المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصص عصفت بها ريح الزمن


زهرة السوسن
01-07-2017, 12:45 PM
تعد حياة كل منا عبارة عن مجموعة من القصص المتداخلة، تشكل في منظومتها المترابطة كيانا إنسانيا، وقد نعجز عن فهم حقيقة ما يدور من أحداث ضمن هذه المجموعة القصصية، ذات الإطار الزماني والمكاني المتنوع، وقد نعجز أحيانا عن فك بعض الرموز والشفرات التي قد تيسر لنا فهم الكثير مما يدور من حولنا، فنشعر بالحيرة التي قد تؤدي بنا إلى طرائق قددا.
يسرني أن أبثكم مجموعتي القصصية، التي صنعت مني هذا الكيان الذي ما زال حيا، يتشكل من حوله نسيج قصصي يحاول جاهدا فهم معطياته، واستبانة مضامينه. أهلا بإخوتي وأخواتي.

زهرة السوسن
01-07-2017, 12:47 PM
الميلاد والنشأة
بعد ولادة متعسرة، وبعيدا عن أجواء المشافي جئت إلى الدنيا، وكانت المفاجأة أن المولودة بعد كل هذا العناء والمشقة ميتة، غلب الأسى والحزن على كل الموجودين رحمة بالأم والمولودة، وعند البدء بمراسم الغسل، لاحظت جدتي نبضا خفيفا في الحبل السري، فصاحت بالجمع هناك: إنها حية، وبعد إجراء بعض الإسعافات بدأت الحياة تدب في أوصالي، وقد أبدل الله أحزانهم أفراحا، وعدت إلى حضن أمي المريضة المجهدة.[/size]

زهرة السوسن
03-07-2017, 12:23 AM
نشأت في أسرة مستورة الحال في ظل أم كفيفة، (فقدت بصرها وهي في الرابعة من عمرها)، وأب كثير الأسفار، فقد يمر علينا العام ولا نراه، ولي أخ يكبرني بسنتين ونصف، نشأنا معا في بيت هادئ يعمه السرور، وتكتنفه البساطة، لم يحدث أن احتجنا إلى أحد من الناس، فقد كانت أمي ذات بصيرة نافذة، وقوة بدنية، تقوم بكل أعمال المنزل، مثلها مثل أي امرأة في الحي، على الرغم من وجود أهلنا من حولنا، وعندما بدأت أفهم ما يدور حولي، حرصت أمي على تعليمنا القرآن الكريم، على يد العم خميس معلم القرية، الذي كان بلا شك ماهرا، في التلاوة والتجويد، ختمت القرآن في فترة وجيزة، واحتفلنا بهذه المناسبة السعيدة، كعادة العمانيين في ذلك الوقت؛ وذلك بعمل وليمة لكل البنات والصبيان الذين يدرسون معنا، وترديد ما يسمى: بالتومينة، مرورا في طرقات القرية، كان العم خميس رجلا شديد الغضب والقسوة، لو سمع صوتا أزعجه قام إلينا جميعا وأشبعنا ضربا، ربما تبقت آثاره على أجسامنا أياما، فلا يتجرأ أحد منا على الشكوى، كما كنا نشرب الماء من بئر ماؤها أقرب إلى الملوحة منه إلى العذوبة.
لقد كانت هذه المرحلة العمرية من أجمل أيام حياتنا، تبلورت فيها شخصياتنا، وتأسست فيها حياتنا المستقبلية، وقد تعلمنا من خلالها الصبر والضبط والربط والنظام، وتوقير الكبير، والمنافسة الشريفة، والرحمة بالفقير والضعيف. سقى الله تلك الأيام الرائعة.

[/size]

زهرة السوسن
04-07-2017, 07:02 AM
عندما افتتحت مدرسة القرية أبوابها لأول مرة كنا نشكل الفوج الأول من طلابها، وكانت تللك المدرسة عبارة عن مجموعة من الصفوف المصنوعة من سعف وجريد النخيل، وكان طلابها خليط بين الذكور والإناث المتبايني الأعمار والبيئات(الريف- الساحل- البدو)، أما معلموها فكانوا ذكورا، جاءوا من بلاد شتى، (مصر- الأردن- فلسطين- السودان- السعودية – عمان)، فكانت الأمور أكثر من صعبة في بداية الأمر؛ لقسوة هؤلاء المعلمين، وتعنت بعضهم، وعدم وجود تنوع في أساليب التدريس، والتقويم، وصعوبة المواصلات، ولكن مع مرور الزمن بدأنا نتفاعل مع الأوضاع الجديدة، وبدأ كل معلم يكون فكرة مستوفية عن طلابه.
بقيت هذه المرحلة من الزمن منقوشة في الذاكرة، لا يمكن أن تغادره أبدا، صورة الأساتذة، شكل الفصول، مباريات كرة القدم ونشوة الفائز، الزهور الجميلة التي كنا نغرسها أمام الفصول ونتعاهدها بالرعاية، لوحة الحائط، العصا التي كانت تهوي على الأيدي بكل قسوة، عشر ضربات، عشرين ضربة...ولكن بلا شك كنا نحب العلم، ونحرص على المذاكرة رغبا كان ذلك أم رهبا.
ومر بنا الزمان، وتغيرت الأحوال، وانفصل الذكور عن الإناث، وبدأنا مرحلة جديدة مع المعلمات، لننطلق من مدرسة القرية إلى المدرسة الثانوية، (أم سلمة) في صحار فكنا نركب الحافلة والظلام ما زال يلقي بأستاره، لنلتقي هناك بصديقاتنا، وزميلاتنا في الدراسة، ونحن في غبطة وسرور، وما زالت حكايات صاحب الحافلة ومغامراته محور أحاديثنا الفكاهية، مكثنا في مدرسة أم سلمة حتى منتصف الثانوية العامة، ثم عدنا لنكمل المشوار في مدرسة صحم الثانوية، كأول فوج تستقبله المدرسة، وبعد أن كنا خمسة وأربعين طالبة في مدرسة القرية، (مخيليف) صرنا اثنتي عشرة طالبة حتى نهاية المرحلة الثانوية.
وانقضت سنوات الدراسة الابتدائية و الإعداية والثانوية، بعد أن رسخت في أذهاننا الكثير والكثير من القيم والمبادئ الرائعة بحق، كما اكتسبنا بعض المهارات الجميلة، من خلال حصص التربية الأسرية، وحصص الرياضة، وتولي أمر البع في مقصف المدرسة لم يكن بالأمر السهل، ولكنه كان ممتعا، ولا أنسى خلال المرحلة، تلك التظاهرة الرياضية، التي كانت عبارة عن أسبوع رياضي نسافر بمقتضاه إلى العاصمة، لنلتقي هناك بمجموعة كبيرة من الطالبات من مناطق السلطنة المختلفة، وكنا جميعا نقيم في مدرسة دوحة الأدب؛ لندخل في مسابقات رياضية، متنوعة، ( رمي الجلة- الجري- الوثب العالي- الوثب الطويل- كرة الطائرة- كرة السلة- كرة اليد)، وفي الختام يحصد الفائزون الميداليات، وتتوج المنطقة التعليمية الفائزة في حفل بهيج، فما أروع تلك الأزمنة.
كما لا أنسى تلك الشجرة العظيمة، (شجرة الغاف) في مدرسة أم سلمة، والتي كنا نجتمع تحتها، في أثناء وقت الفسحة، نتبادل الطعام والأحاديث الجميلة حول كل شيء، وقد كنت ألقي على مسامع صديقاتي وزميلاتي شيئا من أشعاري التي كانت في مواضيع شتى، إلا أنها كانت تفتقر إلى الوزن العروضي في بعض أبياتها، ولكني كنت أجد سرورا عظيما، وأنا أرى حسن تفاعلهن. لم تكن مجرد شجرة وارفة الظلال نتقي بها لفحة الشمس وحر الصيف، وإنما كانت رمزا عظيما في حياتنا.

زهرة السوسن
09-07-2017, 08:29 AM
لقد حرصت خلال هذه الفترة على القراءة؛ فكنت أقرأ كل ما يقع بين يدي من كتب، ولم تكن مصادر المعرفة متنوعة كما الحال اليوم، فلم تكن هناك إلا مكتبة المدرسة، ومكتبة ابن خالة أمي البسيطة، فقد كان محبا للقراءة، وموهوبا في الخط العربي، وكثيرا ما كنت أتردد على مكتبته، لقد تنوعت قراءاتي، فقرأت في دواوين الشعر، لمختلف العصور الأدبية، وقرأت روايات أجاثا كريستي، وأرنست همنجواي، وروايات شكسبير، وبعض مسرحياته الشائقة، وكانت تجذبني كتابات الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي كثيرا، كما كنت أحرص على اقتناء مجلة ماجد، فكنت أجد في القراءة متعة عظيمة، كما كنت أتعرض كثيرا لتعليقات صديقاتي وزميلاتي المحبطة، ولكني لم ألق بالا، لهن.
في هذه المرحلة كانت لي بعض المحاولات الكتابية؛ فقد كتبت الشعر الفصيح، والقصص الطويلة، وقصص الأطفال، وحرصت على تدوين مذكراتي اليومية، مع ما واجهت من صعوبات، فلا مرشد ولا موجه، ولا حتى من يهتم بما أكتب، ولكني واصلت الكتابة؛ فقد كانت المتنفس الوحيد لي في تلك المرحلة، كما أحببت المسرح المدرسي كثيرا كنشاط اجتماعي مدرسي، وتفوقت في الآداء، وخاصة في المناسبات الوطنية، والاحتفال بنهاية العام الدراسي، أو المشاركة في المسابقات على مستوى المدارس التابعة للمديرية.
لقد كانت مرحلة حافلة بالعطاء، والمفاجأت، ولكنها كانت أكثر من رائعة.
[/list]

