المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مِنْ مُناجاةِ العارفينَ...


يزيد فاضلي
20-12-2013, 08:10 PM
مِنْ مُناجاةِ العارفينَ بالله تعالى ؛ مناجاةُ الإمامِ ابْنِ عَطاءِ اللهِ السَّكَنْدَرِيِّ رحمه الله...

...ما أرقَّها قلوبًا-أحبتي الأوفاء-تلكَ التي تدخلُ محرابَ التذلل بين يَديْهِ سبحانه وتعالى،فترتشفُ-بالنجوَى والمناجاة-خلاصاتِ النعيم وكوْثرِهِ المعسول،فما يَنبِسُ لها نبْضٌ من خافِقٍ إلا وكانتْ أنوارُ الترجيع الربانية تبادرُ بالإضاءةِ معَ كل حَرْفٍ..وكل كلمةٍ جأرَتْ لخالِقِها..!!

..من روائع مناجاةِ العارفين بربهم؛أنقلُ هنا-أحبتي-هذه الرائعة التي سارتْ بها رُكبانُ المُحِبِّينَ وتداولتْها ألسُنُ المخبِتين في محاريب التناجي...

إنها ( مناجاة الإمام ابن عطاء الله السكندري ) رحمه الله تعالى،صاحبِ ( الحِكَم العطائية ) المشهورة..المتوفَّى سنة 709هـ بقاهرةِ المُعِزِّ...

ننقلها من الفصل الأخير ؛ من كتابهِ التربوي القيِّم ( تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس )...

يقول-رحمه الله-مناجيًّا :

(( إلهي..أنا الفقير في غنايَ فكيف لا أكون فقيرا في فقري..؟؟!! وأنا الجهول في علمي فكيف لا أكون جهولا في جهلي..؟؟!!

إلهي مني ما يليق بلؤمي ومنك ما يليق بكرمك إن ظهَرتِ المحاسنُ مني فبفضلك ولك المنة عليَّ..!!

إلهي كيف تكلني وقد توكلتَ لي،وكيف أضام وأنت الناصر لي..أم كيف أخيب وأنت الحَفِيُّ بي..؟؟!!

ها أنا أتوسل إليك بفقري..وكيف أتوسل بما هو محال أن يصل إليك..؟!! أم كيف أشكو إليك حالي وهو لا يخفى عليك،أم كيف أترجم مقالي وهو منك برز إليك،أم كيف تخيب آمالي وهي قد وفدت عليك،أم كيف لا تحسن أحوالي وبك قامت وإليك..؟؟!!!

إلهي ما ألطفكَ بي مع جهلي،وما أرحمك بي مع قبيح فعلي،وما أقربك مني،وما أبعدني عنك،وما أرأفك بي..فما الذي يحجبني عنك..؟؟!!!

إلهي كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمُك وكلما أيأستني أوصافي أطمعتني مِنتك...

إلهي من كانت محاسنه مساوئَ،فكيف لا تكون مساويه مساوئ..؟؟!! ومن كانت حقائقه دعاوي فكيف لا تكون دعاويه دعاوي..؟؟!!!

إلهي كيف أعزم وأنت القاهر،وكيف لا أعزم وأنت الآمر..ترددي في الآثار يوجب بعد المزار فأجمعني عليك بخدمة توصلني إليك...

كيف يُسْتدل عليكَ بما هو في وجوده مفتقرٌ إليكَ..؟؟!!

أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك..؟؟!!!!

متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك،ومتى بَعُدْتَ حتى تكون الآثارُ هي التي توصِل إليك..؟؟!!!

إلهي عَمِيَتْ عينٌ لا تراك عليها رقيبا،وخسرتْ صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبك نصيبا..!!!

إلهي هذا ذلي ظاهر بين يديك،وهذا حالي لا يخفى عليك منك..اطلبُ الوصولَ،وبك استدل عليك،فأهدني بنورك إليك وأقمني بصدق العبودية بين يديك...

