المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجوخ ... أسطورة الحب والبقاء .


مريم
09-08-2010, 11:25 AM
هناك ثمة قصص لا تشبه سوى الأساطير ، نبتتها الحقيقة وفرعها خيالنا الساذج
لأصحاب النبتة .........هذه السطور التي بسذاجتي أبعثها لهم ، وهم بأرواحهم في سماوات الرب يحلقون .
كانت غرفة جدي معتقة باللبان كالمعتاد ، وجدتي إلى جواره تثرثر كمن يجادل أحدا ، بينما جدي مغمض عينيه يتمتم بالتسبيح والاستغفار ومسبحته متدلية من على يده التي غزتها الرعشة منذ وقت بعيد .
ألقيت سلامي بلطف وكأنني أخشى أن تطير أسراب الحمام من على زوايا الغرفة
( تلك الأسراب التي كانت يهيأ لي بأنها راقدة على سقف الغرفة):
- السلام عليكم
- وعليكم السلام
- حدتي البيت ؟!
ضحكت وداعبت جدتي بالكلام بينما أغمز لجدي :
- الصغيرين بالحارة وصلوني البيت
ضحك جدي ثم تعالى سعاله ، فغضبت جدتي وقالت بعد أن تنفست بعمق كمن يطرد وجعا قد ألمّ بصدره :
- ريحيني منه أروح أشوف الجارات من أمس ما تنقلت من البيت
أشار جدي لي بالاقتراب بينما جدتي تغادر الغرفة وهمس لي :
- من يرتاح ؟!
ربتتُ على كتفه وبخبث قلت :
- ترآك مأذيها المسكينة
ضحك وقال الأولى وأنت صادقة بس الثانية ما أظني ، خلينا منها ، كتبتي شئ جديد ؟
- شعر حرّ
- حرّ ... وغمغم قائلا:
- ما نبغا نسمع منك شيء خذي ديوان ( ود زيدون ) وسمعينا
دخلت جدتي مبتهجة الأسارير ترتدي شيلتها بينما كان جدي وكعادته غارق في الصمت بينما أنا اقرأ له :
نكادُ حين تناجيكم ضمائرنا * يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
واسترقت النظر إلى عينيه ، فرأيتهما تدمعان كالمعتاد كلما مررت على هذا البيت أو بعض أبيات الديوان ، وزَرعت خيوط دخان اللبان والصمت وجعا غريبا زارنا جميعا ، فقطعته جدتي قائلة :
- شوفي جدك رجله في القبر وبعدها الجوخ ...
ولم تكمل بل مطّت شفتيها بغيض وتمتمت بالاستغفار ، بينما عيون جدي عالقة بالسقف ، غارقة بالدموع كجمرتان .
استيقظت شياطين فضولي ، وغلقتُ الديوان واقتربت من جدي ممسكة يده التي تنفر من عليها عروقهُ وكأنما قد ملت التصاقها بهذا الجلد ، ووجمت نداء ضميري الذي حدثني عن ضعف جدي إزاء هذا الأمر الذي أنا مقبلة عليه :
- من ذي الجوخ ؟
- أنا قلت لأبوك يسميك جوخة بس
- جدتي ما رضيت... أعرف ، وأنت ما تناديني غير الجوخ
وتنهد وقد أنطفأ ضوء وجه وظلت عيناه كمرآة صافية تشف صفاء روح آلمها الزمن .
- الجوخ ... الجوخ بنت خالتي فاطمة
وتحفزت لدى سماعي رد جدي الذي انبأني برغبته هذه المرة في الحديث :
- وفهين هي الحين ؟
فجأش جدي بالبكاء وسالت الدموع على لحيته البيضاء ، فشعرت بالحرج الشديد لمرآه حتي لكدت أعتزم تغير مجرى حديثنا لولا إنه وبصوت مخنوق أكمل حديثه :
- من يوم ما ربي خلقني ما شفت أحد مثلها ؟ صبرت ، صبرت وآجد والزمان ما يرحم .
وبقيت صامته ، استفز جدي بحسن إصغائي ليكمل حديثه ، فمسح دموعه التي لم يبالي لرؤيتي لها وأكمل :
- أتذكر كنت صغير ، يمكن ولد خمس سنوات ، أبوي طلق أمي وجينا أنا وأمي ومحمد وسالمين خوتي نسكن بيت أبونا خليفة وكانت الجوخ وأمها وأخوها منصور ساكنين معهم لأن أبوها سافر وما رجع وقالوا إنه مات .
كانت عيناه تغيبان وكأنهما تنبشان من على السقف ذكريات قد طواها الزمن يحكي هذه القصة بطريقة مختلفة عن حكيه لكل القصص ، بهدوء ودون أن يحرك يديه في الهواء ، كانت شفتاه تحكيان وعيناه فقط من تشاركان في الحديث ، وابتسم ابتسامة صغيرة سرعان ما غابت ، عندما أخذ نفسا عميقا ثم غمغم بالقول :
- كانت في مثل عمري ، كانوا كلهم يروحوا الوادي يرعوا الغنم ، وأنا وهي نبقى مع أبونا خليفة ، ما أتذكر كل شئ بس أتذكر كان أبونا خليفة يجدّ النخل وكنّا أنا وهي نرقط ، وبعدين نجلس نلعب في الساقية .