زهرة السوسن
20-07-2017, 01:58 AM
وبدأت مرحلة جديدة من حياتي، مع الحياة الجامعية،(جامعة السلطان قابوس)، وجوه جديدة، أماكن جديدة، مسؤوليات عديدة، نمط حياة مختلف تماما، وقع الاختيار على كلية الآداب؛ هروبا من عالم التربية والتعليم، وكان الهدف اختصاصية اجتماعية، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن؛ فقد كان المعدل أدنى من معدل بقية الأخوة والأخوات؛ والسبب أني لم أفهم المطلوب من السؤال الثاني، وقد أبت علي نفسي أن أفتح الكتاب كما فعل بعضهم، فتبخر الحلم العزيز، وقبل هذه الصدمة، تلقيت صدمة أخرى بوفاة خالي الذي كان نعم الصديق لي ونعم الأخ والقريب، وكان هو الذي يوصلني خلال الفصل الأول من السنة التأسيسية الأولى، ولكن قدر الله له أن يقضي نحبه في حادث سير أليم، وهو في طريقه إلى المنزل بعد أن أوصل صديقه الحميم ليلا.
كانت كارثة عظيمة بالنسبة لي ولأمي التي كانت شديدة التعلق به، فليس لها من الأخوات نصيب، وكان نصيبها من الإخوة اثنين، كان هو أصغرهما وأنجبهما، فلازمت الفراش شهرين؛ حزنا على فقده، فمنذ أن توفي وحتى هذه اللحظة وصورته ماثلة أمامي بكل تفاصيلها، وما يزال صوته يرن في أذني، فإن غاب جسدا، فقد عاش روحا في قلبي وفي قلوب كل من عرفه. عليه رحمة الله تعالى.
بعد أن ذهب حلمي أدراج الرياح عزمت على دراسة اللغة العربية وآدابها، وتوكلت على الله تعالى، وقد مرت تلك السنوات بكل ما فيها، وبكل ما حملته من متاعب وأحزان وأشجان وعجائب وغرائب، وأهم ما تميزت به تلك السنوات، دة تكوين قاعدة عريضة من الإخوة والأخوات، من محافظات ودول شتى، فقدان ركيزة مهمة من ركائز السعادة في حياتي بوفاة خالي، وفقدان حلم الحياة، بداية الكتابة الفعلية للشعر، ونشر بعضها باسم مستعار بعد تشجيع من إحدى صديقاتي المقربات في الجامعة، كما حققت أول ظهور إذاعي في برنامج على الهواء، وألقيت حينها قصيدة، درب الشقاء.
كانت هذه تجربة فريدة جديدة بالنسبة لي، توقفت بعدها عن النشر وعن أي شيء آخر، وانكفأت على نفسي، وتركت الكتابة فترة من الزمن، وشعرت بالضجر من كل شيء حولي.

زهرة السوسن
29-07-2017, 02:15 PM
انقضت سنوات الدراسة الجامعية، وعاد كل حي إلى داره محملين بأبهى صور الجمال عن إخوان وأخوات شهدنا لهم بالجد والاجتهاد، وحسن التفاؤل، وجلال القيم والأخلاق التي تربوا عليها، فما زالت صورهم حية في أذهاننا، منقوشة بإحكام على صفحات القلب.
في هذه الفترة تغيرت كثيرا قلبا وقالبا؛ صرت أكثر قدرة على مواجهة الصعاب، وأكثر نضجا فكريا وعاطفيا، بدأت أنظر إلى الحياة بشكل مختلف، أهتم بالتفاصيل كثيرا وأحاسب نفسي على كل شاردة وواردة، صرت أكثر حساسية تجاه الحياة.
بعد حفل وداع بهيج انفرط عقد اجتماعنا النظيم، ولكن بقيت بعض المواقف الصعبة عالقة بشدة في ذاكرتي، موقف ذلك الشاب الذي أحبني بصدق وبكل ما أوتي من قوة، وعزم وإصرار؛ فكان أول من يحضر إلى قاعة المحاضرات، وآخر من ينصرف؛ ليظفر بنظرة خاطفة يعلل بها نفسه، وكان شاعرا مجيدا يحرص على توزيع شيء من قصائده علينا، ولم نكن إلا سبعة من الذكور، وخمسا من الإناث نشكل تخصص اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب، والقاعة كانت بحجم فصل دراسي من فصول المدارس، يجلسون أمامنا ونحن من خلفهم؛ فكنا مكشوفات تماما، أحسست بفطرتي أني أنا المقصودة، فقلت أعرض الأمر على صديقتي المقربة إلي؛ لتدارسه بشيء من الفطنة والتعقل، وكنت حينها في حكم المخطوبة لابن عم أبي، منذ كنت في الصف الثالث الإعدادي، ولكن إصرار أمي على إكمال دراستي، كان أمرا إيجابيا في حياتي.
اتفقت مع صديقتي على حيلة أوصل بها فكرة الخطبة إلى ذلك الشاب؛ حتى لا ينساق وراء عواطفه أكثر فأكثر، وكنا حينها في السنة الرابعة والأخيرة.
وصل الشاب مبكرا كعادته قبل زملائه، فشرعنا في تنفيذ الخطة، فما إن جلس حتى بدأت صديقتي الحديث معي: مبارك لك يا أختي الغالية الخطبة، وأسأل الله لك التوفيق، فقد فرحت لك كثيرا جدا. طرقت هذه الكلمات مسامعه فقام واقفا، ودفع بالكرسي دفعة قوية إلى عرض الحائط، وخرج ثائرا، لم يكن الوضع مضحكا، ولكنه بحق كان مؤسفا للغاية، فما توقعت ردة فعله القوية، وأكبرت فيه صمته طوال تلك السنوات وأدبه الجم. انقطع عن الدراسة فترة من الزمن، شعرت خلالها بتأنيب الضمير، ولكنه ظهر فجأة وبحوزته قصيدة رائعة تحكي مأساته، وعزمه وإصراره على المضي قدما، وكان الأمر كما يبدو معلوما عند أصحابه وزملائه، فكانوا يساعدونه، ويقفون عنده قلبا وقالبا. لم أنس هذه القصة، وماذا علمتني من دروس، وإن ذهبت أدراج الرياح.
استقر بي الحال في المنزل، لا أفكار جديدة، ولا عمل غير أعمال المنزل التي كنت أساعد فيها أمي التي تحملت الوحدة المخيفة خلال تلك السنوات الأربع؛ فقد كان أبي يعمل في العاصمة بعد أن ألقى عصى الترحال واستقر معنا، وأخي في دبي، وأنا في الجامعة. فحرصت على أن أقدم لها ولو ذرة واحدة مما قدمته لنا كأسرة حرصت أمي على أن يكون أفرادها سعداء، فما عرفتها إلا صابرة، ومدبرة كخير ما يكون التدبير، ومتفائلة على الرغم من ظروفها القاسية، حفظها الله تعالى.
للحديث بقية.

