المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رواية جواهر


بيت حميد
03-08-2013, 05:31 AM
هل سمعتم يوماً عن إبراهيم الكحلي؟!....إنّه أحد أشهر العشّاق العرب وله أخبار في غاية العجب. لا يذهب ظنّكم بعيداً، فجواهر حبيبتي أنا وليست حبيبة الكحلي، فهو قد عاش في زمان مضى منذ حوالي ألف وخمسمئة سنة، لكنه بالتأكيد حاضراً بصورة من الصور.
من أين أبدأ الحكاية يا ترى؟!؟!؟!
.حسناً....انظروا معي إلى هذا المشهد..
الفتى الواقف هناك على مدخل سوق جلفار اسمه عامر، وكما ترون فهو يقف متحيّنا فرصة أن يشتري أحدهم شيئاً ليحمله له مقابل ما تجود به النفس.
فجأة أزاحته وكزة عنيفة على ظهره. التفت. فإذا برجل يركب جملا
فنظر إليه غاضبا، لكن الرجل كان مشغولاً بالنظر إلى عملة معدنيه تلمع بين أصبعيه. ثم خفض بصره ونظر إلى عامر وألقى إليه بالدرهم
وقال بلهجة متعالية آمرة :
-يا فتى....أذهب إلى بائع التبغ هناك .وأحضر لي صرّة نشوق
و خذ باقي الدرهم لك..... فلتفرح به . ولتشكر ني
أنا ابراهيم الكحلي. سيد من سادة البر الفارسي.
لم يتفوه عامر بشيء على الرغم من غضبه الشديد
فالصبر والتغاضي من أسلحة الحمّالين.
ثم انطلق إلى بائع التبغ وأبتاع منه صرة تبغ
ولكن لم يتبقى له شيئا من الدرهم. فعاد وقدّمها إلى إبراهيم
الممتطي ظهر جمله, وأخبره أنه لم يتبقى من الدرهم شيئا.
ففرك ابراهيم قليلاً من التبغ بإبهامه . وعالجها في راحة يده
ثم تنشّقها. وأخذ بعدها نفساً عميقاً
ثم التفت إلى عامر قائلا له :
-لم يتبقّ لك شيء؟!؟!؟.
هل كل شيء غالٍ هنا أم أنّه بائع مخادع؟
قد وجدك غراً فباعك بسعر مرتفع.
كيف سأكافئك الآن وقد كان ذلك آخر درهم لدي؟!.
تمعّن عامر جيّداً في وجه الرجل، وكأنّه يقول في نفسه :
"سيّد من سادات البرّ الفارسي وليس في جيبه غير درهم!!!!".
وقرر أن يغيظه, فقال له :
-لا عليك أيها السيّد. وإن أحتجت مالاً فسوف أقرضك.
رد سيد البر مستهجنا :
من يقرضني؟!....أنت!!!
ابراهيم الكحلي يقترض المال من حمّال في السوق!!!
لو لم تكن فتىً غرّاً لرأيت منّي ما يسوؤك.
اقتنع عامر أن لا فائدة من الجدال مع شخص مثل ابراهيم
فقرر تركه والمضي بعيداً
في حين كان ابراهيم يدس كمية أخرى من النشوق في أنفه، وحين انتبه لغياب الفتى أخذ يتلفت باحثاً عنه دون جدوى. فأحسّ بالندم لما قاله وظل يدورفي السوق حتى رآه يساعد أحدهم على رفع حمولة إلى ظهر حمار.
وحين فرغا أقبل عليهما إبراهيم يقول :
-أيها الفتى....لقد أخطأت في كلامي لك.
إن أمارات الأصل الطيّب والشرف الرفيع بادية عليك،
ولا يعيب سيّد مثلي أن يقترض مالا من رجل مثلك
وها أنا الآن أعرض عليك أن تقرضني ألف درهم
وأعدك أنّي سوف أُعيدها إليك مع مكافأة عظيمة.

