المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مأساة مقاول شاب


عبدالرحيم الطورشي
10-08-2010, 01:22 AM
مأساة مقاول شاب

استلقى عبد الصمد بارتياح على أريكة بمكتبه الأنيق، مج أنفاسا عميقة من سيجارته المشتعلة و شرع يفكر بهدوء و متعة، لقد وصل الآن إلى المرحلة الحاسمة في مشروعه إما متابعة الطريق أو التوقف عن السير و العودة إلى الوراء. لقد مرت الآن سنتان بالتمام و الكمال على انطلاق مقاولته. طبعا هو متأكد من نجاح مشروعه. أعاد تفحص كل الوثائق و البيانات. المبيعات في ازدياد مضطرد. لن يترك في البلد شخصا حافي القدمين و شركته موجودة تنشط في ميدان صنع الأحذية. انشرح صدره و انبسطت أساريره. فكر بمرح. << سأقبع بمكتبي هذا الصباح و أخطط لتوسيع نشاطاتي>>. وبينما هو مستغرق في خططه إذ بهناء و هي عاملة غير مرسمة تدخل طالبة قرضا بقيمة ثلاثة ملايين سنتيم و مستعدة لتأديته على شكل أقساط شهرية متتالية لعدة سنوات. لم تفصح له عن الهدف من ذلك و لكنها أخبرته أنه لغرض مهم يخص عائلتها؛ فرفض متذرعا بقلة السيولة بينما الحقيقة عكس ذلك إذ كانت الأموال متوفرة خصوصا و كل بضاعته تصرف في السوق.
خرجت الفتاة من المكتب مطأطأة الرأس تكاد دموعها تغلبها و لكن عبد الصمد لم يتأثر لذلك. كان يظن أن فتح هذا الباب سيؤدي إلى استنزاف ميزانيته. إذا لبى طلب هناء فلن يمكنه رفض طلبات الآخرين، لا! لا يمكنه تعريض مشروعه الفتي للخطر من أية جهة كانت، تكدرت نفسه فأشاح بوجهه عن الأوراق الموضوعة فوق المكتب و شرع يحدق ساهما في أشجار البلوط العالية التي تحف النوافذ الزجاجية لمكتبه. رفع بصره إلى السماء المتجلية في صفاء فلاحت له سحب متلبدة في الأفق. سرح عبد الصمد بخياله بعيدا. ما زالت ذاكرته تحتفظ بأدق التفاصيل. أبوه كان عاملا بسيطا بشركة كبيرة، استطاع أن يربي أبنائه حتى أكملوا مشوارهم التعليمي و منهم عبد الصمد الذي تمكن من الحصول على إجازة في العلوم الاقتصادية. كان ينمي نفسه بالانتساب إلى أسلاك الدولة أو التوظيف بشركة محترمة و لكن شيئا من ذلك لم يقع، فقد كانت البطالة تضرب بأطنابها بين الشباب المتعلم. فبقي عبد الصمد بدون شغل عدة سنوات متتالية يعيش عالة على والديه إلى أن وضعت الدولة برنامجا للتشغيل الذاتي خاصا بأصحاب الشواهد العاطلين و يمكنهم من الحصول على قروض ميسرة، مكث عبد الصمد بمنزله عدة أيام مترددا حائرا قبل أن يأخذ قراره الحاسم و يتوجه إلى مكتب المشروع. فهو لم يتصور نفسه يوما صاحب شركة يعطي الأوامر لمستخدمين لديه، زد على ذلك أنه كان يكره النظام الرأسمالي و يميل إلى الاشتراكية التي يراها إنسانية. كان يحدب على الضعفاء و المعاقين و يتضامن مع العمال حين يضربون عن العمل و ينظر إلى العالم و كأنه حلقة متضامنة فيها بعض الأشرار من مصاصي دماء العمال الذين يجب تأديبهم و فرض القانون عليهم عنوة.
كان يتأسف لحالة الفقر المدقع التي يعيش فيها عدد كبير من المواطنين و يتمنى لو كان يملك السلطة لوزع الأموال على كل المحتاجين، حصل على تكوين خاص مناسب له ثم على القروض الكافية لانطلاقة مقاولته التي جعلها متخصصة في صنع الأحذية. اكترى محلا تقارب مساحته المائة متر مربع و اشترى الآلات اللازمة ثم شرع يبحث عن العمال المؤهلين لهذه المهمة. نصحه أحد معارفه الذين لهم تجربة في هذا الميدان بأن يبحث بنفسه عن العمال دون النداء على وكالة متخصصة سواء خاصة أو حكومية و أن لا يعلن لصندوق الضمان الاجتماعي و غيره من الدوائر الحكومية عن العدد الحقيقي للعمال حتى لا يؤدي ضرائب زائدة أو أجورا تساوي أو تفوق السميك أي الأجر الأدنى المفروض. حين سمع عبد الصمد هذه النصائح، صدم في بادئ الأمر و بعد ذلك بقي حائرا يفكر. حتما الشركة التي تطبق القانون