زهرة السوسن
30-07-2017, 09:47 AM
مع مرور الوقت بدأ الضجر يتسلل إلى نفسي، وبدأت أشعر بفراغ كبير، حاولت أن أسده بالكتابة، والقراءة ، والقيام ببعض الرحلات. في هذه الفترة لم أفكر في الظهور ككاتبة، بل كنت أتجنب التفكير في هذا الأمر تماما، وأشعر بالخوف يتسرب إلى نفسي لو خطر لي خاطر بالتقدم خطوة في هذه الناحية؛ إنها الثقة بالنفس وبجودة ما أكتبه هي التي كانت تنقصني، في الوقت الذي كنت أرى أن ما ينشر في الصحف لم يكن بذلك المستوى الفني الراقي، إلا أن الكتابة تحتاج أمثالهم، فالممارسة والمشاركات هي التي تصنع الشاعر المميز، كما علمنا من أسواق الشعر والأدب منذ العصر الجاهلي، ولكن حال الجريض دون القريض.
خلال هذه الفترة من عمر الزمن تقدم لي الكثيرون من طالبي القرب(الزواج) من مشارب شتى ولكن الرد كان معروفا سلفا، وهو وعد أبي لابن عمه بالزواج، وجميع من في القرية يعرفون ذلك تمام المعرفة، وأنا أنتظر ابن عم أبي ليتقدم رسميا لخطبتي، لاح في الأفق شخص آخر، يتصل على هاتف المنزل الثابت؛ لعدم وجود المحمول في ذلك الوقت، ليبث إلي حبه وتعلقه بي، فكنت أقطع الاتصال مرة بعد مرة، ولكنه كان يصر على ذلك، فعشت حينها الخوف والقلق الشديدين، فما كان أمامي إلا المواجهة، فانتظرت الوقت الذي يتصل فيه، فحملت السماعة، وكعادته يبدأ بأبيات نبطية في الحب والغزل، هذه المرة انتظرت وأخذت نفسا عميقا، ثم فتحت باب الحوار معه، لأعرف من يكون، وماذا يريد مني بالضبط، فوجئت بأنه يعرفني تمام المعرفة، وأنه رآني في الجامعة، ويعرف عنوان سكني، ويعرف أني مخطوبة لابن عم أبي، فقلت له: تعرف أني مخطوبة، فلماذا تصر على مضايقتي؟
رد قائلا: أرى أن (س) لا يناسبك، فدعك منه، وأنا مستعد للتقدم إليك خاطبا.
كلامه أثارني، فبدأت أرفع من حدة نبرات الحديث معه، وقلت له: هذه آخر مرة تتصل فيها، ولا شأن لك معي ولا مع ابن عم أبي. لكنه أصر على موقفه فقطعت الخط.
مع كثرة رنين الهاتف ولا من متحدث، بدأ يزيد من حدة قلقي؛ فخشيت أن يظن بي أهلي سوءا، فبدأت أفكر كيف لي التخلص من هذه البلية العظيمة، فما هداني فكري لشيء أبدا. حتى ذات مرة رن جرس الهاتف رفعته فكان ذات الشخص، فانهلت عليه توبيخا وتقريعا، وشتما، وبدأت أصرخ في وجهه بطريقة هستيرية، فما كان منه إلا أن رد يائسا متوعدا لي: سأصنع لك سحرا. فقلت له: أعلى ما في خيلك اركب عليه، لا وفقك الله، وأغلقت السماعة, فكانت تلك المكالمة آخر عهدي به.
ارتحت من هم ذلك الآدمي، وبعد أسبوعين تقدم ابن عم أبي مع أخيه الأكبر ليوثق وعد الزواج رسميا، فرأيت فيه من الوهلة الأولى شخصا آخر، فأنا أعرفه عز المعرفة، فمنذ أن فتحت عيني على الدنيا كان أمامي، نشأنا معا تربينا معا، وكان بيتهم ملاصقا لبيتنا، وكلما كبرنا توثقت العلاقات بيننا، فكان مثالا يحتذى في دينه والتزامه وأدبه وعلمه وأخلاقه، وكان لا يفارقنا ولا يقطع زيارته عنا، فيجد الترحيب وحسن الاحتفاء به من أمي وأبي وأخي، ولا يخفى عليكم، تعلق قلبي به، وخالط كل مشاعري وأحاسيسي، وكنت أنتظر اليوم الذي يتقدم فيه بفارغ الصبر، فجاء هذا اليوم، ولكن ليس كما كنت أتأمل، استقبله أهلي خير استقبال وغابت أمي عني ساعة من الليل؛ حيث كانت معهم، ثم عادت مكفهرة الوجه مقطبة الجبين، تتحدث بلهجة العاتب الحزين.
أثار هذا الموقف مشاعري، وقرأت فيه أن موضوع الخطبة لم يتم، لذت بالصمت برهة، ثم استجمعت قواي، وسألتها عما حدث، فانفجرت باكية، ثم قالت: ما كنت أتوقع من(س) أن يشترط هذا الشرط علينا، وهو لا أريدها أن تعمل خارج المنزل، وأنا أتكفل بالصرف عليها، كبر هذا الشرط عندها فبعد تلك السنوات التي سعت فيها لتراني موظفة، ولي قدري في المجتمع وخدمة الوطن، يأتي ليقول: تجلس في المنزل. كما وقف المهر عائقا بين سعادة قلبين، وجمع شملين، مع العلم أن المهر لم يكن تعجيزيا بل كان في متناول قدرته، ولكنه كأنما جاء لينهي المسالة بطريقة دوبلوماسية، كما أفادت أمي أن صوته كان يعلو على أبي وكأنه ليس ذات الشخص الذي عرفه الجميع، فانطلق من بيتنا انطلاق السهم الخاطف، مخلفا وراءه بعض الجرحى.
لا أدري ماذا حدث لي، لم أستطع تحمل الصدمة، فقد حفظت عهده سنوات طويلة من عمري، حتى أصبح يجري في دمي، يمدني بالطاقة اللازمة للانطلاق والتحليق بعيدا في هذا العالم. انتابتني حالة من الذهول، ووقعت أسيرة المرض، فلا طعام ولا شراب، ولا نوم ولا راحة, شعرت بالهزيمة والانكسار، بدأت أفكر في الموت، ولا شيء سواه، أتألم في صمت مطبق، أذوي كما تذوي الزهور إذا حرمت من إكسير الحياة، فكنت أقاسي بمعنى الكلمة، بكيت وبكيت وانتحبت كثيرا، ليس لأني فقدت رجلا كنت أرى فيه فارس أحلامي فقط، ولكن شعوري بأني اغتلت مشاعري وأحاسيسي، وقضيت عمري في ظل كذبة سخيفة جعلني في حالة يرثى لها.
خلال هذه الفترة الرهيبة من حياتي، فتح الله أمامي بابا لأنفذ من خلاله بعيدا عن مسرح الحدث، فقد تم فتح باب التسجيل للتأهيل التربوي في مسقط، (معهد روي للتأهيل التربوي)، فكنت أول المتقدمين، حملت جراحي وانكساراتي وعواطفي المهشمة، وأصررت على البقاء، بل على العودة من جديد إلى الحياة، محاولة عدم ترك الفرصة للماضي لينال مني، كانت تلك السنة الدراسية درسا مهما في الحياة، أكسبنا شيئا من القوة، شغلني عن همومي التي كانت تصر على ملاحقتي في خلواتي فتسيل دموعي حارة ينصهر لها الفؤاد، ولكني كنت أنظر إلى البعيد؛ لأصنع واقعا جديدا وجميلا في ذات الوقت.
لملمت الجراح، ورميت بها بعيدا، لاحقت الحزن والأسى في قلبي، فقضيت عليه.
كنت خجلى من نفسي التي خذلتها يوما، فعزمت أن أعوضها عزة وشموخا.
عدت بعد إنجاز المهمة بنجاح، طبعا تزوج (س) من أخرى، خلال هذه السنة فعرفت أنه لا يستحق دمعة واحدة أسكبها في سبيله، افترقت بنا السبل، وأخذ كل واحد منا نصيبه في الحياة. مضيت متناسية ولكن كان يشغل بالي تهديد ذلك الرجل بأن يصنع لي سحرا، وليس ذلك عليه ببعيد.

للحديث بقية

زهرة السوسن
31-07-2017, 09:20 PM
في عام 1994م بدأت مشواري العملي في التربية والتعليم، وعملت في مدرسة الضياء الإعدادية، معلمة لغة عربية، للصف الثالث الإعدادي، وبدأت أجد في العمل متعة كبيرة، وأنا أندمج في المجتمع المدرسي المليء بالمفاجآت المثيرة، ولم أكد أمضي في طريقي الواعد، حتى حدث ما لم أكن أتوقعه، وهو وفاة أبي الحبيب في حادث دهس على الطريق عائدا من عمله متوجها إلى مكان سكنه في مسقط، وقد تلقينا الخبر على أنه أصيب بكسر في رجله، وهو في غرفة العمليات في المستشفى العسكري، انطلقت وأخي ولم نخبر أحدا بالأمر حتى نطمئن على صحة أبي، وبمجرد وصولنا إلى المستشفى بعد أذان المغرب مباشرة، في ليلة غرة رمضانية، كان أبي قد فارق الحياة، ولم يكن الأمر كما قيل، بل إنه أصيب بإصابات بالغة جراء هذا الحادث، أودت بحياته، حزنت على أبي حزنا عظيما كاد يفقدني صوابي، لولا التأسي بوجود يوم يقوم فيه الناس لرب العالمين، رحل أبي وهو يشعر بالعناء والتعب، وكلما سمعته يردد ذلك صبرته، بأني بمجرد الانتظام في العمل، عليه أن يستقيل، ويستريح من عناء الحل والترحال.
في تلك الليلة التي مكث فيها أبي في المنزل دخل عليه القريب والبعيد، إلا أنا لم استطع النظر في وجهه خشية أن أرى آثار الحادث على وجهه، فتألمت لذلك كثيرا فيما بعد، وحتى الآن ما زلت في حساب مع النفس، ولكني أعرف نفسي جيدا فما كنت لأقوى على ذلك أبدا.
في نفس هذا العام كان أخي قد تزوج، وذلك قبل وفاة أبي بخمسة أشهر فقط، وما كدنا نفرح بزواج أخي، حتى دهمنا القدر بهذه النكبة العظيمة، فخضعنا مسلمين الأمر لله الواحد القهار, غفر الله لأبي وعفا عنه، فلم يفارق خيالي وأحلامي أبدا.
أكملت سنتين دراسيتين في مدرسة الضياء، ثم انتقلت إلى مدرسة: عاتكة الثانوية للبنات، ودرست الصف الثاني الثانوي(الحادي عشر). خلال هذا العام تقدم لي شخصان في ذات الوقت، الأول يعمل في شرطة أبو ظبي، وقد سبق له الزواج من قبل، ولكنه كان قد طلق زوجته التي رزق منها بولدين اثنين، ويعيش في أسرة كبيرة مركبة في بيت العائلة، أما الثاني فكان يعمل في الخدمات الصحية التابعة للمستشفى العسكري، وظروف أسرته مطابقة تماما لظروف أسرتي، يسكن مع أمه وأخته. لم أستطع إعطاء قرار حاسم إلا بعد مدارسة الأمر جيدا، وإنعام النظر فيه، وكان الأول أسبق في التقدم. فكرت كثيرا واستشرنا الأهل، فرفض معظمهم الأول على أساس أنه قد سبق له الزواج وله أولاد، ولكني بقيت مترددة ، حتى عزمت على صلاة الاستخارة، التي من خلالها حسمت الأمر وتوكلت على الله تعالى؛ حيث رجحت كفة الأول، فلم انظر إلى زواجه الأول وابنيه على أنها حواجز، قد تقف حجر عثرة بيني وبين الموافقة عليه، رتب مع أهله حينها موعدا لينظر إلي فيه، وأنظر بالتالي إليه، تم اللقاء، فعندما رأيته شعرت بأني أعرفه من قبل، فارتاح له قلبي ووجداني، وكذلك هو، ثم تم إعلان الخطبة، فرضي من رضي وغضب من غضب. ولكن انقطعت عنا أخباره ولم نعد نعرف عنه شيئا وخاصة لأنه كان من قرية أخرى، فسرحت بي الظنون هنا وهناك، حتى عرف السبب فبطل العجب.
للحديث بقية

