المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مــغــامــرة مـــــديــــــر عـــــــــــــــــــــــــام !


عمر حامد
30-03-2014, 10:28 AM
في داخله ليس شريراً ولا حاقداً، ولا يحب الشر لموظفيه،
ولكن أغلبهم يلعنه في سره.. يتمنون اليوم الذي يُشلع فيه من منصبه،
هو يكاد يُجزم ان الكل يكرهه ويتمنون زواله، كان يقرأ ذلك في أعينهم،
من أصغر فراش لأهم مديرٍ يقبعُ تحت إدارته، ولا يزالُ الى اليوم يتذكر الموظف
السابق /عزيز حمدان، عندما قدم استقالته ورمى الورقة على الطاولة
وكأنهُ يُقدم طعاماً لكلبٍ أجرب ، وولى خارجاً ولم يُعقب،
مع ان هذا المذكور كان يحسن معاملته –على حد تعبيره-.


في حقيقة الأمر، لم يجتهد المدير العام كثيراً كي يُصلح ما أفسده جبينه العابس وصمته
الدائم وقليل حديثه وابتسامه مع الموظفين، أحياناً يقولُ في سرّه :
"آتِ كُل صباحٍ هنا لتأدية عملي لا لشيءٍ آخر"،
-كلام جميل- بيد أنهُ في حقيقة الأمر يتعامل بالأسلوب ذاته
مع أهله وذويه وأصحابه وحتى اسرته وزوجته.


منخفضٌ جويٌّ جديد.. أمطارٌ ورذاذ وبُرودةٌ محسوسه،
تقول الارصاد بأنه سيستمرُ لأيام، في هذه الانواء المناخيه تجد الوجوه
باسمةً والنفوسُ منشرحة، إلا صاحبنا، يستغرب الاخرين من مبالغتهم في
استقبال مثل هذه الأنواء، فدائماً ما يمشي بسيارته تحت المطر بوقارٍ عجيب،
يشعرُ معها بالوحدة، وكأن الزمان يصمت كلياً عندما ينزل المطر،
وعندما يأتي الليل وتصدعُ السماء بالرعود وتومضُ بالبروق.. ينطوي في بيته
ويمنع عائلتهُ من الخروج، إنهُ رجلٌ غريبٌ حقاً!
أنهُ تمنى لو أن الكهرباء تُقطعُ دوماً.. فهو يشعر براحةٍ غريبةٍ عندما ينزل المطر
وينقطعُ التيار الكهربائي فيجلس في الظلامِ موقناً أن أعين أسرته لا تراه إطلاقاً،
كثيراً ما يتمنى لو أن الكهرباء لم تُكتشف، فهو بذلك يرى العام أسلمَ وأجمل.


إلا أن شعاراً أخضراً في هاتفه النقال بدأ يقلقهُ ويغيّرُ حياتهُ شيءً فشيئاً (واتساب) ،
لم يعرهُ يوماً اهتماماً رغم محاولة الكثير من أقرانه لإقناعه باستخدامه،
ولكن حدثاً ما قبل أكثر من شهر غير الكثير من قناعاته..
يسترجعُ الان تلك الليلة في حفلة العشاء ما احدى الشركات الكبرى..
كانت تجلسُ المديرةُ الجميلةُ بالمقابل منه، وكانت عكسهُ تماماً،
تُثير الجو نوراً وابتساماً وحديثاً طيبا، كانت شمسا نيّره، بينما كان
هو يجلس على الطاولة كليلةٍ باغتها خسوف القمر، كالبومةِ العجوز تماماً،
أثارت اهتمامهُ كثيرا –وهذا لم يحدث من عقود طويله- لا بأس ببعض النظرات!
وابتسامةٌ واحدةٌ كانت كافيةً كي تفتح معهُ حواراً مُقتضباً،
انتهى بتبادل بطاقات العمل والوعود بالزياره!.