حينها لم يتمالك عامر نفسه وأخذ يضحك في سخرية شديدة
في حين بدأ إبراهيم يغضب ,لكنّه تمالك نفسه كسيّد مهذّب
وحاول تهدئة سخطه بوجبة جديدة من النشوق.
ثم دار ببعيره دورتين حول عامر الذي كان قد جلس ووضع رأسه بين ركبتيه
بعد أن كادت تنقطع أنفاسه من شدة الضحك.
من على ظهر بعيره صاح ابراهيم يكلم عامرا
وهو ينظر إلى قمم الجبال البعيدة :
-أيها الفتى، ألم تتعلم كيف تتصرف في حضرة السادة؟
التقط عامر بضعة أنفاس ورفع رأسه وقال بصوت نصف ضاحك :
وأنت أيها السيّد من البر الفارسي
ألا تعلم أنّ من يملك ألف درهم لن يعمل حمّالاً؟!.
ردّ إبراهيم حانقا : كنت تسخر منّي إذاً
حين قلت أنّك مستعد لإقراضي.
حينها تبدّلت ملامح عامر ,ولبس وجهه لبوس الأسى
وأطلق هو الآخر بصره نحو قمم الجبال البعيدة.
وقال بعد صمت قصير عميق :
- يا إبراهيم.....أنا مجرّد فتى يتيم فقير أبحث عن قوتي في هذه البلدة.
حسنا. دعوني أقف هنا قليلاً لأخبركم عن الفتى عامر.
فلوجوده ههنا قصّة طريفة.
هو في الأصل من بلاد بعيدة عن سوق ساحل جلفار.
و منذ كان طفلاً وأمّه تقول وتردد على مسمعه هذه العبارة :
"يومي قبل يومك يا حبيبي"
وحين صار شاباً أراد أن يمازحها بخبث ويختبر صدق قولها
فجاءها ذات ضحى وهو بالكاد يستطيع إخفاء ابتسامتة
وقال لها مختبرا :
-أمي....لقد صرت كبيراً الآن و....
قاطعته بشهقة حب فزعة وفتحت ذراعيها
وضمته إلى صدرها بقوة وهي تقول :
-يومي قبل يومك يا حبيبي.
لم يبقَ لي سواك على هذه الدنيا.
لا تقل إنك كبرت
ستبقى في عيني وليداً مهما طال الزمن.
وضع رأسه على كتفها وأفرج خلفها عن ابتسامته
أخذ يداعب طرف ضفيرتها المتسللة من تحت غطاء رأسها
وهو يقول :
-أمي.....قبل قليل صادفت رفيقاً لأبي في السوق
ولمّا أخبرته كم صرنا فقراء بعد أبي رقّ لي
وطلب منّي أن أذهب معه لأتعلم التجارة
أرجوك يا أمّي اسمحي لي بالذهاب معه. ستغادر القافلة بعد العصر.
-لكن بأي شيء ستتاجر يا ولدي؟!.
أنت لا تملك أي شيء.
-هذه المرّة سأساعده في تجارته فقط وسيعطيني أجرة مساعد.
بعد إصرارمنه، وبعد دموع كثيرة ذرفتها من عينيها الجميلتين
سمحت له بالذهاب. ودّعته وهي تردد جملتها :
"يومي قبل يومك يا حبيبي"
ذهب عامر واختبأ في أحد البساتين حتى منتصف الليل
وحين تيقّن من أنّ أمّه قد نامت واستغرقت في النوم
جاء إلى لبيت متسللاً. قرع الباب بقوة وعنف رهيبين
فأجابته من الداخل و هي فزعة :
-من يطرق الباب؟
فنكّر صوته وقال :
-أنا ملك الموت....جئت أقبض روح ابنكِ عامر.
-عامر ليس هنا. اذهب بعيداً عنّا.
-لا أستطيع الرجوع بدون روح
لا بد أن أقبض روح أحدكما
فإن لم يكن عامر ههنا فإني سأقبض روحكِ أنتِ بدلاً منه.
خافت الأم وارتعدت أوصالها،حين شعرت بدنوا أجلها
فردّت عليه بصوت مرعوب مرتجف :
-لا...لا أرجوك... لا تقبض روحي
إذهب إلى عامر و أقبض روحه واتركني
ستجده في قافلة متجة إلى لساحل.
هنا ضحك عامر لم يتمالك عامر نفسه
فضحك وضحك حتى كادت أنفاسه تنقطع
و حين عرفت أمه أنها وقعت ضحيّة مكره وخداعه
غضبت منه وحلفت أن لا يدخل البيت حتى الصباح
أخيراً أدركت أن ولدها قد كبر وصار يفهم ما يدور حوله
وعندما جاء في الصباح وجدها على غير ما كان يتوقّع
كانت هاشه باشه سعيدة طيّبة الخاطر.....
وحين رأته قالت له :
-لقد كبرت يا عامر، وقد حان الوقت لتطلب الرزق
ومع أنّك كنت تمزح معي بالأمس بخصوص التجارة
إلا أنّني أظنها فكرة صائبة
فلماذا لا تذهب إلى لساحل لتتاجر؟!
-لكن يا أمي ليس لدي ما أتاجر به كما تعرفين.
-لقد فكّرت في الأمر يا ولدي الحبيب.
هل تعلم يا قرّة عيني أن الرماد
الذي لاثمن له هنا يساوي الكثير هناك.
-حقاً يا أمي!!!!!.
لكن ماذا يفعلون بالرماد؟
-نساء الساحل يشترينه هناك يا ولدي
ثم يخلطنه مع الطين فيصبح لزجاً
فيستخدمنه لإزالة الشعر من الجسم
هل تصدّق أنهن يفعلن ذلك!!!.
-إن كان الأمر كما تقولين يا أمي فسأملأ كيساً كبيراً بالرماد
وأذهب به غداً مع القافلة.
وهكذا فعل عامر المسكين
ملأ كيساً كبيراً بالرماد وخرج يحمله على ظهره
وكان مع أول قافلة إتجهت إلى لساحل.
وهناك جلس منذ الصباح الباكرعلى بوابة السوق
فاتحاً الكيس وينتظر المشتري
كثيرون مرّوا وسألوا : "ما هذا؟"
وعندما يخبرهم بأنه رماد كانوا يبتسمون ويمضون
في طريقهم مخلفين علامات التعجب على وجهه.
بقي الأمر كذلك حتى جاءت امرأة عجوز
وكغيرها نظرت في الكيس ثم سألت :
-ما هذا أيها الفتى؟!
-إنه رماد. أؤكد لكِ أنه نظيف من الشوائب، لقد جمعته بيدي هاتين.