بحذافيره لا يمكنها أن تنتعش و تحقق أرباحا كافية بسبب الضرائب المرتفعة و المداخيل القليلة. بدأ عبد الصمد يتفهم وضعية أرباب العمل الذين لا يؤدون للعمال أجورا كافية. و لكن حين يتذكر طفولته البئيسة و الأجرة الضعيفة التي كان يتقاضاها أبوه و شعوره بالحرمان و الحنق و الضغينة على رب عمل أبيه، يتعذب ضميره. اتبع ما تمليه عليه مصالحه الذاتية فنادى على أخته عبلة و هي عاملة موسمية بإحدى المقاولات الصغرى و طلب منها البحث له عن خمس فتيات مستعدات للعمل و يقبلن أجورا هزيلة جدا فأجابته بالقبول و طمأنته بأنها ستختار له نوعية من الفتيات لن يجد معها أي مشكل سواء على مستوى المردودية أو الأجر. بعد نجاح مسعاه الأول اتصل عبد الصمد بالمختار ابن خالته الذي يعمل نادلا بمقهى فطلب منه البحث عن أربعة شبان عاطلين و مسالمين و مستعدين للحصول على أجور منخفضة. طمأن المختار عبد الصمد و أعلمه بأنه سيبذل أقصى جهده لإيجاد أفضل العناصر. لم يكد يمر أسبوع حتى وجد اليد العاملة المناسبة. لم يعلن عبد الصمد للمصالح العمومية المختصة إلا عن عاملين قريبين له أحدهما فتاة كلفها بالأعمال المكتبية و الآخر مصمم كلفه بإيجاد التصاميم المناسبة و مراقبة العمال. و هكذا انطلقت الشركة في إنتاج الأحذية أما عبد الصمد فقد خرج يبحث عن أسواق لتصريف سلعته. و كانت تجربة فريدة من نوعها و ناجحة مكنته من التعرف على أنماط مختلفة من البشر و إقناع بعضهم بمزايا أحذيته و رخص ثمنها حتى يقتنوا منها أعدادا وفيرة. أحس عبد الصمد أن التجارة حرب شرسة تتطلب أسلحة ملائمة و ذكاء حادا و قدرة كبيرة على المناورة و الخداع فاندفع فيها بكل طاقته. تذكر نصائح أستاذه في التكوين ً ابتسم دائما، لا تتعب من الابتسام و في جميع الأحوال لا تقلق أو تغضب، ذلك هو السر الأول لجلب الزبون ً.
توسعت تجاربه و معاملاته فاكتشف أن ذلك ربما يكون مفيدا مع المتاجر الصغرى التي يسيرها أصحابها و لكن بالنسبة للمتاجر الكبرى لا تكفي المعاملة اللطيفة بل لا بد من حصة من الأرباح تمر خلسة إلى جيوب رئيس المشتريات حتى يوقع العقد، في البداية صدم عبد الصمد من واقع الأمر و لكن مع مرور الوقت اعتاده، هذه المعاملات شائعة ليس فقط على المستوى الوطني بل حتى على المستوى الدولي فقد قرأ في الصحف عن الفساد المالي المستشري في بعض الدول الكبرى، الاختلاف يقع في العقاب. كل مفسد فضح يعاقب هناك. أما هنا فلا يعاقب إلا المستضعفون أما من لهم علاقات حميمة مع بعض رجال السلطة فلا يسألون عن أفعالهم أو ينالون أخفض العقوبات، فكر عبد الصمد. << المجتمع المدني يتقوى و الأمور تتغير نحو الأحسن. و إلى أن تصبح البلاد قولا و فعلا دولة الحق و القانون يجب أن آكل من الكعكة و استغل الفرص المتاحة من أجل الاغتناء>>. هكذا تحول ابن العامل البسيط إلى ذئب مفترس يقلد جلاديه بالأمس ويسير على خطاهم اليوم مبررا سلوكه المشين بأفكار مثل << لست أنا الذي خلق هذا الفساد. الواقع هكذا>>.ازدهرت الشركة و ازدادت أرباحها أما عبد الصمد فإنه يغمره شعور بالاعتزاز و التيه حين يستقبله عماله بحفاوة و أدب جم و هم رجال أشداء و شابات جميلات. و قد اجتاحته في أحد الأيام موجة من الزهو حين كان رفقة مجموعة من أصدقائه يتجول بوسط المدينة و سلمت عليه فتاة في غاية الجمال و الأناقة أثارت إعجاب مرافقيه فأخبرهم و هو يترنح فرحا أنها إحدى عاملاته مما جعل أحدهم يغمزه و يقول له بلهفة<< لا بد أنك سعيد في عملك>>. رغم إعجابه بجمال عاملاته فإنه لم يحاول التقرب إليهن أو كسب حب إحداهن بل كان يؤدي لهن أجورا حقيرة، هدفه الأساسي هو تكوين ثروة يفاخر بها أهله و معارفه. و لذلك فهو غير نادم على رفضه فتح باب القروض في وجه شغيلة مقاولته.
