المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طارٍقُ الليْل


أبو شامة المغربي
10-07-2010, 01:49 AM
طارٍقُ الليْل
... فما إن فتح لهم الباب حتى وثبوا عليه وثبة ذئب واحدٍ ممسكين به وبثوب نومه، ثم قيد أحدهم يديه، وعصب الثاني عينيه، وأقفل الثالث باب بيته بهدوء تام، وأسرعوا به في جنح الظلام يقتادونه صامتين إلى حيث يدرون ولا يدري...
لم يجيبوه عندما سألهم عما يريدون منه؟ وعما يفعلونه به في تلك الساعة المتأخرة من الليل؟ ولم يستجيبوا له عندما طلب منهم مستعطفا توديع زوجه وأبنائه، ولم يسمحوا له حتى بوضع لباس النوم وارتداء ثيابه...
وعلى بعد خطوات معدودات من بيته زجوا به في سيارة، فجلس أحدهم على يساره، وجلس الثاني على يمينه، وانطلقت السيارة بسرعة وقد تولى الثالث قيادتها، وصوت محركها يخترق محطما سكون الليل، وكأنهم يحملون بريداً خاصاً مستعجلاً ...
كانت المسافة طويلة من المنبع إلى المصب، وكانت كافية ليرتوي بينه وبين نفسه من ظمأ الإستفهام والإستغراب، بقدر ما كانت كافية ليشتد عطش الصدمة والنازلة عليه، ثم إنها كانت وافية ليتورم لسانه وينعقد في حلقه الجاف، ولينيخ الصمم إلا من صفير حاد في أذنيه...
فما هي إلا لحظة بعد توقف السيارة حتى صار على لسان مستقبليه مجردا من اسمه ومن كل مقال ومقام، وأصبح في معجمهم رقما من الأرقام، فوجد نفسه بين آخرين لا يعرفهم ولا يعرفونه من العوام، وغدوا جميعاً مائدة في مأدبة اللئام، فحل الصمت مكان الكلام، ونزل الأرق والسهاد جاثمين على أعينهم وكأنهما توأم الغمام، ونصب الوجوم على الوجوه الخيام، وهجرتهم الغفوة وغادرهم المنام، فحضر القلق رشقا بالسهام، وانتصب الخوف رمحا في القلوب واشتدت الأسقام، وأقام التوجس في النفوس غير مرتحل وقد طاب له المقام، وغابت الطمأنينة وافتقد السلام...
لم نذق يوما طعم الأمن والراحة في ذاك المكان وقد غدونا كالأيتام، ولا ظفرنا بطيب مذاق السكينة لحظة أو بمتعة الأحلام، وظل أهل الكهف المظلم يرون أنفسهم عمالقة في ما يصنعون وقمة شماء ومضاء الحسام، ومكث جميع من زج بهم كرها وغصبا داخل ذات المكان في حسبانهم من الزوائد والأقزام ...
تراهم يتنافسون في الشرور والمنكرات في القعود والقيام، ويسارعون بالهدم والعبث إلى كل ما تصل إليه أيديهم، وأرجلهم، وألسنتهم ليصير شبيها بالحطام، فيحسبون جورهم وطغيانهم فخرا لهم على الدوام، ويعدون أنفسهم سادة وغيرهم عبيدا ووحدهم الكرام، فهم الأسد ونطقهم زئير في ما يتخيلون ويشيدونه في أذهانهم من زخرف الأوهام، وأنين كل من في قبضتهم وتحت سياطهم مواء هر في عرفهم ورعشة الحمام، وأجساد ضحاياهم فريسة في ما يتوهمون وجيف بهائم عجماء وهياكل الأنعام...
خيل إليه حينا أن ما وجد فيه نفسه من حال عصيبة ظلماً وعدواناً ستخلد مدى الأيام، لكنه سرعان ما تذكر وأيقن أن دوام أي حال هو من ضرب المحال وليس بثابت ولا تام، وأن الشر والعسف والباطل في الدنيا ساعة عابرة وزبد غير مقيم وحطام، وأن الحق خالد إلى قيام الساعة، وإلى ما شاء الله من بعد ذلك، تخفق به القلوب المؤمنة، ويجري على الألسن الذاكرة الشاكرة رطباً، وتخطه الأيادي البيضاء ناصعاً مضيئاً منيراً بالأقلام، فما كان منه إلا أن فاضت عيناه بذكر الله، وقد عثر فيه على الدواء والبلسم وجلاء الغمة والظلام، ولاذ بالدعاء إذ وجد فيه الشفاء والسلام، ولم يأبه بضيق المكان، ولا حفل بالزحام طوال الليالي التي قضاها في بطن الكهف المظلم والأيام...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com

Shima AL-Alawi
10-07-2010, 07:32 PM
ســــرد رائـــع أخي أبو شامة ..

تصوير بديع للقصة وكأني أشاهدها في مخيلتي ..

بوركت .. لــــــــــكـــ التـــحيـــة ..

سالم الوشاحي
11-07-2010, 05:16 PM
أسلوب شد إنتباهي

ونزف رااااااقي جدا عزيزي

تسلم وتابع التميز

أمل فكر
12-07-2010, 06:41 PM
مساء الروح المبدعة..

قصة متألقة بالإيقاعات البديعة، والنهايات المتجانسة
مليئة بالطباق والتضاد..

كلها قصيدة قصصية تأخذك إلى مشهد واقعي متكرر في عالمنا من الظلم والتعسف...
وخير ما لجأ إليه صاحبنا الدعاء.. فأصحابنا وأصحابه كانوا كثر في الكهف
ولكن أنفسهم متربية على أنهم أقزام مهما كثر عددهم، وما مهما كانت قوة جسد كل منهم
فأصحابنا لا يؤمنون بالقوة، ولكن الحمدلله فهم يؤمنون بالدعاء والأستجابة.. وهم في مكانهم.
فعلاً نهاية واقعية..

ودمت وإبداعك أيها الكاتب عبدالفتاح أفكوح.
تقبل مروري.

طه حسين
22-07-2010, 04:25 PM
أستاذي العزيز أعلن نفسي قارئا وفيا لقصصك الرائعه فلا تبخل علينا بها
تقبلمروري ودمت بخير