زهرة السوسن
03-08-2017, 11:53 PM
بعد فترة من ترقب أخبار جديدة عن الرجل الذي انقطعت أخباره عنا، جاءنا الخبر اليقين، بأن الرجل سقط مريضا هكذا فجأة في عرس أخته ولازم فراش المستشفى في أبو ظبي، وظل على ذلك الحال اثنين وعشرين يوما، لم ير فيها ضوء الشمس، وقد حار الأطباء في مرضه فلا عوارض مرضية معروفة لديهم؛ فتأخر علاجه، حتى هداه الله تعالى إلى قيام الليل يدعو ربه ويتوسل إليه أن يوفقه للشفاء، كما قام أهله بمعالجته بطريقة أخرى أيضا بعد يأسهم من شفائه على يد الأطباء هناك، والغريب أن المرض كان يشتد عليه إذا ما انتصف الليل، فلا يغمض له جفن، حتى شارف على الهلاك، ولكن رحمة الله قريب من المؤمنين، ويجعل الله من بعد عسر يسرا، فقد شفي تماما مما هو فيه، وعاد إلى دياره سالما، بعد أن أكل المرض شحمه ولحمه. فمن رآه قبل الخطبة يستنكره بعدها، لشدة ما أصابه.
بعد عودته عزم على تحديد وقت لعقد الزواج، وتم له ذلك، ولكن برزت مشكلة جديدة، وهو تغير مزاج أمي، فكأنما أصيبت بحالة من الكآبة والسأم والضجر، وكانت تردد أنها قد عدلت عن رأيها بالموافقة عليه، وانعكس ذلك سلبا على علاقتها بي، وقامت تعاتبني عتابا شديدا على أني سوف أتركها وأبتعد عنها، وقد وعدتها أن أبقى بصحبتها عمري كله، أولتني ظهرها تماما وكرهته كأنما بينها وبينه ثأر عظيم.
طبعا كان الأمر واضحا تمام الوضوح، فإنما هو كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث اتى، كل هذه الظروف جعلتني أكثر إصرارا على المواصلة وعدم الاستسلام لقوى الشر الشيطانية، فلم أنس تهديد ذلك الخبيث، ولكن هيهات لما شاءت نفسه الدنيئة، فإرادة الله أقوى من إرادة كائن من كان.
تم تحديد موعد للعرس، فازدادت حالة أمي سوءا، وتحولت إلى خصم عنيد، فلا أنس موقفها مني في ليلة العرس؛ فقد دخلت علي قبل الزفة بقليل، وأسمعتني من الكلمات ما يذيب الصخر، واحتسبتني في عداد الأموات من أهلي، وخرجت من المنزل تماما، ولم تستقبل أهله، يبدو أن ذلك الخبيث وجه أسحار ساحره إلى زوجي وإلى أمي، فعانى الاثنان تلك المعاناة الشديدة، ولكن يفعل الله ما يريد؛ فقد تم الزواج مع شدة الرهبة من مفاجآت جديدة في تلك الليلة.
بقيت أمي على عدم ارتياحها من زوجي ست سنوات، فلا تجاذبه أطراف الحديث ولا تمد يدها إذا مد يده مصافحا، وكذلك قلبها لم يكن صافيا تجاهي، ولكني كنت أحرص على زيارتها بشكل يومي، حتى تهدأ نفسها، وتطمئن، وعندما عاتبتها ذات يوم على ما بدر منها في ليلة العرس، قالت والله ما كنت أملك رشدي، ولا أدري ما طرأ علي فجأة فحولت العرس إلى مأتم، وليس هذا فحسب فقد كرهت أمي حتى المنزل الذي قضت حياتها فيه وكرهت كل من حولها من الأهل فطلبت من أخي أن يغير المنزل، وساعدته في بناء منزل جديد، وانتقلوا من الساحل إلى منطقة اخرى في نفس القرية، فبدأت حالة امي تتحسن شيئا فشيئا، إلا عدم ارتياحها ورفضها لزوجي، ولم تكن هناك مسوغات لذلك الإعراض، صبرنا على ذلك ردحا من الزمن، ولكن يبدو أن هناك أفكار جديدة لدى قوى الشر، فما كانوا ليدعونا في سلام.
للحديث بقية- في الصفحة الثانية

زهرة السوسن
09-08-2017, 12:48 AM
انقسمت حياتي الأسرية لثلاث مراحل:
مرحلة الهدوء قبل العاصفة:
كانت هذه المرحلة من أقصر مراحل حياتي الأسرية؛ فلم تتجاوز السنتين، ولكنها كانت كفيلة بتوطيد العلاقات الزوجية، واكتشاف ما هية الطرف الثاني، شعرت خلالها بالحب والألفة والمودة من قبل زوجي، ورزقنا خلالها بعمر، الذي سر به كثيرا، وضمه إليه في حنان؛ حتى تعلق الصغير به تعلقا كبيرا.
عشت نمط حياة العائلة الكبيرة المركبة من الأم والأب، والأخوة وأبنائهم، والأخوات، ولكن الجميع كانوا على درجة كبيرة من الاحترام والتقدير للقادم الجديد، وأنا بدوري أحببتهم على الرغم من صعوبة العيش في أسرة كبيرة بالنسبة لي؛ لأن غالبيتهم كانوا ذكورا، وكنا نتشارك الخدمات المنزلية، ولكن دماثة أخلاقهم جعلتني أشعر بالارتياح نوعا ما، وكان زوجي يقضي ثمانية أيام في عمله في أبو ظبي، أعود خلالها إلى بيت أهلي؛ لأكون قريبة من أمي، كما لفت نظري أيضا خلال هذه الفترة اعتماد أهله عليه في معظم أمورهم وخاصة أبوه الذي كان يتجاوز إخوته إليه في معظم أعماله، ولم يكن كبيرهم، فما رأيته يتأخر عن خدمة أهله، أو يعتذر عن ذلك. أكبرت ذلك فيه وأعنته عليه، حتى توفي أبوه وهو يدعو له.
ونحن على ذلك من الهدوء والسكينة، بدأت الأحوال تتغير، وبدأ زوجي يحب العزلة، لندخل في مرحلة جديدة غريبة علينا، فبعد أن كان منبسط الأسارير أصبح منقبضا معي ومع عمر الصغير، فكان يتجاهلني وولدي، وإن بكى الصغير يريده أعرض عنه، أما علاقته بي فقد لحق بها التوتر، وصارت تقوم على الأمر والنهي فقط، وأصبح يستثقل الحديث معي ويسد دوني كل الأبواب، ويعتبرني مصدر إزعاج هكذا دون أسباب؛ فإن شئت الحديث معه في أمر ما، رد علي بأنه مشغول؛ إما يقرأ الصحيفة، أن يشاهد التحليلات الإخبارية، أو يريد النوم، او الخروج، أو...إلخ.
فأضطر إلى النزول عند رغبته، فعم الصمت بيني وبينه، وليس هذا فحسب بدأ يظهر لي ولولده الكثير من القسوة والتعسف، فما كان أمامي سوى الصبر على ذلك، ولكن الأمور كانت تسير إلى الأسوء، فأصابني القلق والأرق، وبدأت أشعر بوجود أشياء غير طبيعية في غرفتنا؛ أصوات ضحكات، وأحيانا بكاء طفلة، أصوات قطط وكأنها في دولاب ملابسنا، صوت ماء يترقرق، حفيف نعال تسير في الغرفة، وفي الوقت الذي كان هو يغط فيه في نوم عميق كنت أشعر بالخوف الشديد، وكثيرا ما كان يستيقظ عمر مفزوعا من نومه.
استعنت بالله تعالى على ذلك وصرت أركز على قراءة القرآن الكريم، والرقى الشرعية، والدعاء، وغن استسلمت للنوم أرى أشياء معلقة في أشجار في منازل قديمة، أو أرى عظاما معلقة في نوافذ بيت قديم مندثر، وأكثر من مرة، رأيت أشياء في آبار وكأني أراها أمامي حقيقة، وسمعت في نومي مرة كأنما قائل يقول لي: في بعض هذه الغرفة سحر، وأحيانا يتراءى لي رجل كبير في السن فاحم اللون يجلس في منتصف قاعة الجلوس يتكئ على عصا غليظة، وإن حاولت إخبار زوجي بذلك اتهمني في عقلي.
كنت أجهل الفاعل، وإن كان شكي يذهب إلى ذلك الرجل الذي هددني ذات يوم بالسحر، حتى ذات يوم فوجئت بزميلة في العمل(منسقة فنية) كانت علاقتي بها طيبة، تأتي لتقول لي احذري من فلانة ومن كيدها، فهي تذهب إلى المكان الفلاني، لتصنع لك سحورات، وكانت هذه المرأة صديقة حميمة لتلك المرأة ولكن يبدو أن هناك عداوة نشبت بينهما؛ فجاءت تخبرني بكيد صاحبتها بي وبأسرتي، طبعا لم أستبعد ذلك منها؛ فبعد زواجي لاحظت أنها تناصبني العداء، وتحاول مضايقتي بطرق شتى، وكأني كنت السبب في انفصالها عن زوجها، على الرغم من أنها كانت قد تزوجت بعد انفصالها عن زوجي، وظل هو ثماني سنوات بعدها دون زواج، وهي من طلبت الانفصال وعملت عليه.
بطبيعة الحال تحولت حياتنا إلى جحيم وعشنا غريبين في غرفة واحدة، حتى اتفق أن فتح باب التسجيل لراغبي التأهيل التربوي من حملة الشهادات الجامعية، في جامعة السلطان قابوس، وكان ذلك عام 2002م
فشجعته على ترك العمل في أبو ظبي، وأن يلتحق ببرنامج التأهيل التربوي في الجامعة؛ فقد كان رجلا طموحا للغاية؛ حيث إنه كان يجمع بين العمل والدراسة عن طريق الانتساب إلى جامعة بيروت، فكانت فرصة ذهبية له ولزملائه، فاستقال من عمله، وقدم للحصول على دبلوم التأهيل التربوي، في الوقت الذي أتاحت لي فيه الوزارة فرصة الحصول على دبلوم التوجيه التربوي، في نفس العام ونفس الجامعة،
توقعت أن تكون هذه السنة سنة ألفة ومودة بيني وبينه، وخاصة أننا سوف نبتعد عن جو البيئة الملغمة بالهموم والأشجان. استأجرنا بيتا في منطقة الخوض قريبا جدا من الجامعة، وتركت عمر في رعاية أهلي، وبدأ المشوار، ويا له من مشوار!ّ!