وظلت عينايّ كمن يرتشف ألما ساكنا هناك في البعيد ، بين عينيّ جدي وروحه
- وكبرنا وصار عمري خمسة عشر سنه ، يعني صرت رجال وأشتغلت مع خوالي في السوق ، وكنت ناوي أكلم أمي تخطب لي الجوخ ، بعد أن تزوج أخواني ، محمد رجع مع أبوي وسالمين سافر وترك زوجته مع أهلها .
وخيم صمت ثقيل على الأرجاء ، وبدت الكلمات القادمة أثقل وطأ من أن ينبس بها جدي .
- لكن ود سلمان بن راشد الملعون ، ضيع حياتها
وانهمرت دموع جدي ، فتناول عمامته ليمسح بها دموعه وقال بلهجة المغلوب على أمره .
- كان ود هناقرة البلاد ، وكانوا ما يخطبوا لأولادهم غير أغوى البنات ، وكانت الجوخ وكل بنات أبونا خليفة معروفات بالجمال ، وسايره بهن السمعه .
صمت وعدل من جلسته ، تنفس ثم شبك يديه معا وتنهد :
- سمعت الخبر ، وسويت عمري كأني ما سامع ، كان الجميع يعرف بأن حمود ود سلمان عاشق بنت من بنات البدو ، وقلت ما بيطيع يتزوجها .
نظر إلى النافذة المطلة على النخيل في الخارج :
- لكني لقيتها عند الباب تنتظرني قالت لي وهي تبكي :
- بعد أسبوع الزفة ، أم حمود شاريه الثياب وكل شيء
- وزفوها حال بما يخاف ربه
وبكى :
- وذلها
وصمت ثم قال :
- كدها مكدت الحمير ، وأمه العقرب العوده وأخته تعاونن عليها
ومسح دموعه وقد أرهقني بكاؤه وكدت أطلب منه إكمال قراءة الديوان ، لكنني وجدته يكمل :
- وما لقيتها لين جوب الثلاث سنين ، كان مانعنها عن زيارة أهلها ، حتى أمها مرضت واجد وما قدرت تزورها ، يوم لقيتها كانت هزيلة كما الهوله ، ما غادية شيء ، جالسة في مزرعة حمود بعد صلاة الفجر .
صمت وأغمض عينيه .
- لما شفتها ، قلت يتخيل لي ، مو بيجلسها هنا هذه الساعة ؟!
طلع الكلب داعنها تحرس الذرة عن الطيور ، ما أحد رضا يحرسها وقال لهم :(الجوخ بتحرسها) .
- عشرين سنه وما ضم بطنها ولد منه كل ما حملت شهور وتسقط ، من كثر الشغل ، وأهلها ما قدروا يقولوا له شيء ، خافوا لا يطلقها وأهله داعينه تاج راسهم يسوي بيريده ، ولما مات أبوه ، يومين وطلقها ، وتزوج بنت البدو وخرجت من بيته بثيابها لا ولد ولا تلد ، عشرين عام مذله ومهانه .
وكأن سيول الذكريات قد اندفعت دفعه واحدة وأبا جدي إلا وأن يجري سيولها مرة واحدة .
- وشفتها وكلمتها في موضوع الزواج ، لكنها ما قالت غير كلمتين : ( أنت لموزة ) ، تمنيت لو أني بقيت عازب وما تزوجت .
ظلت سنتين عايشه هي وأمها وكان أخوها مسافر ، تخدم النخل بوارثتنهن عن أبوها ، وبعدها تزوجت مبارك بن عبدالله ، مبارك رجال وما ينعاب لكنه راجع من السفر فقير وما عنده شئ ، بس قالت :( بيساعدني في النخل ) ، وتمت خمسة عشر سنه تحمل وتسقط ، إلى أن رزقها الهت بثلاث بنات وبعدين بولد سمته على اسمي عيسى ، يقولوا كان زوجها يقرأ كتب جايبنهن من عند واحد من ربعه في الكويت ، كتب الغزالي والتوراة ! .
وكان هو وخالد ولد المركاض وسليّم ود حارب كل ليلة جمعة يجلسوا في سبلة المسجد يقريوا .
أذكر في يوم كنت أسقي وجت وكانت حامل وقفت قدامي وما سلمت قالت :
- مبارك يقول حلم وتفسير حلمه إذا جبت ولد بنغتني وإذا جبت بنت بيموت وأعور أنا .
وما عرفت يومها مو أقول غير ( عايني من الله خير )
- وليلة الثاني من رمضان ولدت الجوخ بنت ، ومات مبارك وبعد يومين كانت تلبق نار وتعورت في عينها وعورت .
ولأول مرة ألمح أن عين جدي اليمنى مطبقة الجفن ! لا تبصر سوى الظلام ، منذ متى ؟ لا أعلم ، لعلها منذ أمد بعيد .
وكأن خفافيش ترقد في كهف منذ آلاف السنين ، قد غشى عيونها النور فتراكضت تتصادم بحيطان الكهف مذعورة ، وأنتفض جدي :
- وجدتك موزة ، جتني في يوم من الأيام كنت جالس أصلي وقالت لي : ( كان باغي تتزوج الجوخ ترآني راضية )
