المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : " الغروب "قصة لفيصل الزوايدي (تونس)


فيصل الزوايدي
07-06-2009, 02:36 PM
الغـــروب ..

أَنا مَن هَدَّه الشوقُ إليَّ ، و أَخَذَه الـهمُّ بعيدًا بعيدًا عَني .. و أَلزَمَني زَمَني ما لا أُطيق ..
فَلَيْتَ أَنسى .. وكيفَ أنسى وذا فَحيحُ ذِكرى أَطلَقَت سُـمومَها فـي دِمائي فَلا تُـجدي مَعَها الأمصالُ و إِنْ جَرَّبتُها ..و ذا هُم أَحِبَّةٌ صَدَقوا ولَكِن رَحَلوا ، بِالـمَوتِ اعتَذَروا ، و ما تُـجدي ، عِنْدَ الرحيلِ ، الـمعاذيرُ..أُفيقُ و تُفيقُ مَعي الذكرى موجِعَةً كالقَهرِ أَو كَالـمَوتِ نَفسِهِ ، أَحسِرُ عَنـي لِـحافًا بَسيطًا كانَ ليُطرُدَ البردَ و الـخوفَ عنّي .. أسيرُ نَـحوَ الـمِرآةِ فلا أرى إلا وَجهَهُ بِفَيْضِ ابتِسامَتِهِ الغامِرَةِ و الشيبِ الذي جَلَّلَهُ وَقارًا .. كانت الشعراتُ البيضاءُ بَيارِقَ الرحيلِ يَومَ اِلتَمَعَت فـي رأسِهِ تُؤذِنُ بِوَداعٍ مَـحتومٍ .. أجابَنا لا أَدري جادًّا أَمْ عابِثًا يَوْمَ سَأَلْناهُ عَن ذَلِكَ اللونِ الـجديدِ : هِيَ الشمسُ لا تَـمَلُّ شُروقًا و غُروبًا .. كَم أَشرَقَت و كَم غَرُبَت .. أَنْتَزِعُني مِن أَمامِ الـمِرآةِ فَقَد وَمَضَ بَريقٌ فـي عَينيَّ .. أَسيرُ وَجِلا إلـى الـمغسَلِ فأَغسِلُ وَجهي عَجٍلا ، مُتَجَنِّبًا النظَرَ إلى الـمِرآةِ الـمُواجِهَةِ خِشيَةَ أَنْ أَجِدَهُ قبالتي لَكِن يَدي تَـجَمَّدَت على مِقبَضِ الـحَنَفِيَّةِ ، فَقَد كانَت يَدُهُ الـمَعروقَةُ هِيَ التي تُـحكِمُ إِغلاقَ الـمِقبَضَ بِـحِرصِهِ الشديدِ على الـماءِ ، أَقتَلِعُني بِعُنفٍ و أَتَـحَرَّكُ مُتَعَثِّرًا أو مُتَبَعثِرًا.. أُغادِرُ الـمَكانَ و أُسرِعُ إلى غُرفَتـي و لَكن يَبدو أَنَّني قَد تُـهتُ إِذْ وَجدتُني فِي غُرفَتِهِ هُوَ .. كانَت رائِحته الـمُمَيَّزَةُ ما تَزالُ عَطِرَةً في الـمَكانِ .. هذا مَضجَعُهُ و تِلكَ ثِيابُهُ وذاكَ مَكتَبُهُ .. ما زالَ دفتَرُهُ مَفتوحًا على الطاولةِ ،كما تركَهُ في تلك الليلةِ فَقَد كانَ يُسَجِّلُ كل يوم أحداثَ يَومِهِ.. ترددت في مسامعي شَكواه الدَّائمَةَ مِن الزمَنِ .. ما لـي مِنْ عَدُوٍّ غيره .. قالَ هذا لـي يومًا وقد كان يُرَدِّدُهُ دَوْمًا .. أَقرَأُ فـي الصفحةِ الـمفتوحةِ أَمامي :" إِنَّـما تقتُلُنا الـحَسرَةُ .. وما جَدوى أَنْ تُسجِّلَ هزيـمَتَكَ ؟" لا أَجرُؤُ على قولِ أي كلامٍ .. تَـمامًا مِثلَ ذلكَ اليومِ .. إِذَا يَهوي الأحبَّةُ إلى الترابِ فَما كَلامٌ يُسلّيني .. أُحاوِلُ الهربَ مِنَ الـحسرَةِ خِشيَةَ أَنْ يَـمضي الوقتُ ، لا أَبـحَثُ عَن ساعَةٍ و لا أحاولُ البَحثَ عَنها فانأ اعلم أنني لن أجد واحدة .. قَد كانَ يَكرَهُ الساعاتِ بُغضًا ، يَكرَهُ حَرَكَتها لا تَتَوَقَّفُ ولا تستَريحُ و لا تَعودُ مَرَّةً .. يَكرَهُ اِستِنـزافَها الـمريرَ لِلعُمرِ .. تَزيدُ لِيَنقُصَ ، هَكذا تَقولُ الأحجِيَةُ .. هل اِعتَقَدْتَ يَومًا أَنْ تَكونَ حَياتُكَ أُحجِيَةً ساذجَةً يَرويها الصبيانُ بِتَفَاخُرٍ ؟؟؟
أُحاوِلُ الفكاكَ مِن هذه الـمتاهةِ فَأُغادِرُ الـمكانَ نَـحوَ آخر .. إِذَا كانَ الزمانُ يَأْبـى الثبات فالأماكِنُ تَأبـى الـحَرَكَةَ .. أَسيرُ نَـحوَ غرفةِ نَومي مـرةً أخرى و أَنا أَتَوقَّعُ أَن أَجِدَها فـي مَكانِـها ، لا أَدري كَيفَ وَجدتُ نفسي في غُرفَةِ الـجلوسِ أُجيلُ البَصَرَ في أَشيائِها الـمُبَعثَرَةِ كأَحاسيسي ،الـمُشوَّشَةِ كَأََفكاري .. على صَدرِ الـحائطِ لَوحةٌ كبيرةٌ مَارَسَ الزمنُ نزواتِهِ العجيبةَ على إِطارِها الـمُذَهَّبِ فَأَحالَهُ باهِتًا .. كانتِ اللوحةُ صورةَ الفَقيدِ .. الـجاذبيةُ عنيفةٌ اِقتادَتْنـي إلـى تَأَمُّلِها بِشَغَفٍ كأنـي لا أَعرِفُ صاحبَها ..
أَقِفُ أمامَ صورَتِهِ و لَكِنّـي أَنظُرُ إليه بِإِشفاقٍ وَ حَسرَةٍ كَأَنـي أَعرِفُهُ .. أَتَأَمَّلُ عَيْنَيْهِ العَميقَتَيْنِ بِتِلكَ النظرَةِ الغائِمَةِ ... أَنظُر في الصورَةِ طَويلا و أَرحَلُ بَعيدًا بَعيدًا عَنّـي، إذ أَنسى العالـمَ مِن حَولـي و أَنسى كثيرًا مـما ظَنَنْتُ أَنـي لا أَنساه ..و لكننـي أعودُ بَغتَةً لأُفيقَ فَإذا بـالصورةِ لَـم تَكُن إلا صورَتـي أَنـا ..

