المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إلى مأرب 1


الدكتور طاهر سماق
22-12-2010, 04:05 PM
قرَّرْتُ بلا تردُّد .. أن أنقلَ مكانَ عملي من ريفِ تَعز إلى مأرب

وما أوسع البون!!

من جبالٍ وخُضرةٍ ومعالم (تَحضُّرٍ) يصبحُ فيها كلُّ أمرٍ بحساب .. إلى صحراءَ وبداوةٍ و(قبليةٍ) حتى النخاع، حيثُ لا حاجة بك إلى النقود كي تأكل، ولا كي تبيت، والمروءة والشهامة والاعتزاز بالنفس تطغى ..
نعم .. استهواني التغيير ..

لا أدري لماذا ..
ربما سعياً وراء إرضاء ميوليَ الجامحة في حب الاستكشاف والنزعة للمغامرة، واستكشافِ ذلك العالم القَبَلي الآسر بقسوتِه وتراحمه .. بطُمأنينتِه وغُلوائه .. بحربِه وسلمه .. بسِعَتِه وضيقِه

.. ولكن .. ليس بذاك القدر الذي يودي بي إلى التهلكة على كل حال.

حَسَمتُ أمري، وحَزَمتُ حقيبتي، وغادرتُ إلى صنعاء ..

كان لي فيها أصحابٌ ساعدوا بتقديمهم عنوان الشيخ (محمد شجمان الشريف) في حصون آل جلال – عرش بلقيس – الحدبة .. قرب مأرب ..

أخذتُ العنوانَ بدقَّة حتى لا تنتابَني الخشية إن عدَلْت .. واستقليتُ حافلةٍ تتجه إلى مأرب ..

كان مسيرنا في التاسعة صباحاً .. ذلك حتى تتسنى لي فرصة العودة في نفس اليوم إن لم ألتقِ بمضيفي .. وحتى أصل خلال الدوام الرسمي .. لأتمكن من متابعة إجراءات النقل في المجمع الحكومي بمأرب قبل انصراف الموظفين
غادرنا صنعاء في كتلٍ من الجبال، وطريقٍ ملتفَّةٍ كالأفعوان، منحدرةٍ باتجاه الشرق إلى حيث انتقلنا فجأةً من جبالٍ وصعودٍ وهبوط .. نحو سهلٍ واسعٍ يمتلئُ صفرةً كأنها أمواج بحرٍ هائلٍ من الرمال ..
كنا على أطراف الربع الخالي .. بالفعل. ويا له من ذهولٍ انتابني لهذا المنظر الذي يجعل الخيال ينطلقُ في رحابٍ لا تحُدُّها آفاق، وفي مجاهل لا يُدرَك لها قرار.
وصلنا مأرب بعد مسيرة ساعتين على وجه التقريب ..
غادرنا الحافلة، إلى .. بلدةٍ كأنها بقايا التايتنك في سكون أمواج الأطلسي في تلك الليلة المشؤومة من عام 1912، في جوٍّ تسطع فيه شمس الصحراء كوهجِ جهنم يوم القيامة .. حتى ليقشعرُّ جسَدُك مما ينتابك من روعة الصمت .. صمتٌ يغتال صوت محرك الحافلة بأسرعِ مما تتوقع.

حتى أولئك الذين كانوا برفقتي .. تلاشوا في هنيهاتٍ دون أن يتركوا لي فرصة اللحاق بأحدهم أو الاستعانة به
انفض من حولي كل من كان يركب الحافلة معي ..
ووجدت نفسي وحيداً في مساحاتٍ خالية إلا من بويتاتَ هناوهناك ومبنىً محاطٍ بسور .. كأنما هو قلعةٌ من قلاعِ سبأ أو حمير .. امتدت إليه ايدُ الترميم فعَمُرَ بنيانها من جديد ..

لم أعد أجد أحداً حولي لأسأله .. فما كان مني إلا أن سرتُ باتجاه ذاك المبنى الذي إن توقع أحدٌ أن يجد أنساً، فلنيجده إلا في أطرافه.

وصلت إلى بوابة كبيرة عالية مفتوحة .. ولجتُ بحذر .. كمن يستجدي صوتَ حارسٍ ليمنعه من الدخول .. ولكن لا أحد

خلت الساحة أمام المبنى الداخلي .. إلا من بضع سيارات (جيب ولاند كروزر) .. تلك الأنواع التي لايجدي مع الصحراء غيرها ..
كانت خطواتي مرتبكة .. ومسيري متعثر .. ولم أكن أكثرَ تردداً في حياتي من ذاك التردد الذي تقمصَّني من مفرقي حتى أخمص قدميَّ في تلكالساعة الرمضاءَ من وضَحِ النهار
وما كان الصمتُ يوماً أكثر رهبةً لدي من تلك اللحظات .. التي تمنيت فيها أن أسمع , لو نعيق غرابٍ أو صليل أفعى ..