إلهي عَلمْني مِنْ عِلمكَ المخزونَ،وصُني بسِرِّ اسمك المصون،وحققني بحقائق أهل القرب،واسْلك بي في مسالك أهل الجذب،وأغنني بتدبيرك عن تدبيري،وباختيارك عن اختياري،وأوقفني على مراكز اضطراري وأخرجني من ذل نفسي وطهرني من شكي وشركي قبل حلول رمسي..بك استنصرُ فانصرني وعليك أتوكل فلا تكلني واليك اسأل فلا تحرمني وفي فضلك ارغب فلا تخيبني ولجنابك انتسب فلا تبعدني وببابك أقف فلا تردني..!!

إلهي إن القضاء والقدر غلبني،إان الهوى بوثائق الشهوة أسرني..فكن أنت الناصر لي حتى تنصرني وتبصرني وأغنني بفضلك حتى استغني بفضلك عن طلبي..!!

أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك وأنت الذي أزلت الأغيار من أسرار أحبائك..أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم وأنت الذي هديتهم حتى استبانت لهم المعالم..!!

ماذا وجد مَن فقدَك..وما الذي فقدَ من وجدك..؟؟!!!

ولقد خاب من رضي دونك بدلا ولقد خسر من بغى دونك متحولا.

كيف يُرجى سواك وأنت ما قطعت الإحسان وكيف يطلب من غيرك وأنت ما بدلتَ عادة الامتنان..؟؟!!

يا من أذاق أحِبَّاءَهُ حلاوة مؤانسته،فقاموا بين يديه متملقين..!!

يا من ألبس أولياءه ملابسَ هيبتِه فقاموا بعزته مستعزين..!!

أنت الذاكر من قبل الذاكرين..وأنت البادي بالإحسان من قبل توجه العابدين..وأنت الجواد بالإعطاء من قبل طلب الطالبين..وأنت الوهاب لنا ثم أنت لما وهبتنا من المستقرضين،فاطلبني برحمتك حتى أصل إليك،واجذبني بمنتك حتى أقبل عليك...!!

إلهي إنَّ رجائي لا ينقطع عنك وإنْ عصيتك،كما أنَّ خوفي لا يزايلني وإنْ أطعتك،قد دفعتني العوالم إليك، وأوقفني علمي بكرمك عليك، فكيف أخيب وأنت أملي..؟؟!! أم كيف أهان وعليك متكلي..؟؟!! أم كيف أستعز وفي الذلة أركزتني..؟؟!! أم كيف لا استعز واليك قد نسبتني..؟؟!!! وكيف لا أفتقر وأنت الذي في الفقر أقمتني..؟؟!! أم كيف افتقر وأنت الذي بجودك أغنيتني..؟؟‍!!

أنت الذي لا إلهَ غيرك..تعرفتَ لكل شيءٍ فما جَهِلكَ شيءٌ،فأنت الظاهرُ لكل شيءٍ..!!!

يا من استوى برحمانيته على عرشه،فصار العرشُ غيبا في رحمانيته كما صارتِ العوالمُ في عرشه..محقت الآثار بالآثار ومحوت الأغيار بمحيطاتِ أفلاكِ الأنوار..!!

يا من احتجب في سرادقات عِزه عن أنْ تدركه الأبصار..يا من تجلى بكمال بهائه فتحققت عظمته الأسرار..كيف تخفى وأنت الظاهر..؟؟!! بل كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر..؟؟‍!! ‍ )) اهـ

خليل عفيفي
22-12-2013, 06:15 AM
أخي العزيز : أستاذ يزيد فاضلي
حينما نقرأ لك ، نقرأ وكلنا ثقة بأن ما تنثر لنا هنا وهناك
كالورود لا تخرج منها إلا الرائحة الطيبة
دم كما أنت مرجعية لنا ، نثق بما تطرح ، وتنتشي القلوب
وتبتهج الأنفس بما تثري بها أفكارنا
أدام الله عزك أخي يزيد

زياد الحمداني (( جناح الأسير))
22-12-2013, 04:25 PM
جزاك الله خيرا كثيرا اخي الفاضل أ. يزيد فاضلي على هذه المادة التهجدية المؤثرة للإمام ابن عطاء الله السكندري الملقب بـ "قطب العارفين" و"ترجمان الواصلين" و"مرشد السالكين". كان رجلاً صالحاً عالماً يتكلم على كرسي ويحضر ميعاده خلق كثير، وكان لوعظه تأثير في القلوب، وكان له معرفة تامة بكلام أهل الحقائق وأرباب الطريق، وله ذوق ومعرفة بكلام الصوفية وآثار السلف, وكان ينتفع الناس بإشاراته وله موقع في النفس وجلالة.