رفعت العجوز عينيها عن الكيس وأخذت تتفرس في وجه الفتى
الذي بدأت خضرة خفيفة تعلو شاربيه. ثم تبسّمت و قالت :
-لابد أنّ أمّك هي من أرسلتك لتبيع الرماد هنا
ولابد أنّ أباك غائب.
اتسعت عينا عامر وتقوّس حاجباه من الدهشة.
و قال لها : نعم يا خالة. إن أبي متوفى
وأمي هي من نصحني ببيع الرماد في الساحل
لكن كيف عرفتي بذلك؟!؟!؟!
-لا عليك أيها الفتى الطيّب. الآن اسمع نصيحة خالتك :
كاد السوق أن ينقضي، وستغرب الشمس قريبا
وأنت غريب هنا وليس لك مكان تبيت فيه
فتعال معي الليلة واترك عنك كيس الرماد فلن يشتريه أحد
استسلم عامر للعجوز وتبعها تاركاً كيس الرماد خلفه
حين وصلا إلى البيت طلبت منه أن يغتسل
وأعطته ثياباً نظيفة ليلبسها
في ذلك الحين أرسلت العجوز في طلب زوجة القاضي الجميلة "طرفة"
وحين حضرت طرفة كان عامر قد اغتسل ولبس حلته الجديدة وبدا رائعاً
قالت العجوز مخاطبة طرفة:
- هذا الشاب غريب، وليس له مكان يبيت فيه
فأريد منك أن تأخذيه هذه الليلة ليبيت معك.
-حباً وكرامة يا خالتي أم علي
لكن أمهليني حتى أجهّز له المكان.
وخرجت طرفة مسرعة وهي تمسح عامر بابتسامة متغنّجة
ذهبت إلى بيتها وأعدت فراشها وبخّرت غرفتها وجهزتها بالماء والطعام
ثم لبست عباءتها وانتظرت زوجها القاضي حتى عاد من صلاة العشاء
وحين جاء قالت له :
-خالتي أم علي مريضة وسأبيت معها هذه الليلة
ربّما يأتي إليك احد أقربائي وزوجته ليبيتا معنا
إنهما مسافران على السفينة فجرا
فإذا جاءا أدخلهما الغرفة فقد أعددتها لهما.