للحديث بقية

زهرة السوسن
09-08-2017, 01:08 AM
اقتضت حكمة الله تعالى أن نكون معا في هذه السنة، التي توقعت أن نكون فيها أقرب من بعضنا، نعيد فيها ترتيب أولويات حياتنا، نناقش فيها ما مضى، وما حال دوننا ودون ألفتنا وتلاحمنا كأسرة واحدة، ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه.
انتقلنا إلى الخوض، وما زال مدبرا قليل الحديث، ساهما، كأنما يحمل من الهموم جبالا راسيات، أما أنا فقد اعتدت أن أواجه هذه الأمور بعظيم الصبر، متأملة متفكرة في ما آل إليه حالنا من التشتت والتردي، والمشكلة تكمن في عدم رغبته في فتح أي باب للحوار والنقاش، ويفضل بقاء الأمور على ما عليه من سوء الأوضاع، كنت حينها حاملا بابنتي سوسن، وحالتي الصحية من السوء بمكان، ولا معين إلا الله جل وعلا. عندما استقر بنا الحال هناك، كان اول شيء لم اتوقعه منه أن يخبرني بأن كل واحد يسافر بسيارته الخاصة، فكان يتقدمني بليلة، ويصل مساء السبت، وكنت أتأخر حتى الصباح من أجل ابني عمر، فأصل مع موعد المحاضرات، ما في ذلك من بأس، ولكنه كان يعود يوم الأربعاء، ويتركنا بفردي في منزل الإيجار، جربت الأسبوع الأول فأصابني الرعب وخاصة أني غريبة عن المنطقة ولا صاحب لي فيها ولا أهل، وكان المنزل مفتوحا؛ فهو عبارة عن غرفتين متجاورتين مفتوحتين على ساحة البيت، ودورة مياه في زاوية بعيدة منفصلة ، ومدخل بلا باب يصل بنا لى الناحية الأخرى حيث مجلس الرجال، والمطبخ في الزاوية الأخرى، لم أناقشه في هذا الموضوع، وعملت من نفسي على حل هذه المشكلة؛ فقد كانت في نفس المنطقة مجموعة من طالبات التأهيل التربوي من محافظة البريمي، يقمن في سكن خاص بهن، ذهبت واتفقت معهن أن انام معهن تلك الليلة من كل أسبوع، ورحبن بي، جزاهن الله خير الجزاء.
مضت الأيام بل الأشهر ثقيلة جدا لا أستطيع أن اطلب منه مد يد العون والمساعدة في شيء أبد، فبدأت أدرب نفسي على تلبية متطلباتي ومتطلبات المنزل، والدراسة، حتى ذات يوم كان الجو فيه ماطرا والرياح شديدة مع تساقط حبات البرد، في شهر رمضان المبارك، شعرت من أول هذا اليوم أني مريضة، ولا أشعر بالتوازن في خطواتي، وعدت من الجامعة وانا على ذلك ، تحاملت على نفسي وأعددت وجبة الإفطار وهو جالس في الغرفة يرى ما أنا عليه وكأنه لا يرى شيئا، وبعد وجبة الإفطار لم أستطع القيام وكأني في عالم آخر، ولكني أشعر بما يدور حولي، ولا أستطيع أن أطلب منه أن ينقلنا إلى العيادة القريبة من المنزل، فتصبرت وتصبرت، وجاء العشاء وخرج لصلاة التراويح في المسجد القريب، فقلت أنتظر مجيئه؛ حتى لا يقول: إني شغلته عن الصلاة,
عندما عاد كان المرض بلغ مني مبلغا عظيما فناديته طالبة من أن يوصلني إلى العيادة، ساعدني ومضينا، أخبرتني الطبيبة أن أرتاح في العيادة فترة من الزمن بعد أخذ العلاج هناك، مكثنا حتى بدأت أشعر بشيء من النشاط في بدني، فطلبت المغادرة بحجة أني بخير، كتبت لي الطبيبة دواء خاصا آخذه من الصيدلية، ذهبنا إلى الصيدلية، فاكتشفت أن المال الذي في حوزتي لا يكفي لصرف الدواء، فما أتعب نفسه في توفير الدواء وعدنا كما ذهبنا، فقلت أصبر حتى الصباح والله المستعان، فصبرت حتى الصباح، وتحايلت على نفسي للخروج حتى أصل إلى عيادة الطلبة في الجامعة، فكان ذلك وحصلت على الدواء من هناك، فأيقنت حينها ألا معين إلا الله،
وأن وجوده معي مشكلة عظيمة ليس إلا.
كما اتفق ذات يوم أن يصبح الصباح وإطار السيارة فارغ من الهواء، ويحتاج إلى استبدال، في البداية ترددت كثيرا أن أطلب منه ذلك، فحاولت رفع الإطار الاحتيطاطي من صندوق السيارة فشعرت بخطر على الجنين، فقد كنت حينها في الشهر الثامن، فلم يكن هناك بد من طلب المساعدة، فثار في وجهي بحجة أني مهملة، وانه سوف يتأخر عن محاضراته، فوقعت الواقعة، فقام وهو يزبد ويرعد وركب الإطار وانطلق مسرعا، وكأني طلبت منه أن يقتل شخصا ما.
ركبت السيارة وما كدت أمضي حتى بدأت أسمع صوتا في مقدمة السيارة، وبدا ذلك واضحا عندما استقمت على طريق الجامعة الذي كان حينها طريقا واحدا للقادمين والراجعين، فأسقط في يدي، فخفضت من السرعة إلى أقصى حدن و تركت إشارة الخطر تعمل، وكل خوفي أن ينفلت الإطار من السيارة فتكون الكارثة عظيمة مع زحمة الصباح، وكاد وقتها قلبي يقف من شدة الهلع، ولكني واصلت الطريق حتى وصلت غلى كلية الطب، فوقفت هناك، وأخرجت مفتاح شد البراغي، فمر بي ثلاثة من طلاب الجامعة، فساعدوني في ضبط براغي الإطار، فيبدو أن أبا عمر نسي ذلك واكتفى بيديه، ولكن رحمة الله قريب من المؤمنين، وعندما عدت لم أخبره بما حدث؛ لأني أعلم أنه سيقول لي: في المرات قادمة قومي أنت بذلك.
انتهت تلك السنة بما فيها من المرارة، وعدنا لنستقر من جديد في بيت أهله، ورزقنا بسوسن التي ولدت ولديها مشكلة ليونة القصبة الهوائية، فوقعت في معاناة أخرى.
خلال هذا العام تلقي زوجي هدية من ابنيه وهي عبارة عن زجاجة عطر (تولة من المسك الأبيض) بلا علبة؛ لأنهما قدما من العمرة، فأخذها وقال أضع منها عند صلاة الجمعة، فنهيته عن ذلك وقلت له هذه الهدية جاءت من مصدر مشبوه، ولا يمكن لك وضعها في الغرفة أو وضع شيء منها، وخاصة أنك لا تملك حاسة شم لضعف العصب الشمي، فأصر واتهمني بالعداوة لأبنائه، مع كونهما ما زالا طفلين أكبرهما في الحادية من العمر,
حملته مسؤولية تحمل تبعات ذلك العطر وبالفعل ما كاد يضع من مرتين أو ثلاثا، حتى أصيب بما يشبه مسا من الجنون، فانقلب رأسا على عقب، فلا يستق في المنزل، ولا يعود إلا قبيل الفجر ، وإن عاد لا يدخل الغرفة وينام في مجلس الرجال في بيت أهله في معظم الأوقات، وبدا ثائرا متوترا بسبب وبدون سبب، واشتدت عداوته لي ولعمر، فقلت له ذات يوم من شدة الغيظ دع عطر المسك ينفعك الآن،
كثر الجان في الغرفة واستحالت ملعبا للجن لا يقر لنا فيها قرار، ولكني لم أستسلم ذلك وبدأت مرحلة العلاج بالقرآن الكريم والرقية الشعرية وخاصة بعد ما رأيت من إعراض عمر عن المدرسة وتردي حالته الصحية، فكانت كل مراكز العلاج بالقرآن الكريم تخبرني بوجود سحر عظيم، وكلما تماثلنا للشفاء صنعوا لنا غيره، حتى ضاقت بنا الأرض بما رحبت، ومكثنا على ذلك سنين عدة في منزل أهله، وبعد عشر سنوات مكثناها عند أهله، انتقلنا إلى منزلنا الخاص على أمل التخلص من أسحارهم، وسكنا بجوار أهلي من أجل سوسن وعمر، مع معارضته الشديدة للسكن بجانبهم، ولكن قدر الله وما شاء فعل؛ لننتقل إلى مرحلة أخرى أعتى وأشد مما مضى.
للحديث البقية