مناجاة مؤثرة لا تعيها إلا القلوب المعلقة بعلام الغيوب...

بارك الله فيك اخي الرائع..

يزيد فاضلي
22-12-2013, 07:59 PM
...العَفوَ..العفوَ-أخي الحبيب الأستاذ القدير خليل عفيفي-وإنها واللهِ لثقة ٌغالية ٌ،يعتزُّ بها شخصي المتواضع،وتزيدني حِرْصاً-إن شاءَ اللهِ-في القيام على شرَفِ الأمانةِ العلميةِ والثقافيةِ والإبداعيةِ العظيمةِ التي أنطتُ بها مذ حَصَلَ لي شرَفُ رئاسةِ هذا القسم الإسلاميِّ الوليدِ النامي...

أشكرُ لكَ دائماً مرورَكَ الكريمَ العَبقَ البَهِيَّ..واللهَ تعالى يَقدِرَنا جميعاً على تقديم الأحسن والأجوَدِ والأرقى والأتقن،كما نسأله-قبلَ هذا وذاكَ-الإخلاصَ والصدقَ في القوْل والعَمَل...

يزيد فاضلي
23-12-2013, 10:03 PM
...سعدتُ كثيراً بمروركَ العَبق الطيب-أخي العزيز الحبيب زياد...-وكمْ أثلجَ صدري أنكَ ذكَّرْتنا بمناقبِ هذا العَلم الإسلامي الكبير في ( مدارج السالكين بين منازل إياكَ نعبدُ وإياكَ نستعين )..نحسبهُ كذلكَ ولا نزكي على اللهِ أحداً...

نعمْ أخي الكريم...

الإمامُ ابنُ عطاءِ الله السكندري رحمه الله تعالى هوَ كما وصفتَ بالضبط...

إنه واحدٌ من خيرةِ علماءِ السلفِ الذينَ كانتْ لهمْ صوْلاتٌ وجوْلاتٌ في مقاماتِ التربيةِ الصحيحة ومَراقي السلوكِ وتهذيب النفس على أسسٍ سليمةٍ من منهج الكتاب والسنةِ،بعيداً عن لغواءِ المبتدَعَةِ وغلاةِ المتصوفة...

ويكفي أن نعرفَ قدرَهُ وورَعَهُ وزهدَهُ وتقواهُ بمجردِ الوقوفِ على شهاداتِ علمائنا الكبار الثقاتِ وتزكيتهم له ولمنهجه..لنا أن نقفَ-مثلاً-في ما قاله الإمامُ الحافظ شمس الدين الذهبي،والإمامُ الحافظ ابن حجر العسقلاني،والإمام الحافظ ابن العِماد في شذراته..بلْ لنا أن نقِفَ على موقفِ شيْخ الإسلام الإمام ابن تيمية-وقد وقعتْ بينه وبين ابن عطاء الله مناظرة مشهورة في بعض المسائل الفرعية-لنرَى مَدَى إكبار وتوقير شيْخ الإسلام لصاحبِ الحِكَم العطائية ولفقههِ ورسوخ عِلمه...

لقدْ كانوا رحمهم الله جميعاً على مسافةٍ قريبةٍ من هذا العَلم الإسلامي الصوفيِّ الشامخ..و لا يَعرفُ قدْرَ الرجال إلا الرجالُ..!!