فيصــــل الــــــزوايــــدي

إبراهيم الرواحي
10-06-2009, 01:18 PM
الله الله الله على هذا الجمال
والنهاية الجميلة


دمت أستاذي

فيصل الزوايدي
12-06-2009, 07:49 PM
الله الله الله على هذا الجمال
والنهاية الجميلة


دمت أستاذي

يسعدني رأيك كثيرا اخي ابراهيم و انا ممتن لهذه الاطلالة
دمت في الخير

هيثم العيسائي
13-06-2009, 07:19 PM
فيصل جميل هذا التألق


شكراااااااا لك وبارك الله فيك

فيصل الزوايدي
13-06-2009, 08:33 PM
فيصل جميل هذا التألق


شكراااااااا لك وبارك الله فيك

أهلا اخي هيثم و انااعتز برأيك كثيرا
دمت في الود

إيلاف وطن
04-08-2009, 06:15 AM
فيصل رائع انت

وفقك الله

فيصل الزوايدي
04-08-2009, 04:14 PM
فيصل رائع انت

وفقك الله

أعتز برايك كثيرا كثيرا اخت جنى و انا ممتن للمتابعة
دمت في الخير

عبدالله العمري
15-11-2009, 10:02 AM
إستاذ القصة

الصمت في حرم الجمال جمال

دمت بحب

فيصل الزوايدي
17-11-2009, 06:59 PM
إستاذ القصة

الصمت في حرم الجمال جمال

دمت بحب


يسرني رايك و ثناؤك الباذخ اخي عبد الله فتقبل امتناني و تقديري

صلاح عبيد
09-02-2011, 11:08 AM
الغروب ..

غروب الصورة .. وغروب الانسان

وصف الموت والحياة الاخرى الخيالية بالغروب
شئ جميل وأدبي رائع

تحقق معه كثير من المفردات والتفاصيل العميقة في النفس البشرية وعلاقاتها المختلفة

قصة منسوجة بايقاعات عربية تونسية
استمتعنا بها وتأثرنا

خالص شكرنا وتقديرنا

سالم الوشاحي
09-02-2011, 12:17 PM
أخي العزيز فيصل الزوايدي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قصه جميله بليغه رائعة الصور والمعاني

أشكر لك أثرائنا ببوح قلمُك

تقبل فائق الاحترام والتقدير

فيصل الزوايدي
15-03-2011, 02:21 AM
أخي العزيز فيصل الزوايدي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قصه جميله بليغه رائعة الصور والمعاني

أشكر لك أثرائنا ببوح قلمُك

تقبل فائق الاحترام والتقدير

و عليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. اعتز برأيك كثيرا و انا ممتن لتفاعلك و دعمك
دمت في الخير

ليلى العامرية
16-03-2011, 10:26 AM
أخ فيصل تقبل مروري....

بكل شرف أقول بأن قصتك في غاية الروعة...

للشمس حكاية جميلة حينما تغرب عن أنظارنا...
وحكايتها الأجمل عندما تشرق كل صباح بالأمل........

فيصل الزوايدي
18-03-2011, 01:41 AM
أخ فيصل تقبل مروري....

بكل شرف أقول بأن قصتك في غاية الروعة...

للشمس حكاية جميلة حينما تغرب عن أنظارنا...
وحكايتها الأجمل عندما تشرق كل صباح بالأمل........

يسرني مرورك و رأيك كثيرا اخت ليلى ..
دمت في الخير