المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صاحب الحمار الثاني


عبد الرحمان رشيد التواتي
22-04-2010, 12:48 AM
عبد الرحمان رشيد التواتي
صاحب الحمار الثاني
تأهّبتُ للسّفر في بلاد الله طلبا للحركة ، و عزوفا عن الوقوف . لم تكن لديّ أموال فأودعَها و لا عيال فأوصيَ بهم . كنت خفيف الحمل نظيفا من وسخ الدّار الفانيّة إلاّ من حمار أركبه و زق تمر زادا ، و ركوة ماء ، و برنس صوف للصيف و الشتاء . أمّا البيت الذي أسكنه فهبة من أهل قرية نزلت بها ذات غروب منذ ما يربو على العَقد من الزّمن ، قالوا : " هذا غريب و المنزل لا يشغله أحد ، خربة يخرأ فيها الأطفال ، و يجلدون عُميرة جماعة بعيدا عن أعين أهلهم ، فليُقِمْ فيه . مَنْ يدري لعلّ الرّجل من الصّالحين ، فينفعَنا ."
جاءني كبيرهم فقال لي : " أنت منذ اليوم ضيف علينا ، و هذا البيت لك ما دمت فينا ، و ليس عليك من وزر ، فهو هبة و ليست إيجارا " قبلت و ما كدت . فقد خفت أن يشدّني البيت إليه فأموتَ معهم ، أو أصبحَ من أديم الأرض . اتّخذته للنوم ، آوي إليه ليلا ، و أتركه فجرا ، حتّى ظنّوا بي الظنون ، و قال كبيرهم " لعلّه كرهنا أو عزف عنه " . ازددت عندهم غرابة و ألبسوني عباءة الصّالحين . كنت أدعهم ملتصقين بالتراب و أخرج إلى خلاء لا يعرفونه ، فأقضي سحابة يومي فيه أعلّم حماري القراءة و الكتابة و الحساب ، و عندما أعود معه ليلا أراجع معه درس النّهار فأجده قد وعاه .
منذ وقعت عيني عليه في سوق الدّواب توسّمت فيه النّباهة فدفعت كلّ ما أملك ثمنا لصاحبه ، و لم أجد لذلك حسرة أو ندما. لم يجرؤوا على قصّ أثري خوفا من نقمة الأولياء . كانوا يسيرون أو بعضهم ورائي فراسخ ثمّ يرتدّون مرتعدين مؤمنين . جمعت من الزاد ما يقدر على حمله الحمار وإياي . الطريق طويلة و الغاية بعيدة . و لا علم لي بما وراء البصر من مفاجآت . اتفقت مع الحمار على خارطة الطريق : سفر بالليل و كِنّ بالنهار ، اقتصاد في الجهد و الزّاد . لا طعام و لا شراب إلاّ لجوع أو عطش بعدهما موت محقّق . تَرْكُ الأتُن و النساء إلى ما وراء إدراك القصد . أن نسير حتّى تنقطع الطّريق أو يكون لنا مستقرّ لا مسير بعده .
أشرفنا ذات فجر على مدينة لم نر مثلها . قلنا : " نمكث حتّى ينقضي النهار ، وندخلها أوّل الليل عملا بالاتفاق " .
أشار عليّ الحمار باللجوء إلى كهف في أعلى التلّة . وجدنا فيه متسعا للنّوم فنام كلانا من تعب السّرى ما لا نعرف من الوقت ، ثمّ أيقظنا صوت امرأة و شحيج أتان . نظرنا فإذا باب الكهف يغصّ بالنساء و الأتن . قال حماري : " نحن في ورطة . " لم أعِ القصد . فبدا عليّ السؤال . قال " ألا ترى أن ليس بينهنّ ذكر واحد " . قلت : " أنت على حقّ ، و لكن ما الضير ؟ " . قال : " قد أفسدن علينا خطّتنا ! ؟ "
رمنا مخرجا لكنّ باب الكهف كان أضيق من خروجنا و تدافعِ الإناث . فكّرنا في الزحف فخفنا الأقدام و الحوافر . قلنا : نركب ظهورهنّ ونسير كالسابِحَيْن . لكنّنا قدّرنا ما وراء ذلك من مزالق ، فأعادنا العزمُ إلى العجزِ . أشار الحمار فاقتربت حتى ألصقت بفيه أذني . قال نسدّ علينا الكهف و نمكث هنا ، و لا نستجيب لندائهنّ ، حتّى يبدو لنا نور في العتمة أو نرى مخرجا . وافقت لعلمي به حكيما .
طفقنا نأخذ من الصخور أعتاها و نرفع بعضها فوق بعض . كنّ يحاولن عرقلة بنائنا . لذنا بالحصى نقذفهن به فيبتعدن قليلا ثمّ يرتددن في إصرار أشدّ . و بين الفرّة و الكرّة نضع صخرة ، حتّى اكتمل البناء ففصل بيننا و بينهنّ . سمعنا أصواتهن تأتينا باكية حينا متوعّدة أحيانا ، أحسسنا بنشوة انتصار ، لكنّ العتمة أفسدتها علينا ، فعدنا لتدبّر الأمر من جديد . قال لي الحمار : " لا بدّ أن نجهد قبل طلوع الفجر " قلت : " هل بدا لك ضوء في آخر النفق ؟ " انتفض الحمار كالواجد كنزا و قال : " آمنت بك نبيّا ، لولا أنّه ينقصك بعثة و كتاب. " لم أتبيّن سرّ حماسته ، فسألت . قال موضّحا : " النّفق هو الحلّ ، نحفر نفقا يبعدنا عن هذا المكان ، و قد نخرج في أرض أخرى يكون فتحها علينا أيسر " .
لم أصدّقه هذه المرّة . أدركت أنّ وراء كلّ حمار فاشل أتانا .