الإمامُ ابن عطاء الله امتدادٌ تليدٌ لمدرسةِ السلوك والتربية الإسلامية الأصيلة التي تقومُ على الارتقاءِ في مدارج الإحسان (( ...أن تعبدَ اللهَ كأنكَ تراه،فإن لم تكنْ تراهُ فإنه يراكَ ))،والتي تعتمدُ التأصيلَ العقائدي والشرعي والفقهي المتواتر الصحيح-كتاباً وسنة ًوإجماعاً-في سَيْرها على درب التربِّي...

إنه امتدادٌ ذاخرٌ للإمام عبد الله بن المبارك..والفضيل بن عياض..ومالك بن دينار..والشيخ عبد القادر الجَيْلاني..والسريِّ السقطي..والحارث المَحاسبي..ومعروف البُلخي..وحاتم الأصم....وبقية هذه الصفوة من علمائنا الصالحين الذينَ جمعوا بين الفقهِ الصحيح والتجردِ القويم....

جوزيتَ كل الخيْر-أخي زياد-واللهَ نسألُ أنْ نكونَ ممن يُحبونَ الصالحينَ ويقتفونَ أثرَهُمْ،وأن نكونَ-وإياكم-ممن يستمعونَ القولَ،فيتبعونَ أحسَنهُ...ودمتَ بيننا نبراسًا...

ناجى جوهر
24-12-2013, 12:12 AM
السلام عليكم أستاذ يزيد فاضلي
جزاك الله خير ما يجزي به عباده الصالحين
مناجاة بديعة,من قلب عارف بالله حقيقة
فالعارف بالله يخاطبه سبحانه وتعالى بما هو اهل له
وهو جل في علاه أهل التقوى و اهل المغفرة
متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك،ومتى بَعُدْتَ حتى تكون الآثارُ هي التي توصِل إليك؟
وقد قيل أنّه سبحانه وتعالى يجازي ويعاقب
العباد على قدر عقولهم وعلمهم أو جهلهم
تتأثر أدعية الإمامِ ابْنِ عَطاءِ اللهِ السَّكَنْدَرِيِّ رحمه الله
ببعض الأفكار الصوفية التي يحاربها من
جهل حقيقتها في عصرنا الراهن بدعوى البدعة
أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك وأنت الذي أزلت الأغيار من أسرار أحبائك..
أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم وأنت الذي هديتهم حتى استبانت لهم المعالم
و طفت على سطح المجتمع دعوات للتخلص
من الممارسات الروحية الصوفي مثل:
المولد او الإحتفال بمولد الرسول صلى الله
عليه وسلم,وزيارة بعض أضرحة الأولياء والصالحين
المشهود لهم بصحيح العقيدة,و بنقاء السيرة
وحاربوا الإبتهال في ليالي رمضان,و يوم النصف من شعبان
بحجة انها ممارسات بدعية أبتدعها الصوفية الشيعة
بل منعوا حتى بعض الأذكار الجماعية التي
تقام في المساجد عقب الفروض كالتسبيح والتهليل و الاٍستغفار والإنابة
والأدعية والإبتهالات الجماعية,والتي تشعرك بان هناك من يؤمّن معك
و أسرد هنا بعض الأذكار و الأدعية التي كان المصلون
يدعون بها عقب صلاة الفرض مباشرة,ولكل فرض أدعية معيّنة:
فبعد صلاة الظهر جماعة مثلا,وعقب التسليم والأدعية
المسنونة,يقول الإمام: سبحان الله ناصحا و موجّها
فنسبّح جميعا ثلاث وثلاثين تسبيحة
الحمد لله, والله أكبر كذلك,ولا إله إلا الله تمام المائة
ثم يدعو الإمام والمصلون معا:
اللهم صلي وسلم عليه صلى اله عليه وسلّم
مرتان.ثم اللهم صلى وسلم على سيدنا محمد
وبعدها يدعو كل واحد بما يعرف لنفسه وللمسلمين عامّة
ثم يدعوا الإمام ونؤمن حتى يقول:
الفاتحة إلى روح سيدنا محمد بن عبد الله
ويذكر أصحابه و أزواجه ثم أموات المسلمين
و اخيرا يقول: وإلى حضرة النبي سيدنا محمد
فنتلو الفاتحة وننصرف للنافلة
فقيل لنا ان هذه ممارسات بدعية,لم ينزّل الله بها
من سلطان, ولم يفعلها رسوله ولا أصحابه ولا أتباعهم
ونسي هولاء ان باب الإجتهاد وإستنباط الإحكام مفتوح
وأنّ المسلمين مأمورون بالتعلم و الإجتهاد
ونحن نحتجّ بأن تلك الأذكار تعلم الجاهل,وتذّكر الغافل وت شجّع المتكاسل
وهي طاعة وليست معصية ولا تخل بأداء الفروض,ولا تمنع واجبا
هذا مثال على الغلو وتعدد الآراء
أطلت عليك أستاذ يزيد
فأرجو العفو
وتقبّل تحياتي