وكانت الجوخ باقية هي وأمها ولدها عيسى والبنت الصغيرة بعد أن زوجت بناتها ، يوم رحت وقبل لا ابدأ في الكلام قالت الشور شور عيسى ، كان عيسى ولد ست سنوات ، وما رضا ، وهي عندت وقالت : ( ما أرد كلمه لعيسى ، أنا انتظرت عيسى سنين ) ، وبقيت ترعى أمها ، بعد ما مرضت وخلعها المرض ورجع أخوها من السفر ، رجع وقالها :( يا تبيعي نصيبك من المزرعة وتعطيني إياه أسافر يا ما راح تشوفين وجهي مرة ثانية ) ، وباعت .
وتنهد وغصة ألم تحفر بعمق في خفقات روحه :
- وبعتِ يا جواخ رغم كل كلامي ، بعتِ
ومضى الوقت سريعا ، وتوسطت الشمس في كبد السماء بينما عتت الرياح معربدة بالغبار ، ووآصل جدي أشجانه :
- ماتت أمها ، وبقيت جواخ على الخياطة تعيش هي وبنتها وعيسى ، وما حد من يومها شاف أخوها ، حتى لعزاء أمه ما رجع ، وجواخ ما رضيت تروح تسكن مع أزواج بناتها ، وفي يوم كان القيض توه بادئ ، جت البيت وهي تبكي وخرجت لها جدتك موزة وقالت يومها جواخ لموزة :( عيسى بيموت يا موزة )، وراحت .
ما لحقنا أنا وجدتك نوصل لبيتها غير لقينا كل أهل الحارة بالبيت ، عيسى لسعته أفعى ومات
لعل أبواب الذاكرة ثقيلة وحالما تفتح يصعب إغلاقها هكذا تراءت لي أبواب ذاكرة جدي وهو يسهب في الحديث :
- ومات محمد وجواخ بقيت تكد على بنتها صبح وليل وكبرت البنت وزوجتها وظلت في البيت وحيدة ، وفي مرة زرتها وكنت شال لها قيض( هلالي حسد ) في مخرافة صغيرة قالت لي :
- مسعود ولد حميدة ما بيرتاح لين يقتلني
وسألتها ما له مسعود وقالت وعيونها كأنها ما نايمه من سنه
- مسعود طلب يتزوجني وأنا ما عاد لي في طريق الزواج ، وما تمر ليله غير ويجي عند الباب يبقى يهز الباب ويقرقعه ، يبغا يفزعني .
- صدق إنه ما رجال الحين بروح وأقتله
- بيقول ما أنا بس أنا متأكدة إنه هو
وواصل جدي الحديث وهو يشمر عن ساعده حتى أظهر مرفقة وقال :
- إلي ما يخاف الله راوتني مرفقيها كلها عوارات طول الليل تجلس بمرافقها على الأرض تخاف تنام .
وصعّد الهواء بوجع عدة مرات :
- وقلتلها خلينا نتزوج وقالت :
- كلمة عيسى الغالي ما تنزل الأرض إن كان حيّ ولا ميت
وتوقف وأرجع ظهره إلى الوسادة وكأن الحديث قد خط على وجهه من الوهن ما خط ، ووجدتني أقول له :
- وهين هي الحين ؟
ودون أن ينظر إليّ غص في البكاء ثم قال :
- السرطان قتل جواخ
- السرطان ؟!
- كنت مره مودي لها كيسة رمان الجيل الأخضر وكانت خارج البيت ويوم دخلت وشافت الكيس قالت :( هذا جايبنه عيسى ود خالتي )
ابتسم وأكمل :
- فرحت يوم سمعتها ، وخرجت من المجلس وقلت صح وأنت صادقة وتغديت معها كانت في بيت بنتها خديجة وبعد الغداء ، حسيت كأنها متغيره ومريضه بس يوم سألتها قالت :
- الحمد لله ما فيني شيء
قال الطبيب من ثمان سنوات والمرض ينخر فيها وهي ساكتة
وكأن الذكريات وصلت إلى غايتها في إشعال أوجاع جدي حتى استحالت أحشائه إلى رماد فقال بهدوء :
- قصوا رجلها اليسرى وبعد كم شهر قالوا بنقص اليمين بس ما رضت والساعة ثمان الصبح خمسه جمادي الأولى توفت .
عدل جدي الوسادة ونام على يده اليمنى ، لافا قدمه اليسرى باليمنى كأنما يخشى هروبهما .
توفي جدي بعد يوم واحد من حديثنا هذا ، لعله كان يخشى أن يموت ولا أعرف أنا من تكون جواخ ؟ توسلتُ لأمي أن أغير أسمي ولكنّ نظرةً من جدتي جعلتني أشفق أن أعيد لها أوجاع الغيرة التي دفنتها في أقاصي الذاكرة ولكنها حتما لن تقوى على قتلها .
لعل جدي وجواخ يبتسمان لتوهما وهما يسمعان ثرثرتي لكم بهذه القصة ، التي عندما ساقرأها لأمي ستضحك وتقول : كذابة كل جدودك ماتوا قبل لا تشوفيهم ومرة ثانية ما أحكي لك قصص اللوليين أنت تسرقيها وتقولي: إنها قصص جدودك؟!

