الأسود ومارس ضده كل صنوف التمييز العنصري لا لشيء إلا لاختلاف لون البشرة!
وما فعله الغرب مع الهندي الأحمر ومع الإفريقي الأسود فعلوه مع العربي المسلم على مدار عشرة قرون! حيث تعرضت أرضه للحملات الاستعمارية، وشوهت صورته في المخيلة الجمعية ليبدو إرهابيا مهووسا بالنساء وكارها للحضارة الحديثة، وكانت الحملات الصليبية التي شنت على المشرق العربي نموذجا فجا لتشويه الحقائق الذي أجاد الغرب استخدامه دائما باقتدار، فالكنيسة وحكام أوروبا لم يتورعوا عن نشر الأكاذيب حول الأراضي المقدسة التي تعاني تحت حكم العرب المتوحشين، وباسم الرب لا بد من تخليصها من هؤلاء البرابرة، مئات الآلاف من الأوروبيين البسطاء صدقوا تلك الأكاذيب فتركوا حقولهم، وتوجهوا إلى الشرق في حملات يباركها الرب لتطهير المدينة المقدسة من مدنسيها العرب!
وكالعادة أمضى الضمير الغربي في سباته عشرة قرون، ليستيقظ معلنا أن الحملات الصليبية لم يكن هدفها في الحقيقة نصرة المسيح ومدينة الرب، بل الصراعات بين حكام القارة العجوز والمصالح الاقتصادية هي الدافع الرئيس لتلك الحملات التي ارتكب خلالها الرجل الأبيض المجازر البشعة ضد العرب بل واليهود، وداخل دور العبادة، وممن شاركوا في إعلان وإعلاء تلك الحقيقة المؤرخ البريطاني الشهير السير ستيفن وينسمان في كتابه "تاريخ الحملات الصليبية".
ويبدو أن مسألة الحروب الصليبية وما شابهها من أكاذيب ومغالطات تؤرق ضمير الكاتب النرويجي تورفيلد ستيفن فأصدر رواية ومسرحية حاول من خلالهما إزاحة الستار عن الحقائق التي ظلت محجوبة عمدا عن البشرية أكثر من 800 عام، أما الرواية فهي "قلب الأسد" والمعني الملك ريتشارد ملك بريطانيا الذي أبحر إلى الشرق على رأس جيش كبير لتخليص القدس من "مغتصبيها" العرب، لكنه يفشل أمام بسالة وقوة جيش المسلمين بقيادة صلاح الدين، والرواية كما يقول النقاد تكشف كيف تم خلط الدين بالسياسة بالصراعات على الحكم، وكيف تم استغلال حماس وشجاعة الملك ريتشارد للقضاء عليه، وكيف أنه ذهب للقدس بحثا عن أكاليل الغار وعاد بعار الهزيمة لتتكشف أمامه كل الحقائق والأكاذيب.
أما المسرحية فعنوانها "عواصف الصحراء"، وقد شارك الكاتب النرويجي في كتابتها المفكر الباكستاني طارق علي، وصدرت طبعتها العربية مثل الرواية عن جمعية نوافذ للترجمة والتنمية والحوار بالقاهرة، وبالتعاون مع مؤسسة نورلا النرويجية، وتكرس المسرحية أيضا للكثير من الحقائق المسكوت عنها في الغرب، ففي أحد محاورها تسلط الضوء على الأسباب الحقيقية للحروب الصليبية من مصالح اقتصادية وصراع على السلطة بين ملوك وأمراء أوروبا، ورغم ذلك تم تجييش مئات الآلاف من بسطاء أوروبا للتوجه إلى المدينة المقدسة لتخليصها من حكم العرب "أعداء الرب"، وتختتم المسرحية بمشهد له دلالته العميقة، مشهد ينأى عن معارك ريتشارد قلب الأسد ملك بريطانيا لاستعادة القدس من أيدي صلاح الدين الأيوبي بـ734 عاما، لكنه يمت له بصلة جينية، فعقب نجاح القوات الفرنسية في احتلال سوريا عام 1921 يقف قائدها الجنرال جورو على قبر صلاح الدين الأيوبي ليقول منتشيا وأيضا في شماتة: لقد عدنا!!

محمد القصبي
جريدة الوطن