يزيد فاضلي
25-12-2013, 05:33 PM
...شكَرَ اللهُ لكَ-أخي الكريم الأصيل ناجي-على هذا المرور الطيب الذي حمَلَ معه خيْراً في فائدةٍ وإثراءٍ...

نعمْ-أخي-هو ما قلتَ وأثريْتَ،فإنَّ مدرسة التصوفِ،كما يعرفُ الدارسونَ لمسيرةِ التاريخ والحضارةِ الإسلاميةِ،ظهرتْ بشكلٍ ملحوظٍ في بداياتِ الدولةِ العباسيةِ منذ القرن الهجري الثاني،ثم توسعتْ لتغدو في النهايةِ منهجاً أصيلاً،راحَ يحتوي رقائق الإسلام بكل ما فيها من إشراقاتٍ وفيوضاتٍ ربانيةٍ،ويَدفعُ بالنفس المؤمنةِ إلى أن تتهذبَ وتترقى في مدارج الكمَالاتِ والدربةِ على تغذيةِ الروح بما يَقِيها مثالبَ الجسَدِ ورغباته...

وكلنا يَعلمُ أن التيارَ الصوفي الذي تسَاوَقَ والدولة العباسية ظهرَ كردةِ فِعلٍ طبيعيةٍ على تيَّار المجون والتخلع والثراء الفاحش الذي مضى يتغللُ رويداً رويداً في أوصال المجتمع المسلم باطرادٍ أيامَ العباسيينَ...

وكشأن التياراتِ الفكريةِ والسياسيةِ الأخرى فإن التيارَ الصوفي لمْ تنجُ مسيرتـُهُ-بما تحمل من إرثٍ وتراثٍ-من الوقوع بين كمَّاشتيْ الإفراط والتفريط،مع أن الأصلَ فيهِ هو الاعتدالُ والتوازن...

لقد كانَ المبدأ عندهم يقوم على قاعدةِ أن الزهدَ (( هو قطعُ العلائق بما في يَدِ الخلائق ))،وهو مبدأ نابعٌ من تأصيلٍ عقدِيٍّ إسلاميٍّ صحيحٍ،متجذرٍ في صميم الكتاب والسنة...

والإمام ابن عطاء الله السكندري رحمه الله ومعه المدرسة الصوفية التي انبثقَ عنها وتحدَّرَ،كانتْ وما تزالُ نموذجاً فريداً راقيًّا في وَصْلِ المؤمن بربهِ وصلاً يقومُ على أساساتٍ سليمةٍ صحيحةٍ من كتاب الله تعالى وسنة رسوله،سواءٌ في الفكرِ أو الممارسة،وقد راحتِ هذه المدرسة الرائدة تصقلُ في المؤمنينَ أرواحهمْ بالتجردِ والتهجد،وتدفعُ القلوبَ إلى الاغترافِ من معين الحب والوجدِ الإلهي بطريقةٍ اجتهاديةٍ إيجابيةٍ لمْ تنحرفْ فيها قيْدَ أنملةٍ عن ثوابتِ الكتاب والسنةِ،بل يُمكنُ أن يَصدُقَ فيها وفي قطفِ ثمارها حديثُ الإمام مسلم الذي يَرويهِ بسندِهِ العالي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه،عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ سَنَّ في الإسلام سنة حسنة،فعَمِل بها بعده كُتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيءٌ،ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيءٌ ))...