فديت السلطنه
09-08-2010, 11:33 AM
يسلمووووووووووووووو

موضوعك روووووووووووعه

لك مني اجمل تحيه

سالم الوشاحي
11-08-2010, 05:36 AM
أأختي الفاضله مريم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لقد تابعة القصه بكاملها .. جميل أخيّه

هذا الإتقان في وصف الأحداث الدقيقه

والشخصيات والربط مابينهما

أحييكِ على هذه القصه (الجوخ أسطورة الحب والبقاء)

نرجوا المزيد من القصص هنا .. فلاتحرمينا..

أمل فكر
11-08-2010, 02:53 PM
مساء المحبة والطيبة

بداية : اللهم ارحم وأغفر لجميع شخصيات القصة جدك وجوخ....... اللهم آمين

والأجمل هنا إنها حقيقة، كم هي معاناة أجدادنا كبيرة، وصبرهم أكبر،
جميل هو الحب الذي في قلب جدك ولو إنه استقى من مرارته لسنوات عمره بأكملها...

وصف الأنفعلات ومشاعر الجد جداً جميلة، وبأسلوب يوصل لنا المشاعر بالفعل.

جل إعجابي.

نبيلة مهدي
13-08-2010, 04:09 AM
ماشاء الله قصة حلوه
استمتعت و أنا أقراها..
يسلمو عزيزتي مريم..

مودتي

مريم
16-08-2010, 03:20 PM
عاطر الشكر وجميل الثناء
لطيبون الذين مروا من هنا
فمرورهم عطر الأجواء
وزاد من الخير وأفاض
فليحفظهم الرب .

غالي
18-08-2010, 08:12 AM
قصة جميلة بس نتمني الافضل ......................................

لك مكان
27-08-2010, 02:23 PM
اشكرك جزيل الشكر في غاية الروعه

لك مكان
27-08-2010, 02:26 PM
اشكرك جزيل الشكر في غاية الروعه