زارتهُ في مكتبه في احدى المرات بموعدٍ مُسبق،
استغرب الفراش صباح ذالك اليوم اهتمام المدير العام برائحة المكتب
وأناقة كل شيء، واستغرب من السبب !
هذه الانثى الجميلة التي دخلت تُثير نقع أرضية المكتب بكعبها الطويل،
وشالها الأسود الذي جعلها تبدو كالنعامةِ التي تبحثُ عن ذكرٍ في فصل التزاوج،
وشاهد بعينه وهي تُصافحه وسرح في قوامها الملعون وعطرها المعلون،
وكاد ان يغرق فيها طويلا لولا ان نهرهُ المدير العام بالماء والشاي سريعا،
انفردَ بها في مكتبها وتبادلا الاخبار والعلوم وآخر مستجدات العمل والسوق،
وكان مما جرى في هذا الحوار، إبداء استغرابها من عدم استخدامه لبرنامج
الواتس آب ، فذكر اسباباً واهيةً، وبجرأة اللبوة التي تعرف تماما من أين تؤكلُ الكتف،
طلبت منهُ نقاله وهيأت لهُ الواتس آب، وهنا بدأت حياتهُ بالتغير الجذري ! .


مرّ على ذلك اللقاء شهرٌ قمريٌ كامل ، بدأ صاحبنا يستسلم لحقيقة أن قلبهُ بدأ
يضُخُّ الدم من جديدٍ بعد توقف عقودٍ كثيرة، وصار كثير الشرود يُطيلُ النظر
في الاشياء كالقط الموهوم، أصبحَ يقرقع أصابعهُ أضعاف ما كان يفعل، ويقولُ في سرّه:
"ها أنا أُراهقُ مُجدداً وقد اقتربتُ من الخمسين!"..
لم يعرف كيف يحدد موقفه، تأخذهُ الظنونُ تارةً من هذه الانثى الجميلة،
ويسحبهُ قلبهُ الى عالمٍ وردي تارةً أُخرى.


لم تجرؤ زوجتهُ على ان تُبدي استغرابها من انشغاله الدائم بهاتفه على غير عادته،
ولكن الشك بدأ يتسللُ اليها، خصوصا بعد أن شنّت غارةً تفتيشيةً على هاتفه النقال
لتتفاجأ بغلقه برقم سريّ! وهو الذي لم يُعره اهتماما يوما ما! شيءٌ على الغير
العادةِ يحدُث!.


رُغم أسديته وتنمره على المحيطين، ارتبك المدير العام وعجزَ عن ان يبدو
طبيعياً قبل يومين من الموعد الغرامي معها!،
أصبحَ لا يطيق نفسه من شدّة التوتر، شعورٌ غريبٌ واحساسٌ عظيمٌ بالضعف،
وعندما اعلنت الساعة التاسعة بعد يومين، وجد نفسهُ في المكان المحدد،
مطعمٌ كبيرٌ فاخرٌ يُقتطعُ منهُ جزءٌ للعائلات، جاء في الموعد، فوجدها قد سبقتهُ
وأشعلة شمعةً أنيقةً على الطاولة، ارتباكهُ بدأ بالتلاشي شيءً فشيئاً،
خصوصا وأن الطاولة التي يتسامران بها تقبعُ في رُكنٍ مستور عن أعين الجميع،
لم يعرف كيف يتصرف وهو الرجلُ الرسميُّ الأول، فبادرتهُ بأن ألقمتهُ حبّة فراولة!،
فتاهت به الألوان كلها الى اللون الاحمر، وبدى أكثرَ هدوءاً رُغم خفقان قلبه.

توالت المواعيد وتكررت، وأصبح مُدمناً على حبّات الفراولة من يديها،
أصبح يعيشُ حياةً ورديةً لم يعرفها من قبل، أثرت على حياته كلها، أصبح أكثر
بشاشةً في العمل، ولم يسأل نفسهُ يوماً (إلى أين؟) أو (إلى متى)،
كان يهتم بمواسم الفراولة أكثر من أي شيء.
لاحظ صاحبنا تغيراً طرأ في ابنه البكر، وكان كُلّ ما لاقاهُ أحس بأن ابنهُ يحملُ
قُنبلةً في جوفه يريدُ تفجيرها في وجهه، ضرب الأخماس في الاسداس وتوجس
خيفةً من المُخبأ له، وفي جلسة صراحةٍ غير معهودةٍ فجّرها الابن في وجه والده،
لم يعرف المدير العام الاب ان يرد على ابنه، كان باستطاعته ان يكذب ويغيّر
الحقائق بأن هذه اللقاءات مع هذه الفتاة ما هي الا لقاءات عمل، ولكنه عجز
واكتفى بالقول لابنه : "لا تتدخل في هكذا أمور، وإياك ان يخرج الموضوع من فمك
الى مخلوقٍ آخر" ..
فيرد عليه ابنه :
"ولكن يا أبي كل اصحابي يتداولون عنك هذه المراهقة المتأخره".