زهرة السوسن
19-08-2017, 10:02 AM
انتقلنا إلى بيتنا الجديد على أمل أن نحظى بالهدوء والسكينة وراحة البال بعد الشدة والمعاناة، ولكن يبدو أن الهموم ومشقة العيش تسابق خطواتنا أينما نذهب وأينما نتوجه، والله المستعان على كل حال؛ فبمجرد الاستقرار في منزلنا مرض زوجي وبقي على ذلك شهرين، وخلال هذه الفترة رأيت في نومي رجلا قصير القامة يدخل إلى بيتنا ويدفن شيئا تحت أول شجرة بالقرب من الباب الخارجي للمنزل، فانتظرت حتى العصر، ثم حفرت في ذلك المكان فوجدت خيطا به مجموعة من العقد قمت بفكها مع قراءة المعوذات، فعرفت حينها أن قوى الشر لا تزال وراءنا ولن تتركنا ما دمنا نشكل أسرة واحدة وإن كان ذلك ظاهريا.
كلما مر بنا الوقت كانت الظروف تزداد سوءا، فما زال عمر يرفض المدرسة تماما، ولكني لم أتركه، ولم أستسلم يوما، والغريب في ذلك أنه في اليوم الذي تتيسر فيه الأمور ويذهب إلى المدرسة وإن كان ذلك جبرا كنا نشعر بوجود شخوص من حولنا تتبعنا وتترصدنا أمام المدرسة ولكني كنت أتجاهل وجودهم، وأشجع عمر على المضي قدما.
عاش المسكين معاناة شديدة وقاسية؛ فإن نام لا يستيقظ وإن استيقظ لا ينام، ولا يقرب الطعام إلا قليلا، حتى ذهب شحمه ولحمه، وكنا نرى من أمره عجبا في بعض الأيام والليالي؛ حيث إنه يتحول إلى كلب ينبح ويجري وراءنا في المنزل على يديه ورجليه وبسرعة عجيبة، فيعضنا ويثير الفوضى في المنزل، وإذا سألته عن السبب قال: لا أدري لماذا أفعل ذلك.
وكثيرا ما كان يسمع طرقا على جدار غرفته الخارجي عندما تأتي الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فكنت أذهب إلى غرفته في هذا الوقت، فأسمع ما يسمع، وقد استمر هذا الطرق فترة ثم اختفى، كما كنت أسمع كلاما وحوار في غرفته، فأظنه يتحدث في الهاتف، او يلعب لعبة، فأفتح الباب في هدوء فأجده نائما.
وفي يوم من الأيام مرض واقتضى ذلك عملية جراحية بسيطة، فكان الموعد بعيدا في مستشفى المحافظة فأخذته إلى محافظة وأخرى وكنا في رمضان وعندي سوسن صغيرة، فقرر الطبيب أن يحجز في المستشفى وأن تجرى له العملية، فأقمت معه، وفي كل مرة يتم تأجيل العملية لوجود حالات طارئة حتى ذات يوم اجتمع عليه مجموعة من الاطباء وقرروا ان الوضع لا يستدعي إجراء عملية، وكلما كبر كانت حالته أفضل، وتم إخلاء سبيلنا، وقبل العودة قلت أعالجه عن التبول في فراشه ليلا، وعرضته على الطبيب هناك، وأخبرني بضرورة أخذ أشعة على أسفل الظهر، فربما وجود فجوة هناك يكون سبب هذه الحالة.
ذهبت به إلى مكان الأشعة، وأعطاني الفني خمس حبات لتنظيف الامعاء قبل إجراء الأشعة، فاستنكرت ذلك وقلت له الأشعة لهذا الطفل(الصف الرابع) فهل أعطيه كل هذه الحبوب، فأكد لي ضرورة أخذها كلها دفعة واحدة بعد وجبة العشاء.
انصرفنا من المستشفى عند الظهر ووصلنا عصرا، بعد أن قررت إجراء الأشعة في المركز الصحي في ولايتنا، وأخذنا ورقة من الطبيب، وبعد تناول وجبة العشاء شرب الدواء، وبعد قليل بدأت الأعراض تظهر عليه، ولم ينم في تلك الليلة لشدة ما يعاني من آلام في بطنه ولكني كنت أقول له: تصبر، ومن الضروري أن تكون أمعاؤك خاوية، واشرق علينا الصباح وخرج والده إلى العمل، في المدرسة القريبة من البيت، وشرعت في الاستعداد للذهاب إلى المستشفى لإجراء الأشعة، وهنا سمعته يصرخ في دورة المياه، فأسرعت إليه فرأيت الدماء تسيل من فمه وتجري مع الإسهال أيضا، فطار صوابي وانطلقت إلى الهاتف لطلب المساعدة من الأب، فاجأني برده انه مشغول وعنده حصة، عندها جريت إلى بيت أهلي وجئت بزوجة اخي لتساعدني في أمره، نظفته وغيرت ملابسه، وحملته وزوجة اخي لنضعه في بطانية، وحملناه إلى السيارة، فأذنت لها بالإنصراف إلى بيتها وأولادها.
وصلت به المستشفى وحملته على كتفي إلى الطوارئ، فرآه الطبيب الحاذق فقال عودي به إلى عيادة الأطفال فحملته إلى المركز الصحي من جديد على كتفي وجلسنا ننتظر دوام طبيب الأطفال وحالته تزداد سوءا. حضر الطبيب ودخلنا وعندما رآه قال لي: هذه حالة تستدعي قسم الطوارئ حالا، حملته من جديد وعدت به إلى المستشفى في مقابل المركز الصحي، وأخبرت طبيب الطوارئ بما قال طبيب الأطفال، فبدأ الكشف عليه، فوجده قد وصل إلى حالة الجفاف، حتى إنه لم يجد له عرقا إلا بشق الأنفس حتى يعطيه المحلول الوريدي. ساعتها تلاشى العالم تماما من أمام عيني، وطار فؤادي من شدة الخوف عليه.
قرر الطبيب أن يلزم عمر المستشفى، فجلست معه، ومر الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولم يسأل أبوه عنه حتى بمكالمة هاتفية، وبعد صلاة التراويح حضر مع بقية الزوار، وما زاد على قوله: هل شفيت؟ وجلس مع هاتفه حتى غادر المستشفى مع بقية الناس. أقمنا أياما في المستشفى ومع هذا كنت أعود البيت ظهرا؛ لأعد طعام الإفطار له، لأنه يرفض أن يأخذ إفطاره من بيت أهلي، وأعود إلى ولدي بعد صلاة المغرب، بعد استقرار حالته.
للحديث بقية

زهرة السوسن
07-09-2017, 09:53 PM
بفضل من الله تعالى تجاوزنا أزمة مرض عمر، وعاد إلى البيت معافى، لنواصل مرحلة الصراع بيني وبين زوجي، وبين زوجي وأولاده، فخلال هذه السنوات الثلاث الأولى التي انتقلنا فيها إلى منزلنا المستقل لم يرفع زوجي عصاه عن عمر وسوسن، وزاد على ذلك أن عزل نفسه في مجلس الرجال، واتخذه غرفة خاصة له، لا يخرج منه إلا إذا سمع شجار أبنائه لينقض عليهم بعصاه الغليظة، ما لم يشد وثاقهم مبالغة في إلحاق الضرر بهم، وكم وقفت في وجهه دفاعا عنهم، فينتقل العراك بيني وبينه، مرت هذه السنوات قاسية ذات أنياب حادة قاطعة، ولكن مع المزيد من الصبر، استطعت الاحتفاظ بكيان الأسرة وإن كان ممزقا ومهشما.
بعد هذه السنوات الثلاث، عزمت على ضرورة فتح باب الحوار، شاء ذلك أم أبى، وفعلا بدأ يتحدث عن مأساته التي كان يعيشها في معزل عنا، وما يشعر به من اليأس والأسى وهو يرى نفسه على هذه الهيئة المزرية، وكأنما هناك شيء يتحكم في إرادته، فلا يجيد إلا الغضب والدخول في شجارات لا أساس لها، أشفقت عليه وطلبت منه أن يحاول جاهدا التغلب على ما هو عليه، وأن يبدأ بالخروج من عزلته المريرة وأن يندمج مع أفراد أسرته، وبدأ المشوار وانتقل من مكان عزلته ولكنه لم يشعر بالراحة أبدا، فكان يستيقظ بعد منتصف الليل ويعود من حيث جاء ينتظر الصلاة ثم يكمل إقامته هناك، ولكن حالته كانت أفضل عن ذي قبل، وبعد شهرين عاد من جديد وانتقل إلى مقر عزلته، وبدأت المناوشات والنفور من الجميع، وكان أشد ما يؤلمني حينها قسوته على سوسن وعمر دون أسباب، أما عن نفسي فكنت ألوذ بالصمت إذا بادر بتكوين خلايا عداوات، وأتركه يفعل ما يشاء، فكم من مرة كانت دموعي تخالط لقمة طعامي، فلا أترك السفرة حتى لا يزداد غضبا فيدع طعامه، لم يكن هو هو وإنما كان شخصا آخر، حتى ذات يوم اشتبك مع ابنه وابنته؛ لأنهما يتشاجران ويزعجانه، فحاولت الدفاع عنهما، فما كان منه إلا أن هددني بأني لو تقدمت خطوة واحدة لضربني معهما، فأقسمت بالله أيمانا مغلظة لو مد يده وضربني وأولادي ما مكثت لحظة واحدة في المنزل، وعندها حملني مسؤولية فساد أبنائه، واتهمني بأني لا أحسن التربية، مع العلم أني كنت أقسو عليهما كثيرا؛ تأثرا بحالة القلق والتوتر التي كنت أعيشها معه، وقال: من اليوم وصاعدا لا شأن لي بهما، وتولي أمرهما بمفردك، وفعلا رفع يده عنهما ولله الحمد، لدرجة أنه لا يسأل عنهما ولا عن أحوالهما، لا في صحة ولا في مرض، وعاش العزلة من جديد لثلاث سنوات أخر، يخرج ويدخل علينا لا يعنيه أمر أي منا، ويسافر كثيرا مع أصدقائه دون علم بوجهته إلا إذا استرقنا السمع لنعرف وجهة سفره، نرى حقائب السفر فقط، وعندما يعود نجده في المنزل، ولكن كان ذلك أفضل للجميع عما قبل من بطش وقسوة. ولكن مع كثرة سهره مع أصدقائه ، وتأخره ليلا زاد من حدة القلق لدي فلم يكن يغمض لي جفن حتى أسمع الباب يفتح، أو أخرج من غرفتي لأنظر إلى نعليه؛ لأطمئن على عودته سالما، واستمر بنا الحال على ذلك سنوات ، لا يسمح لأحد منا بالدخول إلى مقر عزلته، وإذا حاولت التقرب منه طردني وأولادي، أو يخرج ويدعني بمفردي هناك، وإن قصده أبناؤه في حاجة، أمرهم أن يغلقوا الباب ويعودوا من حيث أتوا، فازدادت الشقة بيننا وزاد أبنائي في لومي على أني لم أحسن اختيار الأب المناسب لهم، فكنت أنهاهم عن ذلك وأوصيهم بأبيهم خيرا، حية أو ميتة، وأن ما بيني وبينه لا يعدو كونه كيد ساحر، وأصرح لهم بحبي له وخوفي عليه وشفقتي به، وأن الأمل في الله هو العلاج الوحيد لما نحن فيه. ولا أخفيكم اني طلبت منه أن يتزوج بأخرى مرارا وتكرارا لعله يجد الراحة في حياته، فكان يعرض عني ويلوذ بالصمت حتى آخر مرة عرضت عليه فيها هذا الأمر ثار في وجهي، قائلا: أنا أعرف لماذا تطلبين مني ذلك؟ حتى تتخلصي مني، ولكن اسمعي ما سأقوله لك: إن رأيت أني غير مرغوب في أخبريني بذلك وأقسم لك أنك لن تري وجهي، وسوف أغادر هذا المنزل، كان رده أكبر مفاجأة في حياتي، فلم أحر جوابا بعد ذلك، ولكني شعرت بأنه يحبني ولكن يمنعه مانع من الاقتراب مني، فازداد حبي له وتعلقي به.