جاسم القرطوبي
22-04-2010, 12:55 AM
قصة قصيرة رائعة سردا وسبكا زاغة تقبل مروري

فاطــ (محمد) ــمة عبدالله
22-04-2010, 01:08 AM
فعدنا لتدبّر الأمر من جديد . قال لي الحمار : " لا بدّ أن نجهد قبل طلوع الفجر " قلت :
" هل بدا لك ضوء في آخر النفق ؟ " انتفض الحمار كالواجد كنزا و قال :
" آمنت بك نبيّا ، لولا أنّه ينقصك بعثة و كتاب. " لم أتبيّن سرّ حماسته ، فسألت . قال موضّحا :
" النّفق هو الحلّ ، نحفر نفقا يبعدنا عن هذا المكان ، و قد نخرج في أرض أخرى يكون فتحها علينا أيسر " .
لم أصدّقه هذه المرّة .


أدركت أنّ وراء كلّ حمار فاشل أتانا .


قويه جدآ جدآ ...:)




ولكنها رائعه يا عبد الرحمن ...صدقت في هذه المقولة ...فعلاً قصه رائعه وهادفه ...

تميز كاتبها ...بأسلوب جميل وراقي ...بارك الله فيك وللمزيد من هذا الجمال ..

عبد الرحمان رشيد التواتي
22-04-2010, 01:51 AM
قصة قصيرة رائعة سردا وسبكا زاغة تقبل مروري
تحياتي أخي جاسم و شكرا على مرورك ، و كلماتك المشجعة .
مع ودّي و تقديري .
حاولت فتح الرابط للاستماع إلى قصيدتيك و لم أفلح . سأحول مرّة أخرى .

عبد الرحمان رشيد التواتي
22-04-2010, 01:57 AM
فعدنا لتدبّر الأمر من جديد . قال لي الحمار : " لا بدّ أن نجهد قبل طلوع الفجر " قلت :
" هل بدا لك ضوء في آخر النفق ؟ " انتفض الحمار كالواجد كنزا و قال :
" آمنت بك نبيّا ، لولا أنّه ينقصك بعثة و كتاب. " لم أتبيّن سرّ حماسته ، فسألت . قال موضّحا :
" النّفق هو الحلّ ، نحفر نفقا يبعدنا عن هذا المكان ، و قد نخرج في أرض أخرى يكون فتحها علينا أيسر " .
لم أصدّقه هذه المرّة .


أدركت أنّ وراء كلّ حمار فاشل أتانا .


قو[color="red"]يه جدآ جدآ[/
color] ...:)




ولكنها رائعه يا عبد الرحمن ...صدقت في هذه المقولة ...فعلاً قصه رائعه وهادفه ...

تميز كاتبها ...بأسلوب جميل وراقي ...بارك الله فيك وللمزيد من هذا الجمال ..




مساء الخير أخت فاطمة ، أشكرك على هذا الحضور و على هذه القراءة الواعية . و أرجو أن تنال نصوصي اهتمامك و إعجابك دائما .
تحياتي و مودّتي .

سالم الوشاحي
25-04-2010, 07:34 PM
تشكر أخي عبدالحمن

قصه رائعه أحسنت أخي

بوركت بهذا التميز وإلى الأمام

((أبوسامي))

عبد الرحمان رشيد التواتي
25-04-2010, 07:58 PM
تشكر أخي عبدالحمن

قصه رائعه أحسنت أخي

بوركت بهذا التميز وإلى الأمام

((أبوسامي))
أخي أبو سامي حياك الله
أشكرك على قراءة النص و التنويه به ، و أرجو أن تكون مساهماتي في مستوى انتظاراتكم دائما .
تحياتي .

نبيلة مهدي
14-06-2010, 03:31 AM
ما شاء الله قصة جميلة..
يا أخي عبد الرحمن إعجبتني كثيرا..
سلمت يمناك.. ودمت بخير

عبد الرحمان رشيد التواتي
16-06-2010, 12:47 AM
ما شاء الله قصة جميلة..
يا أخي عبد الرحمن إعجبتني كثيرا..
سلمت يمناك.. ودمت بخير
أختي الفاضلة نبيلة
أسعدني رأيك كثيرا ، و أنا شاكر لك المرور و التعليق ، و أرجو أن أكون دائما موفقا لنيل رضى الإخوة في هذا المنتدى الجميل .
مودّتي و احترامي .