لم يرد الاب عليه واكتفى بأن طلب منه الخروج من غرفته، وانه يعرف ما يفعل ويعي.


من هذا اليوم بدأت مغامرته بالترنُّح أمامه،
ويبدو بأن هذا الحلم الجميل آيلٌ للتلاشي، تقلبت فيه المشاعر عاصفةً،
خامرهُ الاكتئابُ وارتفع في داخله مستوى الحموضه..
داهمهُ الأرق ثلاث ليالٍ..
استقطع شهراً من رصيد اجازته السنويه..
وأولُ ما فعلهُ أن قام بحذف الواتس آب ،
ولم يستجيب لاتصالات ورسائل تلك الانثى،
سافر الى بلدٍ غير معلوم اسبوعين كاملين
أخذ فيها زوجته في رحلة العمر كي ينسى.


كان نشيطاً في أول يومٍ لهُ بعد الإجازة، وظنَّ انهُ بَرَأَ من انثاه،
فإذا بها تزوره في مكتبه بدون موعدٍ مُسبق، وقَفَت أمامهُ بعظمتها الانثوية..
تسلل عطرُ الفراولةِ الى أساريره، غربلتهُ ابتسامتها..
اقتربت منهُ ضمّتهُ .. فأُسقطَ في يده! ..


يجب ان يضع لهذا الجنون حداً .. ولكن كيف .. ؟ ..

أخذ نفساً عميقا.. رتب كلمات في سرّه ( .. يكفي يا فلانه .. ما نقوم به جنون لا اكثر )!

وقل أن ينطق بالمكنون .. بادرته .. ( عزيزي .. لقد خُطبتُ منذ فترة .. !! وهذا اخر لقاء بيننا) .

لم يعرف المدير العام كيف يرد .. اختلط بين المباركة والابتسام ، وانخرط في ضحكةٍ طويلةٍ جبّارة، جاملته صاحبتهُ بالضحك.
"وتبقى ذكرى جميلة" ، هكذا يُعنونُ حالته في الواتس آب ، هذه المغامرة التي قربتها من بيته اكثر، ومن عمله وموظفيه.

انتهت

وهج الثريا
31-03-2014, 06:25 PM
أ.عمر حامد ربما هذه المره الأولى التي أقرأ فيها لك ولكني بحق سعيده بوجود قلمك بيننا وبوجود هكذا فكر ..
قصه مشوقه وأحداث متسلسله ونهاية رائعة ..

سرني المرور هنا .. تقبل تحياتي ..

ناجى جوهر
31-03-2014, 10:38 PM
السلام عليكم أستاذ / عمر حامد
أبدعت أيها الملهم في وصف حالة المدير المتشائم النفسية
وقد أخذنا التقاطات عدية لشخصيته من خلال سردك الدقيق
إن تأفف الموظفين الدائم وشعورهم بضيق أفاق احلامهم
في الترّقي على يدي ذلك المتسلّط هو ما جعلهم يلعنونه
ولن يشفع له نقاء قلبه ما دام عابسا مقطبا
وحقيقة فغن لتلك المرأة الشابة فضلا على الجميع
إذ تمكّنت من تحويل طبيعة الرجل النكديّة
إلى إنسانٍ ذي وجه صبوح
ومع إنها فارقته بعد خطوبتها لكنّها غيرت
اسلوبه
ما شاء الله أستاذ /عمر حامد
مبارك عليك هذه الروعة
وتقبّل تحياتي

زياد الحمداني (( جناح الأسير))
01-04-2014, 10:19 PM
اخي الراقي الكاتب عمر حامد...

سرد عذب متسلسل بمعانية منساباً بمبانيه بأسلوب جذاب يجعل المتلقي يستلقي ليفترض الأفكار المتتالية ..


سرني المرور في هذا السرد المنثور بكلِ سرور ...

عبدالله الراسبي
05-04-2014, 10:37 AM
اخي العزيز والقدير عمر حامد قصه جميله جدا ورائعه
وسرد رائع
نص في غاية الابداع والجمال
ودمت بكل خير وموده اخي الكريم
وتقبل تحياتي