إلا أنَّ الذي يُؤخذ على التيار الصوفي عندما وقعَ انحرافٌ عن منهج أقطابهِ العلماء الفحول الصالحين أمرانِ خطيران :

الأول / هو أنهُ جاءتْ فترة على الصوفية-خصوصاً في عهود الانحطاط التي تلتِ الدولة العباسية-راحَتْ تتجاوزُ في منهجها التربوي الروحي القيَامَ بالتكاليفِ الشرعية،بطريقةٍ تـُغري ( المُريدينَ ) وتطمعهمْ في رضوان الله تعالى وجنتِهِ بأقصر الطرق وأقلِّ المسالكِ جُهداً..ومن هنا بدأتْ قصة التنصل عن القيام بالواجباتِ والتكاليفِ..!!

يأتي ( الشيخُ )-مثلاً-إلى ( مُريدِهِ )،فيهمسُ له : هل تريدُ أن تنالَ رضوانَ اللهِ تعالى والقربى منه..؟؟ هل تريدُ أن تنالَ الجنة الموْعودة..؟؟..تعالَ نرشدكَ وندُلكَ-من الباب الخلفي-على أقصر الطرق الممكنة إلى ذلكَ..خذْ هذه الأذكار رددها مائة مرةٍ كل ليلةٍ..خذ هذه ( الأوراد ) فالتزمْ بها مدة معينة ً...خذ هذه التسابيح واقرأها ألفَ مرةٍ في أسبوعٍ..وستصل وتكون من الواصلين وانتهتِ المسألة..!!

وبهذا حدث ( تفلـُّـتٌ رهيبٌ من القيام بالتكاليف الشرعية ) كانَ له أسوءُ الأثر على مفهوم العبادةِ ومقتضى العمل في حِسِّ المسلم..وصارَ كثيرون لا يقومونَ بواجبهم في ما تقتضيهِ تكاليفُ العمل،لأن الطريقَ الأقصر والمُختصَر أطمَعَهمْ في الوصول بأقل جهدٍ ممكنٍ..!!

أما الثاني / فهوَ ( تضخـُّمُ الشيْخ الصوفي في حِسِّ المريدِ لدرجةِ أنه صارَ واسطة ًبينه وبين ربه )..ولعلَّ هذا الأمرُ من أخطر ما راجَ في أوساطِ المتصوفةِ المنحرفةِ وما استتبَعَ ذلكَ من رواج الدجل وشِرْكِ الأضرحةِ والتمسحِ بالقبور وما إلى ذلك..!! ولا يُخفى على أحدٍ من المسلمينَ ما لهذا الأمر من خطورةٍ مباشرةٍ على صحة العقيدةِ التي تأبى التوسيط بين العبد وربه...وأنا هنا لا أعني دعاءَ الأخ لأخيه عن ظهر الغيْب ولا دعاء الصالحين لبعضهم..

ولعلَّ أعلاَمَنا المتصوفة العلماء الزهاد العبَّاد الحقيقيين تبرؤوا في إرثهم وتراثهم من هذه اللوثاتِ التي علِقتْ بمنهج التصوف...

ولنا أن نقرأ مثلاً ما قاله العلامة الشيخُ الإمام عبد القادر الجيْلاني في كتابه ( الفتح الرباني... ) وما كتبه الشيخ الكبيرُ أبو الحسن الشاذلي في شذراتهِ وما كتابه الإمامُ القشيري رحمه الله في رسالته القشيْرية لنرَى بَراءَة هؤلاءِ مما ابتدعَهُ المبتدعون وغالى فيه المُغالون...

بقيَ بعد ذلكَ بعضُ إخواننا الجدد..من إخواننا الذينَ يتصدرون المجالسَ في حربِ المتصوفة ورميْهمْ بالابتداع المطلق أو الزندقة العامة أو ما شابه من هذه الأحكام...