مر حوالي الشهر على زيارة العاملة هناء له بمكتبه، فلاحظ عبد الصمد اختفائها عن الشركة. سأل العمال عن سبب تغيبها فلم يجبه أحد، مر أسبوعان و هناء غائبة عن العمل ثم نزل خبر وفاتها المفاجئة على العمال كالصاعقة. كان عبد الصمد في رحلة إلى إحدى مدن الجنوب لفتح أسواق جديدة لسلعه فلم يشارك العمال في مراسيم دفنها و عزاء عائلتها في موت ابنتهم. عند عودته من السفر، تفاجأ عبد الصمد لما سمع الخبر. طلب من قريبته الذهاب عند عائلتها لاستجلاء حقيقة الأمر. عادت إليه بأخبار مفجعة صادمة، هناء فتاة يتيمة الأب، جل إخوتها عاطلون و يمارسون تجارة موسمية على الطوار و يعيشون في فقر مدقع و قد تعمقت مأساتهم بعد إصابة هناء بمرض قلبي. كانت تحس بعياء شديد أثناء العمل فتوجهت إلى مستشفى عمومي حيث استطاع الأطباء تشخيص انسداد في أحد شريان القلب يحتاج لعلاجه إلى عملية جراحية تتطلب مصاريف باهظة. لم يستطع إخوانها إيجاد الأموال الكافية و حاولت هناك أخد قرض من المصرف و لكن رفض طلبها فاكتفت بأخذ أدوية إلى أن وقعت لها أزمة قلبية لم تستطع الصمود أمامها فانتقلت إلى أرض البقاء. شعر عبد الصمد بدقات قلبه تتسارع و بدوران مفاجئ فغادر المعمل مسرعا إلى منزله. كان يحس بتأنيب الضمير. حدث نفسه قائلا: << أنا المسئول عن وفاتها وهي في عز شبابها، لو وهبتها القرض الذي طلبت، لتمكنت من الخضوع للعملية الجراحية و لبقيت على قيد الحياة إلى الآن. أنا فعلا مجرم، ارتكبت ذنبا لا يغتفر>>. لم يعد إلى العمل إلا بعد ثلاثة أيام. أصبح لا يغادر مكتبه إلا لماما. بعض الأسواق سدت في وجهه لأنه لم يحاول تجديد طلبها. تقلصت المبيعات فتقلصت الأرباح. و عوض تخفيض المصاريف قام عبد الصمد بالزيادة في الأجور. لم تعد تهمه الثروة، فكر << أنا قاتل، يجب أن أكفر عن ذنبي. ما قيمة الأموال في خزانتي و غيري يتعذب و لا يجد ما يشفي به جسده من الأسقام؟ يكفيني نظرة فرح في عيون عمالي>>.
مع مرور الوقت، لم يعد عبد الصمد قادرا على تسديد ديونه فتوالت الإنذارات. تم القبض عليه لمدة محددة. أغلقت الشركة أبوابها و انصرف العمال واجمين إلى حال سبيلهم لا يلوون على شيء. تم الحجز على الشركة و بيعت في المزاد العلني و في نهاية المطاف خرج عبد الصمد من تجربته المقاولتية صفر اليدين لا يملك شيئا. لم يكن مصدوما و كأنه كان ينتظر هذا القدر المشؤوم. عاد إلى عادته القديمة حين كان عاطلا. يقضي سحابة يومه في ارتشاف القهوة السوداء و تدخين السجائر الرخيصة إلا أنه لم تعد له رغبة في القراءة. تكلفت عائلته بمصاريفه رغم حاجتها و حثته على البحث عن الشغل و لكن رغبته في الحياة و العمل ماتت. كان يحس برغبة شاذة في تعذيب نفسه إلى أقصى الحدود. لم يعد يملك الطاقة الكافية لمقاومة هذه الرغبة. يشرد ذهنه، فتتراءى له صورة هناء حيثما صوب نظره. تسيل دموعه من مآقيها فينتحب و يحدث شبحا لا يراه إلا هو.<< هناء، اغفري لي ذنبي. لم أكن أعلم أنك تريدين العلاج>>.

سالم الوشاحي
12-08-2010, 05:19 AM
عبد الرحيم الطورشي قصه رائعه

أتقنتها باسلوبك الجميل ..وأبدعت

فيها كل الإبداع ....هذه نهاية شاب

لم يعر اهميه للضعفاء .. بارك الله فيك

أخي والله لاحرمنا من قصصك الجميله

نبيلة مهدي
13-08-2010, 04:17 AM
ياااااه ما هذه الاحداث التي جرعتنا الألم..
هي هكذا الحياة...

سلمت يمناك أخي الكريم عبد الرحيم

تقبل مروري من هنا...

كن بخير

عبدالرحيم الطورشي
14-08-2010, 03:39 PM
إلى الأخ الكريم أبوسامي،
شكرا لكم على مديحكم.
رغم كل الشر الكامن في بعض البشر، فإن الضمير لا يموت.
أتمنى أن أكون عند حسن ظنكم.

عبدالرحيم الطورشي
14-08-2010, 03:40 PM
إلى الأخت الكريمة نبيلة مهدي،
رغم كل الآهات، فالأمل أقوى و التآزر بين البشر لا مفر منه.
أشكركم على المرور الجميل.