للحديث بقية

زهرة السوسن
08-09-2017, 02:16 PM
طبعا خلال هذه السنوات كان العلاج بالقرآن مستمرا، ولكني كنت بمفردي أتجشم المشاق من أجله ومن أجل أبنائي، طلبت العلاج في بلادنا وفي خارجها، وفي كل مرة كنا نعود من حيث بدأنا، وكنا نعالج أنفسنا ذاتيا، حتى استنزفت هذه السنوات قوتي البدنية والنفسية والعصبية، والاقتصادية، ولكني كنت أتصبر بالله تعالى، وأن الفرج قريب، فما رأيته في حياتي من زوجي وأبنائي يعجز القلم عن وصفه؛ لدرجة أني بدأت أكره أبنائي وأصبحت أعاملهم بالعنف والشدة وهم كذلك بطبيعة الحال، فلم يكن يمر علي يوم لا أبكي فيه مرة أو مرتين أو ثلاثا، تغير وجهي وذهبت نضارته وكرهت النظر إليه، فكنت أخشى من مطالعة وجهي في المرآة، ونسيت نفسي تماما، بين كل هذه الصراعات العنيفة، ولكني أحمد الله تعالى على أني لم أشعر بالكراهية تجاه زوجي، ولم يكن همي كيف أتخلص منه، ولكن كان كل همي كان كيف أخلصه مما هو فيه؛ لذلك احتفظت بما يجري في بيتي في قلبي، وما ذكرت شيئا من ذلك أمام أهلي أو أهله، وكنت أعزي نفسي أني أجلس معه بمحض إرادتي، وأني أستطيع المغادرة في أي ساعة أشاء، ولكني فضلت مواجهة الأمر على الهروب، وترك زوجي في دوامة لا أول لها من آخر، فكنت أكثر الناس فهما لطباعه، فهو رجل شديد الاعتداد بنفسه، وحساس بمعنى الكلمة، ولا ينكسر أبدا، ولا يقبل الهزيمة.
كانت حياتي عبارة عن مجموعة من القصص المأساوية المتشابكة التي يصعب فك رموزها وإشاراتها ذات أحداث درامية متصاعدة، ولكنها ذات نهايات مغلقة، ومن أهم هذه الحكايات في هذه المرحلة التي عايشتها في بيتنا الجديد والتي بلغ عدد سنواتها عشر سنوات هذا العام، أن قدر الله لي أن أحمل بطفل ليس له قحف رأس، وعندما أخبرته بذلك حملني المسؤولية وكأني موكلة بالخلق، متناسيا قدر الله وقضائه في خلقه، فأعرض عني في الوقت الذي كنت فيه بحاجة ماسة لوقوفه معي، فقد عانيت كثيرا خلال فترة الحمل هذه وأصبت بسكر الحمل، وزيادة كمية الماء حول الجنين، لدرجة أني كنت أجد صعوبة في الحركة والمشي، وقد طلبت مني الطبيبة أن أسقط الجنين عندما كان في الشهر السادس، فرفضت ذلك وقلت: يستوفي رزقه وأجله.
مرت شهور الحمل كأصعب ما تكون ولا معين إلا الله سبحانه وتعالى.
عندما ولد الطفل كان الامر كما قيل تماما، ومكث بعد ولادته ثلاث ساعات ثم فارق الحياة بعد معاناة شديدة في حمله وولادته. وضع الطفل في ثلاجة الأموات حتى الصباح، وغادر زوجي قبل خروجي من غرفة الولادة على أن يعود في الصباح لتسلم الطفل، وفعلا جاء صباحا وما كلف نفسه أن يقول الحمد لله على السلامة، وأحسن الله عزاءك، بل قال علينا مغادرة المستشفى لدفن الطفل، فما وجدت من الكلمات ما يسعني أن أعبر به عما يجيش في خاطري، خرجنا من المستشفى وكنا أنا وهو فقط، وقد انصرفت زوجة أخي بعد ولادة الطفل ووفاته، فطلبت منها المغادرة لبيتها وأبنائها.
عندما ركبت في السيارة سارع بإحضار الطفل من على المقعد الأمامي ووضعه في أحضاني دون أن ينبس ببنت شفة وكنت كذلك فقد كان الصمت أبلغ من أي كلام هنا، وعندما وصلنا البلدة سألني عن المرأة التي تقوم بتجهيز الأموات فقلت له في الجهة المقابلة، فسار بي حتى وصلنا إلى بيت الخالة شيخة في موقف قاصم للظهر، مفتت للأكباد نزل وقرع جرس المنزل فخرجت ثم دخلت وأحضرت متطلبات تجهيز الميت على مرأى ومسمع مني، وعندما فتحت الباب لتركب فوجئت بالطفل في أحضاني فجزعت من هذا الموقف فقالت مستنكرة لا يجب أن تحملي الطفل فمهما يكن فأنت أم يا ابنتي، وأخذت الطفل مني ووضعته في حجرها، ومضينا إلى المنزل ولحق بنا ابنها بعد ذلك لاستكمال مراسم الغسل والدفن، مكثت بعد ذلك أياما أحاول استيعاب ما حدث فكانت دموعي تنسكب حارة تصهر الفؤاد، فقد كنت أبكي من أجل كل الأشياء التي كانت عبارة عن خناجر تمزق وجداني، ولم يكتف بذلك فبينما كنت أحاول لملمة جراحي النازفة وما زلت على فراش المرض والوهن والضعف كان ينقض على عمر ليضربه ضربا مبرحا لسبب تافه وهو رفض وضع كيس البطاطس الفارغ في سلة المهملات، فما تدخلت حتى جاء عمر مستجيرا بي، فقلت له اترك المسكين في حاله فجسده لا يتحمل كل هذا الضرب، فبدأ يوجه لي الاتهامات بأني أشجع أبنائي على العصيان، فقلت له لو طلبت منه بالرفق واللين كان قد استجاب في التو واللحظة ولكن أنى لزوجي ذلك. حينها تجاوز معي في الكلمات قائلا يعلم الله أني لا أحب دخول هذا البيت وأراه مظلما بسبب وجودك فيه، وقعت هذه الكلمات على مسامعي وقوع الرعد القاصف، فما تمالكت نفسي إلا أن قمت من فراشي وتوجهت إلى سيارتي متحاملة على نفسي وعمر يجري ورائي باكيا، ركبت سيارتي وكدت أدهس ولدي الذي أصر أن يرافقني فأشفقت عليه وركب، فكان يبكي لبكائي، فما شعرت بنفسي إلا وأنا أجوب الشوارع وألف وأدور تطاردني كلماته أينما توجهت بقيت على ذلك حتى قبيل المغرب، وعدت مع ولدي، ولكني لم أستطع التوقف عن البكاء، وأغلقت باب غرفتي، ومكثت هناك لا أحب رؤية أحد، وقررت ترك المنزل والمغادرة دونما رجعة، وعزمت على تدبير منزل بالإيجار وعقدت العزم على ذلك وقلت أنتظر خروجه من المنزل ثم آخذ حاجيات وأنصرف.
وعندما أشرق علي اليوم التالي كنت على ما أنا عليه من البكاء والحزن والمرض، ولكني في آخر دقيقة بدأت الأفكار تتوارد إلى ذهني بأني سأكون محور أحاديث الناس في مجالسهم وسوف يشمت بي أعدائي، وأن أمي لن تتحمل صدمة كهذه، ولا أريد إلحاق الأذى بها، وخاصة بعد إقبالها عليه وارتياحها له مؤخرا.
ثم فكرت في مصيره هو أين سيذهب حتما لن يمكث دقيقة واحدة في المنزل، ولا أضمن ردة فعله، فعدت عن قراري فجأة، وعند الظهر وفي نفس الوقت الذي حدث فيه ما حدث مر في طريقه إلى المطبخ فناديته، فأقبل فطلبت منه الجلوس، ثم سألته عما قال وبناء علي مسوغات نطق بذلك، وهو يعلم تمام العلم أني ما آذيته في حياتي ولا سعيت إلى ذلك أبدا، فقال متعجبا وهل أنا قلت هذا الكلام؟ فأكدت له ذلك، فقال يعلم الله أني ما شعرت بأني قلت مثل ذلك، وإن كنت قلته فأنا أعتذر. شعرت بأنه لم يقل ذلك بإرادته، فحمدت الله أني لم أتسرع في اتخاذ القرار.
انتهت كغيرها من القصص المؤلمة ولكن أحداثها ما زالت في الذاكرة.