في تقديري-أخي الكريم ناجي-أن أنصفَ كلمةٍ قيلتْ في شأن التصوف والمتصوفة،هي الكلمة الجامعة المانعة التي قالها شيْخُ الإسلام ابن تيمية في ( مجموع الفتاوَى ) ما مفادها : أن الصوفية فريقان ؛ فريقٌ انحرفَ على منهج الكتاب والسنةِ-فهو يقينٌ على شفا الباطل والزيغ-وفريقٌ التزمَ بالكتاب والسنة فهو على الحق والهدَى...في تقديري-أخي ناجي-هذا هو فصلُ الخطاب في المسألةِ دون غمطٍ أو إجحافٍ....

سررتُ بمروركَ الطيب العذب أخي..وسررتُ بإثرائكَ ومناقشتِكَ الهادفة النافعة المفيدة...

مملكة الطموح
16-01-2014, 11:45 PM
أساتذتي جميل ما أثريتم هنا من نقاشات ومعلومات عدتم بها للتاريخ عززتم من فهمنا ووسعتمت مداركنا وهكذا حضور نشتاق لأن نقرأه فننهل منه الكثير وما تلك المناجاة التي أوردتها سيدي يزيد إلا مختارات من كلمات عج بها الصدر أنينا و تكبدت بها الروح أسى فأدركت تمام الإدراك أن الباري لها فمنتهى الشكوى إليه ما أجمل مثل تلك المناجاة التي تسمح لكل ما يسري ببالك وما يجول بخاطرك أن يباح له دون خوف أو حزن .. دقة التعابير و فصاحة الكلم للباري أعجبتني.. روائع الشكر سيدي على ما جلبت فأنت لها فكرا و ثقافة ودقة في الاختيار

يزيد فاضلي
18-01-2014, 10:49 PM
...بوركتِ-أختي الكريمة الأصيلة مملكة الطموح-على جمال المرور العَبق الذي حمَلَ بين ثنايَاهُ أرَجاً من شذى الشميم الإيمانيِّ الفوَّاح...

نعَمْ-أختي الكريمة-فإنَّ جلاَلاً في جمالٍ..أو جمالاً في جَــلاَلٍ..أو هُما معاً قدْ ضاعَ مِسْكُهُمَا في تلافيفِ هاتيكِ الكلماتِ الملحاءِ الرقيقةِ التي نبَعتْ من شِغِافِ الإمام ابن عطاءِ اللهِ رحمه الله...

أثلجَ صدري مرورُكِ الكريم..واللهَ نسألُ أن يُسرجَ قلوبَنا الخفاقة بحبهِ وحُبِّ مَنْ يُحبُّهُ...ودمتِ بخيْر وألـَق...

رمزي
20-01-2014, 10:31 PM
جزاك الله خيرا أستاذي العزيز يزيد ونفع الله بك ولي إضافة على طرحك المتعلق بالتصوف والصوفية، وهو:

نقل لشيخ من شيوخ الصوفية وهو الإمام أبو عبدالله محمد بن خفيف بن اسفكشاد الضبي الفارسي المولود سنة 268هـ حيث نقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتوى الحموية كلامه الذي دونه في كتابه الذي سماه:

((اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات))

حيث يقول رحمه الله:
((أحببت أن أذكر عقود أصحابنا المتصوفة فيما أحدثته طائفة نسبوا إليهم ما قد تخرصوا من القول بما نزه الله تعالى المذهب وأهله من ذلك.إلى أن قال: وقرأت لـمحمد بن جرير الطبري في كتاب سماه: التبصير، كتب بذلك إلى أهل طبرستان في اختلاف عندهم، وسألوه أن يصنف لهم ما يعتقده ويذهب إليه، فذكر في كتابه اختلاف القائلين برؤية الله تعالى، فذكر عن طائفة إثبات الرؤية في الدنيا والآخرة.ونسب هذه المقالة إلى الصوفية قاطبة لم يخص طائفة، فبين أن ذلك على جهالة منه بأقوال المخلصين منهم، وكان من نسب إليه ذلك القول -بعد أن ادعى على الطائفة- ابن أخت عبد الواحد بن زيد ، والله أعلم بمحله عند المخلصين، فكيف بابن أخته، وليس إذا أحدث الزائغ في نحلته قولاً نسب إلى الجملة كذلك في الفقهاء والمحدثين ليس من أحدث قولاً في الفقه، وليس فيه حديث يناسب ذلك ينسب ذلك إلى جملة الفقهاء والمحدثين.واعلم أن لفظ الصوفية وعلومهم تختلف، فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم، ومرموزات وإشارات تجري فيما بينهم، فمن لم يداخلهم على التحقيق، ونازل ما هم عليه رجع عنهم وهو خاسئ وحسير))

