المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صدور ديوان شاعر الشرق العماني بتحقيق جوخة الحارثية


سالم الوشاحي
19-11-2014, 04:58 AM
بعد 10 سنوات من الجمع والتحقيق –
صدر أخيرا ديوان شاعر الشرق العماني، الشيخ أحمد بن عبدالله الحارثي بجمع وتحقيق الدكتورة جوخة الحارثية، ونشر مركز الدراسات العمانية بجامعة السلطان قابوس. استغرق العمل على جمع قصائد الشاعر ثم تحقيقها سنين عدة، ليخرج الديوان إلى النور محتويا على ثمان وتسعين قصيدة، بين تأمل ورثاء ومدح وغزل وخيليات، قدم للديوان بمقدمة إضافية عن حياة الشاعر، وختم بملاحق للقصائد والصور والمخطوطات، عاش الشاعر الحارثي حياة حافلة بالعطاء الأدبي والسياسي وتوفي عام ١٩٩٥ في مسقط.
درس الشاعر في كتاتيب بلدة المضيرب، وتلقى علوم العربية عن الشيخ ناصر بن سعيد النعماني، وغيره من معلمي عصره وفقهائه، كما درس الشاعر يافعا في مدينة نزوى، ومن أساتذته: الشيخ سعود بن عامر المالكي، والشيخ محمد بن شامس البطاشي، والشيخ سعود بن إبراهيم الكندي، وخال الشاعر الشيخ علي بن سالم الحجري. أما الشيخ خلفان بن جميل السيابي فقد كان أستاذه وصديقه وصفيَّه. كما أخذ العلم عن الشيخ حامد بن ناصر الشكيلي، النحوي الشهير، والشيخ سفيان بن محمد الراشدي، وبينهما مراسلات، وغير هذين من كبار قضاة الإمام محمد الخليلي في ذلك الوقت.
وكانت العلوم ترتكز أساسا على النحو واللغة والفقه والأدب. ولا ريب أن شاعرنا قد نهل من مكتبة عمه الشيخ صالح بن أحمد الحارثي ما وسعه، وشكلت سنوات صباه الأولى تكوينه الأدبي والفقهي واللغوي المتين، ثم لم ينفك طوال حياته قارئا ومطالعا في التاريخ والأدب والفقه والعلوم المختلفة، ولما توفي خلَّف مكتبة، بل مكتبات ضخمة عامرة بالكتب في شتى الفنون.
تَأثُّر الشاعر بالنَّفَس الشعري الكلاسيكي بيِّن، وآثار ثقافته العميقة وإعجابه الشديد بالمتنبي وشوقي وأبي مسلم البهلاني قد طبعت شعره بطوابع قوية، وينبغي أن نقرأ هذا الشعر في سياق ظرفه التاريخي والاجتماعي والأدبي، إذ بزغ نجم الشاعر في تيار القصيدة العمانية التي قاد دفتها عبدالله الخليلي وعبدالله الطائي وأبو سرور، وكل هؤلاء الشعراء يقعون في دائرة الظرف التاريخي للمرحلة سواء في التشكيل الفني أو في الأغراض، إذ كان المديح وما نسميه اليوم بـ«شعر المناسبات» مادة أساسية للشاعر، وكانت المراسلات الشعرية، وعشرات الأسئلة والأجوبة، في الجوانب الاجتماعية والفقهية وحتى الفكاهية، شائعة بين الأدباء، ووسيلة للتواصل فيما بينهم.
يبدو أن محاور الشعر عند الشيخ أحمد الحارثي تدور حول ثلاثة: محور العلاقات الإنسانية، محور المواقف الفكرية، محور النزعات الوجدانية والفنية.
وفي هذه المحاور لا يختلف الشاعر في أغراضه الفنية ومضامينه عما تأسست عليه المدرسة الكلاسيكية في الشعر العربي، ولعل فترة الستينات الحافلة بالأحداث الجسام على مستوى الوطن والفرد جعلت شعره ينحو منحى الهموم الوطنية، كما كان احتفاؤه بشعر العلاقات الإنسانية من باب الصلات الاجتماعية التي كان لها ثقل كبير في المجتمع العماني، إذ هو ينتمي إلى كيان اجتماعي متأسس، وإلى قبيلة قوية هو أحد شيوخها، ولا يمكن فصل مجرى حياته عن موهبته الشعرية.