للحديث بقية

زهرة السوسن
09-09-2017, 10:19 AM
انقضت ست سنوات عجاف رافقتنا منذ بدأنا انتقالنا إلى بيتنا المستقل، عشنا فيها الخوف والضيق وتجرعنا فيها الهم كؤوسا مترعة، تحول بيتنا إلى ملاعب للجان والشياطين، وميدانا لحرب لا هوادة لها، عشنا الغربة كأسرة، والاغتراب الفكري والروحي، وكنت خلالها أقاتل في جبهتين؛ حيث زوجي في عالمه الشرس، وحيث أبنائي الذين يعانون الأمرين؛ فهم في حالة توتر وشجار مستمر مع بعضهم البعض ومعي، وكأنهم مسلطون علي؛ مبالغة في كسر عزمي وحرق همتي، ولكني كنت أناضل في قوة وشجاعة؛ من أجل أن يكونوا صالحين من أجل أن يشفوا من أمراضهم وأعلالهم وإعراضهم عن مدارسهم؛ فثلاثتهم كانت المدرسة عقبة كؤودا في طريقهم، بدءا بعمر الذي رأيت العجب العجاب من أحواله إذا جاء وقت المدرسة، أو شئنا المذاكرة، وأستطيع أن أقول: شرب ولدي المر فعلا في حياته منذ نعومة أظافره، غيرت له المدارس بين الخاصة والحكومية وجريت خلفه بالشدة واللين، أحكمت عليه قبضتي في أوقات الصلوات والعبادات وكانت البداية أصعب من الصعوبة نفسها ولكننا صبرنا، حتى وصلنا الحادي عشر؛ مما تطلب أن ينتقل من المدرسة الخاصة إلى مدرسة الذكور في القرية، فسقط مريضا وظهرت عليه أعراض المس الذي يكاد يودي بحياته، وهنا وللمرة الاولى يهتم أبوه لأمره ويصدق أن الامر ليس دلعا ودلالا كما يدعي هو تعسفا، فبدأ يعالجه بجانب العلاج الذي كان يواضب عليه عن طريقي، فساعدته على اختيار المواد وأحضرت له كتب البحتة والتطبيقية، فنظر وتفكر وتخير، فاختار البحتة، فحملته تبعات اختياره، وأن عليه أن ينسلخ من جلد حياته السابقة ويبدأ من جديد، وفعلا مع وقوف والده معه انطلق إلى الأمام، وخاصة أنه كان في نفس المدرسة التي كان يعمل فيها أبوه، وكنت من ورائه مع استمرار العلاج بالقرآن الكريم، ولله الحمد كانت حاله أفضل من ذي قبل، وقد نجح في الصف الحادي عشر، وصار في الصف الثاني عشر العام المنصرم2016-2017م، فكانت المفاجأة؛ حيث عاد إلى النقطة الأولى لا يخرج من غرفته ولا يستطيع التوجه إلى المدرسة، وغلب عليه الوسواس من جديد، فأسقط في يدي، ولكني لم أيأس من روح الله تعالى، أما أبوه قرر أن لا فائدة من ورائه، وأنه لن يرى الخير في حياته شئت هذا أم أبيت، وأعلن التخلي عنه تماما، بحجة أنه لا يستجيب لنصائحه، جلست مع ولدي وقلت له: لا تبتئس تعودنا أن أكون أنا وأنت فقط ومعنا ربنا المطلع على عباده ، وسوف نمضي، وانتقل عمر من مدرسة أبيه إلى مدرسة الولاية وبدأنا المشوار بين فر وكر، وكنت أتابعه أولا بأول في مدرسته، مع شدة ضغط أبيه علي، فقد كان يعترض على ذهابي إلى المدرسة ويدعو عليه بأن يفصل أو يحرم من الاختبار، ولكني لم أسمع لقوله وكنت أزور المدرسة بشكل متواصل على أمل أن يعينوني في أمره، فانقضى الفصل الأول، ونام الجميع عن اختبار اللغة الإنجليزية كضربة قاصمة للظهر، فبكيت يومها بكاء حارا، رأفة بحال ولدي ، ولكن قدر الله وما شاء فعل، وجاء الفصل الثاني، فكانت الظروف أعتى وقرر عدم المواصلة أنه سوف يبحث عن عمل ولكني كنت أصم آذاني عما يقول، وحينها جلس في البيت مريضا أسبوعين ودخلنا على الأسبوع الثالث، حتى ذات صباح جاءني بقراره النهائي والحاسم؛ ألا وهو لن يكمل الصف الثاني عشر فثرت في وجهه واشتبكنا بالكلام، وقلت له والله لا أرضى عنك أبدا أن تضيع كل تلك السنوات وما لقينا فيها مما يعجز عنه الوصف، حتى تحول القريب إلى عدو، حتى انهار وبدأت دموعه تسيل على خده، فما هو فيه أقوى من كل الكلمات، فقام من فوره ولبس ملابسه وحمل كتبه ومر من أمامي، فقلت له استعن بالله، وانطلق وسوف ألحق بك إلى المدرسة، ، ركب سيارة أجرة وعاد إلى مدرسته، لحقت به بعد ذلك وطلبت من الجميع هناك أن يقفوا معي وأن يغضوا الطرف عنه، فوافقوا بشرط أن يسلم كل ما يطلب منه من واجبات، وأن ينجز كل الأعمال، فتعهدت لهم بذلك، ومر الفصل الثاني بما فيه من الخير والشر، وانقضى، وبقي ملحق اللغة الإنجليزية، وامتحن قبل العيد ولله الحمد والمنة وما زلنا ننتظر النتيجة، وأملنا في الله كبير، وما خاب من توكل عليه، فأحواله تحسنت وبدأ يعتدل في صلاته، وطعامه، ومجمل حياته، فتغير من هيكل عظمي إلى كيان آخر. فشعرت بالراحة من أجله وبقيت سوسن وحليمة، أما سوسن فأمرها كان أهون من أمر عمر وحليمة، على الرغم من شدة وحدة ما مرت به من العناء والمشقة ولكني لم أتركها لنفسها كفريسة لقوى الشر العنيدة التي كانت تقاتلني في زوجي وأولادي ونفسي، وصارت سوسن في هذا العام في الصف العاشر، وحليمة في الخامس ولكنها ما تعلمت شيئا في مرحلة الأول إلى الرابع؛ لأنها لم تستقطع دخول المدرسة مع وجود الرغبة في ذلك، فكانت تتأذى كثيرا، وغيرت لها سبع مدارس كنت أحملها بنفسي ولكن ما من نتيجة، وما زلنا هذا العام على نفس الموال؛ فإذا وصلت المدرسة صارت في حالة أخرى، فكأنما هنالك شيء يمسك بحنجرتها فلا تملك إلا البكاء والقيء، وخاصة لو كانت بصحبتي،ولكن بعون الله تعالى وتوفيقه لن أتركها أبدا ولن أستسلم، مع العلم أن أباها يساعدها ويحثها ويحملها هو بنفسه وهو في طريقه إلى مدرسته ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وبدأ يوسف سنة التجهيزي مع بداية غير موفقة ولكنه الآن بدأ يهدأ شيئا فشيئا ويستقر مع أقرانه.
للحديث بقية

زهرة السوسن
13-09-2017, 11:54 AM
وتمر السنون، ويتجدد الأمل في الله تعالى، وتنقضي عشر سنوات من أعمارنا في بيتنا المستقل بعد عشر قضيناها في منزل أهله، ست سنوات خطت لنفسها في الذاكرة وجودا لا ينسى أبدا مهما تعاقبت الفصول، إضافة إلى سنوات الهموم والأشجان التي تجرعنا كأسها في بيت أهله، لتشرق علينا شمس حياة جديدة فريدة، نعمنا بضيائها خلال السنوات الأربع الأخيرة، بعد أن كانت حلما يراود مخيلتي؛ فقد بدأ زوجي يشعر بوجودنا من حوله، وبدأ يتلمس احتياجات أولاده، واحتياجات المنزل، وبدأ يسألني عن النواقص ليستوفيها، وبدأ يقبل على أولاده ويقربهم منه، وينظم لهم أوقاتا للتنزه، والخروج في سفرات، عن طيب نفس منه، وكان يرسلهم إلي ليخبروني بما اتفقوا عليه، ولكن تبقت نقطة واحدة لم أفهمها بعد، ألا وهي تبرمه وضيقه عندما أرافقهم، فيظل طوال الطريق يتعمد انتقادي، وإحداث مشاجرات لا مسوغ لها، وإن عزمت عدم مرافقتهم، قال لهم إذن تلغى الرحلة، ولن يذهب أحد إلى أي مكان، فأضطر إلى الاستسلام لإرادة الجميع متحملة النتائج الوخيمة، تألمت لهذا الامر كثيرا، وعرفت أن مشكلته معي ما زالت معقدة، ولكن صبرت على ذلك، وأدمت الصمت، حتى هذا العام فوجئت به يعرض علي أمر الخروج مع الأسرة دون وساطة؛ مما أثار عجبي وتعجبي، وكأني أما شخص آخر، وأعد العدة بنفس راضية، وكان يرجع كل الأمور إلي ويستحسن رأيي وما أقترحه عليه، على العكس تماما عما مضى، كذلك سمعت اسمي يتردد في المنزل، وإذا دخل سأل عني إذا لم يجدني أمامه، تبدلت الأحوال بعد تسعة عشر عاما أكلت الأخضر واليابس من حياتي، تأسيت فيها بالخروج إلى العمل والجد والاجتهاد، والإخلاص الذي خفف عني من مشقة العناء والهموم والأحزان، فكانت محبة الناس كنزا عظيما لا يضاهيه كنز المال، فأكملت في عملي عشرين عاما، ثم تقاعدت عن العمل، ولكن قلبي ما زال يحن إلى التربية من وقت إلى آخر فأجدني بين أخواتي وصديقاتي وبناتي الطالبات؛ لأشعر بروح الحياة تنبض بين أوصالي بشكل متجدد. ما بين طرفة عين وارتدادتها يغير الله من حال إلى حال.
ويمضي بنا هذا العام كأجمل ما يكون؛ حتى خشيت عليه من دنو الأجل، ومن بين المفاجآت هذا العام أن طلب مني أن أذهب إلى العمرة في رمضان، وكان يحسن الحديث معي، وينظر إلى وجهي كأنه يراني للمرة الأولى، وعلى غير العادة انطلقنا كأسرة متآلفة للمرة الأولى إلى صلالة، وكان معي في منتهى اللطف والذوق، يحرص علي كل الحرص، ويبدي خوفه علي بطريقة ما مرت علي في حياتي، يجلس معي ويجاذبني أطراف الحديث بأريحية شديدة، على العكس تماما عندما كان يتجنب الجلوس معي إذا خرجنا معا. شعرت كأني في حلم لا حقيقة، وكان أبنائي في غاية السعادة وهم يرونه يحسن معاملتي بهذه الطريقة، قضينا أوقاتا رائعة في هذه الرحلة، وشعر الجميع بالراحة والهدوء والسكينة.
وعندما عدنا إلى منزلنا كان خير معين، وعندما قرر السفر مع رفاقه بعد أيام من عودتنا جاء إلي وأخبرني بكل تفاصيل الرحلة ومن سيرافقه من أصحابه، مع شدة تعجبي مما يحدث من حولي، وعند سفره أوصاني خيرا بنفسي وأولادي وبيتي، وطلب مني التواصل معه دائما أثناء سفره ليطمئن على أحوالنا. وعند عودته خصني ببعض الهدايا الجميلة، وكأنه استيقظ من كابوس مزعج جثم على صدره سنوات. طبعا لا أستطيع أن أصف السعادة التي كانت تغمرني وأولادي، فحمدت الله وشكرت فضله وجوده وعظيم نعمته علي، وهنا أستطيع أن أقول لا يأس من رحمة الله تعالى وإن اشتدت ريح الأسى والأحزان، وعصفت فالله تعالى ليس بغافل عن عباده.
أشكر كل من عاش لحظات حياتي مع هذه الحروف، وكل من تفاعل، وكل من رأى فيها عظة وعبرة، وإن كانت هذه مجرد مقتطفات بسيطة، أرجو ألا أكون قد أزعجتكم أيها الإخوة والأخوات، ودمتم في خير حال.
وكن رجلا على الأهوال جلدا
..............وشمتك السماحة والسخاء
ولا تجزع لحادثة الليالي
.................. فما لحوادث الدنيا بقاء