فالشيخ رحمه الله بين أن هنالك أناس نسبوا أنفسهم للتصوف ولمشايخ الصوفية المعتدلين والتصوف والمشايخ منه براء، مع الإشارة أن الأصل هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم لا متابعة الصالحين وإنما يتابع الصالحون إن تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم،،

وتجدر الإشارة أنني بحثت عن كتاب ابن خفيف رحمه الله فوجدت بعض الاخوة في أحد المنتديات أنه ما يزال مخطوطا ولم يطبع بعد، نسأل الله عزوجل أن يخرج هذه المؤلفات التي تبين حقيقة حال أهل التصوف المتقدمين وتكشف أن المتأخرين خالفوهم وحادوا عن طريقتهم،،

يزيد فاضلي
02-02-2014, 07:44 PM
...جزاكَ اللهُ خيْراً-أخي الكريم المبدع رمزي-على هذه الومضةِ الاستدلاليةِ عن خط الانحرافِ الذي اعترَى المنهجَ الصوفيَّ عند المتأخرين منهم مقارنة ًعما كانَ عليه المتقدمون فيهم على خط الاستقامة على أسس العقيدة الإسلامية الصافية ونهج الأسوة والقدوة المتبَعَةِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيل صحبه الكرام رضوان الله عليهم...

وللهِ ما أصدَقها كلمة ًمنصفة ًحين قلتَ : (( مع الإشارة أن الأصل هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم لا متابعة الصالحين وإنما يتابَع الصالحون إن تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم ))...

نعمْ أخي...

المِحَكُّ في سلامةِ المنهج وحُسْن الديانة يكمُنُ أساساً في الاغترافِ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية والتقريرية..وعلى هذا المِحَكِّ وحدَهُ يكونُ الحُكْمُ على صلاح المنهج أو فسادهِ..على حُسْن الاتباع أو سوءِ الابتداع...

ويبقى النهجُ الصوفيُّ في تاريخنا الإسلامي علامة بارزة من علاماتِ ( الحياة الروحية في الإسلام ) ومظهراً رائقاً-عند أقطابهِ الصالحين الملتزمين-لدربةِ النفس على أنوار التجرد والتبتل والمجاهدة...

ولنذكرْ-أخي رمزي-أنه يومَ شاعَ شيءٌ غيرُ قليلٍ من المجون والخلاعة في أوصال المجتمع الإسلامي أيام الفترة العباسية الثانية والثالثة،بل ولنذكرْ يومَ سقطتِ الدولة العباسية في يَدِ المغول التتار سنة 654 هـ وكان لسقوطِ هذه الخلافة دويٌّ هائلٌ في حِسِّ المسلمين..لمْ يكنْ في الحاليْن تيَّارٌ يحفظُ للمسلمينَ كِيانَهم وشخصيتهم الإسلامية غيرُ الطرق الصوفية التي كانَ المسلمون يروْنَ فيها الحصنَ الأخير الذي يتترسونَ خلفه ويُحافظون به على هويتهم الإسلامية المتميزة...

ومراجعنا التاريخية المُعتمدة تشيرُ بوضوحٍ إلى هذا الدور الإيجابي الذي لعبته في تلك المراحل...

ولنا أن نعود مثلاً-عند القدماء-إلى ( وافيات الأعيان ) للعلاَّمة ابن خِلكان رحمه الله ..وعند المُحدَثين ؛ موسوعة كتاب ( تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي ) للمؤرخ المصري الكبير الدكتور حسن إبراهيم حسن رحمه الله...

جوزيتَ خيراً أخي رمزي على هذه الإفاضة الاستدلالية الموَثقة...