وخرجت طرفة مسرعة إلى بيت العجوز أم علي
ومن هناك أخذت معها عامر. طلبت منه أن يمشي أمامها
إلى بيت زوجها وهي متجللة بالعباءة وبظلمة الليل
وأمرته أن يخبر زوجها القاضي بأنه من أقارب زوجته
و حين وصلا البيت رحّب بهما القاضي أيما ترحيب
وأدخلهما الغرفة ليناما وذهب هو لينام في ساحة البيت.
بعد أذان الفجر، وحين أحسّت بالزوج قد خرج للصلاة
أيقظت عامر وخرجا يمشيان إلى بيت العجوز أم علي
وفي الطريق كان عامر يفكّر فيما كان من العجوز وزوجة القاضي
ووصلته الرسالة التي أرادت العجوز أن يفهمها
فهم أن بيع الرماد لم يكن سوى حيلة من أمّه
لتبعده بعدما لاحظت أنّه كبر وصار يعقل
وعرف لماذا لم تدخله البيت تلك الليلة
لم يعد عامر بعدها إلى بلدته
فلم يتخيّل أنه يستطيع أن ينظر في عيني أمه
بعد أن عرف ما عرف وبقي يعمل حمّالا في سوق جلفار.

سالم الوشاحي
03-08-2013, 06:36 AM
كاتبنا القدير بيت حميد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ما أروع ما خطَّت يداك.. وانبثق عن فكرك النَّير

اسلوب راقي وقلم تميز بالشفافية وقصة عميقة متوهجة

سنكون من المتابعين لهذه الروايه

على أن تكون بأجزاء .. هنا كان الجزء الأول والجزء

الثاني يكون في صفحه مستقله تكتب عليها الجزء الثاني من

رواية جواهر....وهكذا...

سجل إعجابي وتقديري العميق

خليل عفيفي
03-08-2013, 09:56 AM
بيت حميد
قرأت وتمعنت .... وننتظر القادم بشوق فعلا
روعة السرد ، وتسلسل الأحداث ، وعقدة النص ، كل ذلك
كان ينبئنا بأننا أمــــــــــــــــــــــــــــام قاص وراو له حضوره المتميز
يسعدنا أن نكون هنا من المتابعين

رحيق الكلمات
03-08-2013, 12:02 PM
اهلا اخي بيت حميد
عودة طيبه
كان لقلمك فراغا يناديه هنا
رواية جميلة
جدا سنظل نتابع حتى النهايه

محمود المشرفي
03-08-2013, 10:45 PM
أخي العزيز بيت حميد
أشكرك على هذا الطرح الجميل
راح أنتظر جديدك بكل شوق
لك مني جزيل الشكر والتقدير
ودي لك

ناجى جوهر
04-08-2013, 02:41 AM
السلام عليكم بيت حميد
قصة جميلة تثير الفضول لقرأة المزيد
سلمت يمينك

عبدالله الراسبي
06-08-2013, 01:30 PM
اخي العزيز الجميل بيت حميد قصه جميله ورائعه
تسلم على هذه الروايه الجميله
ودمت بكل خير وموده اخي الكريم
وتقبل تحياتي