وهكذا يحفل شعره بمدح الرموز، ورثائهم، ولعل الإمام محمد بن عبدالله الخليلي يستأثر بعظيم مدائحه ومراثيه، ولا عجب، فالصلة بينهما كانت صلة تلمذة ومحبة وصداقة، بالإضافة إلى عمل الشاعر واليا للإمام في سمائل، ونرى له كذلك العديد من المدائح في جلالة السلطان قابوس بن سعيد، كيف لا وقد كان مقربا منه، وهمزة وصل بينه وبين القبائل في بدايات حكمه، ثم عمل مستشارا في الديوان السلطاني، ولا ريب أن مدائحه للرموز تنبع من معين صافٍ للشعر العربي، وتنظر لقصائد خالدة للمتنبي وأضرابه، وأحسب أن السهم الأوفر في صناعة هذا النوع من القصائد عند الشاعر، يعود للمرجعيات الثقافية، الشعرية تحديدا، ولنقل «التقاليد الشعرية العربية»، أو «النماذج العليا من القصائد العربية»، إن أردنا توخي شيء من الدقة. وقد كان الشاعر جزءا من نسيج اجتماعي قَبَلي وسياسي تتقاذفه أفكار مؤتلفة تارة ومختلفة تارة أخرى، بين سُلَطٍ مختلفة: سلطة الإمامة بثوابتها، وسلطنة مسقط بتصورها السياسي، وقد أسهم الشاعر في هذا الجو السياسي الصاخب، فبدا شعره متوهجا بهذا الحس، ولم يكن بالضرورة عمودا لنظام سياسي معين، وبالتالي فإن مدائحه للرموز السياسية لا تجعل منه «شاعر بلاط»، إذ كانت له مواقفه الخاصة من الأحداث، وشخصيته الطاغية.
كان الشاعر منشغلا بالهموم القومية والوطنية والدينية، فمسعى حياته كاشف عن ذلك كما هو شعره، وانظر كيف حفلت قصيدته التي ألقاها في ندوة الخليج بالهموم القومية وبقضية فلسطين، وتأمل – على سبيل المثال لا الحصر- قصيدته «يا صاح قم لله دون تمادي». كما كتب قصائد في أعياد استقلال كثير من الشعوب العربية، وفي الأعياد الوطنية لبعض الدول مثل تونس ومصر، لكن معظمها مفقود. ولا يمكن للدارس إلا أن يلمح في شعره اعتزازا عميقا بعمان، بتاريخها وجغرافيتها، بماضيها وحاضرها، كما يكشف شعره عن دارس للتاريخ، مولع بأمجاد الغابرين، منتمٍ إليها، وهاك قصيدته «ألا حي دار الحي حيث الألى نهوى». فكان لديه هذا الإحساس الطاغي بأن كل مكان في عمان هو وطنه، ومحل افتخاره، تشهد بذلك قصائده عن نزوى وسمائل وبدية وصلالة، وهي قصائد فياضة بالمحبة والاعتزاز والحنين، وقد عاش الشاعر في كثير من حواضر عمان مددا متفاوتة في طولها.
ويمكن لمتأمل ديوان شاعر الشرق أن يدرك أن الرثاء غرضه المفضل، وتبدو قصيدة الرثاء عنده استدعاءً لقصائد الرثاء الأشهر في التراث العربي، تبدو إعادة صياغة لها، ونموذجا جديدا يسير على سنن القديم، وقد كان غالبا ما ينظم قصائده بعد سماع خبر الوفاة مباشرة، حسب ما يروي المقربون منه، فتُفتَتَح قصائد رثائه بـ«النبأ العظيم»، النبأ الذي تنهد له الشم الرواسي، وبـ«الخطب الجلل»، و«الأسف الملوع»، أي بلحظة تلقي خبر النعي، ولعل القصائد التي تتجاوز لحظة النبأ العظيم وتستوعبه إلى لحظة التروي والتأسي وتقديم العزاء، لعلها تقع في تلكم المنطقة القلقة بين العام والخاص، بين الحزن الحقيقي للفقد وواجب تقديم العزاء، ولنلاحظ قاسما مشتركا بين جل افتتاحيات الرثاء عند الحارثي، ما بدأ منها بلحظة النعي وما تجاوزه إلى التعزية: إنه هذا الحضور اللافت للأطراف الأخرى: حاملو النبأ ، المصابون، المعزون، تبدو قصيدة الرثاء مشغولة بهم، تستدعيهم للمشاركة في هول النبأ، في توزيع الرزء على مظاهر الكون والحياة، للتعزية والتوصية بالصبر والقيام بأعباء الخلف. الأبيات التي تؤكد استمرار البكاء ودوام الحزن تجنح إلى التكرار، وهذا التكرار يؤدي حتما إلى تسليط الضوء على نقطة حساسة في التعبير، من حيث مجاراته للمنحى السماعي الإنشادي للشعر، ولا سيما أن كثيرا من مراثيه كانت تُلقى في مجالس العزاء المُقامة للمرثي، ويتناقلها الناس بالإنشاد، فهي قصائد كُتِبَت – في المقام الأول – لتُنشَد لا لتُقرأ بين دفتي كتاب. ولا يكتفي الشاعر في رثائه بوصف حزنه الخاص في نصه، وتأثير ذلك الحزن عليه شخصيا، وإنما ينقل لنا مجال التأثير من ذاته إلى خارجها، إلى الكون ومظاهر الطبيعة، فيصورها مشاركة له في وقوع المصاب، مستجيبة لما يعتمل في نفسه، كأنما يبتغي الشاعر أن يتآلف ويتسق مع العالم بخلع مشاعره الخاصة عليه، ولنلاحظ أن اهتزاز العرش والأكوان، وبكاء الحوت والطير، تحضر في ألوان خاصة من الرثاء، وأعني بها رثاء العلماء، مع القصد إلى المبالغة في ذلك، وهي مفردات اعتادت عليها الذائقة العربية في مثل هذا المقام.

جريدة عمان