ارتقيت الدرج إلى البوابة الداخلية للمبنى ..
كان مبنىً يتألف من ثلاث طبقات .. وينفرجُ إلى جناحين يمنةً ويسرة .. ومما بعث شيئاً من الطمأنينة في نفسي أني قرأت في لوحةٍ صغيرة ملقاةٍ إلى طرف البوابة (المجمع الحكومي بلواء مأرب)، فقلت في نفسي: هذه ضالَّتي.

يَمَّنتُ في الطابق الأول حتى آخر الممر .. فمررت بغرفٍ مفتوحة .. تُشعِرُك موجوداتُها أن أحداً كان يشغَلُها قبل قليل من الدقائق لاأكثر لكن .. لا أحد.

كنتُ أنتبهُ إلى مروحةٍ كهربائية ما تزالُ تدور في إحدى الغُرَف.
وفي غرفةٍ أخرى .. ملابس ملقاةٌ على مسند كرسيٍّ يوحي منظرُها أن صاحِبها على وشك الرجوع ..

والصمتُ .. يقطعُ أنفاسي التي ما عدت أسمع غير زفيرها وشهيقها .. ووقع خطواتي التي امتلأت فزعاً وتحسُّب.

وصلت إلى آخر الممر .. فوجدت قطعةً أثرية بحجم تاج عمودٍ من أعمدة أفاميا .. نُقِشَ عليها نحتٌ لرأس رجل .. كأنه من ملوك حمير

كان مشهد التمثال قد وقع في نفسي موقع من يقف في حضرة ملكٍ حقيقي .. فتسمَّرتُ أمامه في خشوعٍ وانصياع .. كمن ينتظر أمراً ليُنفذه ..

وما أصعب لحظةَ سحب نفسي من حضرة ذلك الوهم الذي أحاطني .. فاستدرت خلفاً .. وظني .. بل يقيني أنني سأسمع صوتَ نداءٍ بوجوب العودة.
لكن الصمت كان أقوى من أيِّ نداء ..
في تلك اللحظة .. صمَّ مسمعي صوتُ دبُّورٍ أحمر دخل مسرعاً هرباً من حرِّ الصحراء إلى فضاء ذلك الممر الطويل .. فشعرتُ من خلاله أنني عدت قليلاً إلى عالم المحسوسات .. بعد أن أسرني عالمُ الأشباح والطيوف الغريبة.
بعد ذلك .. دخلت في الميسرة .. فكانت ذاتُ الأجواءِ تتكرر أمام ناظري ..
صمتُ و(أنسٌ) كأنه عيونُ الجان، وغرفٌ مفتوحةٌ .. ولا أحد
صعدت الطابق الثاني .. يمَّنتُ ويسَّرت ..
الثالث .. كذلك ..
هنا أيقنتُ أن المبنى قد سكنته الأشباح .. وباتت خطواتي تهرولُ هبوطاً على ذلك الدرج الواسع الذي يتمطى بين جناحي المبنى.
لم أصدق أنني وصلت الطابق الأرضي .. وأنَّ ساحة الفناء قد لاحت لي من البوابة .. فوجهي كان لحظتها يمتقع رعباً وقشعريرة ..
في تلك اللحظة التي بحثتُ فيها عن الانفراج .. وفي آخر درجات المبنى خروجاً إلى الفناء .. كانت المفاجئة ..

مفاجأةٌ طوحتني بين مزيدٍ من الرعب .. وقليلٍ من الصعداء.
فقد كان ما رأيتُ لا يحل اللغزَّ، بقدرِ ما يربِكُ العقل .. ويبعثرُ الأفكار.

عشراتٌ من الرجال يصعدون درج القبو إلى مكاتبهم في المبنى
عندها تصنَّعتُ الرزانة والهدوء .. بعد أن أيقنتُ أنهم من الأنس .. فكان سؤالي: أين كنتم؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
أجابني بعضهم: .. في المسجد .. نصلّي الظهر

نبيلة مهدي
24-12-2010, 02:57 AM
يااااااااااه أخذتني القصة للبعيد..
لكن النهاية جعلتني أستفيق ...
سلمت يمناك أستاذي القدير
الدكتور طاهر سماق..

كل الاحترام و التقدير

سالم الوشاحي
25-12-2010, 08:36 AM
أخي الدكتور طاهر سماق

السلام عيكم ورحمة الله وبركاته

قصه جميله وسرد رائع

أستمعت بقراءة هذه القصه

لاهنت أستاذي ننتظر جديدك