المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : انتحار على الفيس بوك


مريم
06-06-2011, 10:19 PM
في الغرفة الباردة كانت تسنُد وجنتيها بكفيها ،الكسل يغشى ملامحها ،الستائر الثقيلة تحجب الضوء وتثير رغبة مندسة لحزن قادم ، انتهت من التهامِ لوح الشوكولاتة الثالث ،استفزها المستطيل المتربع على عرش صفحة الفيس بوك (ماذا يخطر ببالك الآن؟)وجدت أناملها تهجم على لوحة التحكم وتكتب (الانتحار ) ، توالت ردود الأصدقاء ، كسجادة زرقاء مُدّت على عجل ، ورد المنى : (إنت مجنونة؟! ) ،فتى الأحزان: ( وجه عابس )، ليلى محمد : (ليه) أحمد محمد : (وأنا كمان )، استلقت على ظهرها ، بدا لها السقف أقل ارتفاعاً مما عهدته ، الهاتف حديث الموديل مختبئ بين علب المنبهات الفارغة ، يشبه مقبرة مهجورة ، تنهدت ، ما الفائدة منك ؟ وكأن رقمك محظور ، منذ متى لم أسمع لك صوت؟ باغتتها إيقونات الدردشة تصطفُ تباعاً على الشاشة ، ريم الفلا : (فينك يا مجنونة ؟) ، smart boy : (وجه حزين )، أشاحت بوجهها عن الشاشة ، شعرت بقهقهة الشيطان تصُمّ أذنيها.
تراكضت أحداث الذاكرة السوداء مهرولة تبعثُ إليها رغبة ملحة في البكاء ، تذكرت طفولتها الناقصة ، مراهقتها المكبلة وقصة حٌبْ في الجامعة مبتورة الأطراف ، متماهية الألوان ، ثم سقط عليها مشهدها الأخير هذا وحيدة وحزينة وتائهة في غرفة باردة ليزيد من وحشتها وليبلغ بوجعها إلى التمام، انتشلت جسدها المتقاعس من السرير ،رتبت بحركات سريعة خصل شعرها المتدليه على جبهتها ، وكأنّ يداً خفية تقودها؛ وجدت نفسها تفتح الخزانة وتخرجُ علبة مضاد حيوي ، كاملة العدد ، راحة تعيدُ حساب حباتها من جديد ، لتتأكد بأنها كاملة اثنتا عشرة حبة ،حاولت أن تتخيل الوجوه كيف ستبدو بعدما تبصرها جثة مسجاة على السرير ؟ شعرت بلذة التشفّي ، ابتسمت إبتسامة بائسة ، صوتُ بداخلها حثها على الإتجاه قدماً نحو ما عزمت عليه ( يستحقون أن أرحل عنهم للأبد ؟ ) هم لا يهتمونَ أصلاً بشئ ، منذُ تخرجي من الجامعة وإلى الآن لم يفكر أحد بوحدتي القاتلة ، لم يفكروا بمساعدتي على إيجاد عمل ، منذُ يومين لم أخرج ولم يفتقدني أحد على وجبة الغداء أو العشاء ،تنهدت يحسبون أني سعيدة ، لا يعلمون ما يعني أن تنام فتاة في زهرة شبابها في اليوم ما يزيد عن العشر ساعات ، كان شبحُ الإكتئاب متسمراً يزيد من حطب النار التي بدأت في الإشتعال داخل الغرفة ، نار الكآبة والألم ، نار الشعور بأن وجودك وعدمك واحد ، على الشاشة كانت إشارات لوصول تسع رسائل ولتعليق خمسة وعشرون شخصاً تناديها ، فكرت بالخروج لاحضار كأس ماء ، لكنها وجدت يديها تمتدّ لعلبة عصير كانت محشورة بين المجلات والأجهزة الإلكترونية ، تناولت العلبة وراحت تبلع الكبسولات بسرعة ، وعينيها تدمعان وثمة خوف يكبل مشاعرها ، أكانت دموعها حزناً خوفاً أم فرحاً لأن أفق الخلاص قد لاح ؟! أرعبها المشهد ، (علبة العصير فارغة وست فراغات ترسم الرعب في أوصالها وهي تركز بصرها على علبة المضاد الحيوي )، شعرت بريقها مرّ ، ترغب بالتقيؤ ، ست حبات تبعثُ على الغثيان ، تركت العلبة ، وبدت لها صفحة الفيس بوك مشوشة ، ورأسها ثقيل ، وصوتاً غامضا بل أصوات تعلو ثم تغيب ، رمت يديها على لوحة التحكم ، وعلى المستطيل اجابت هذه المرة ( الموت)، هل قررت يا ترى بأن لا تكمل العلبة ، لأنها تخشى الموتَ فعلاً ؟ لأن فكرة الموت تخيفها ، اكتفت بست حبات ؟! ،تسارعت ردود الأصدقاء مرة أخرى ، بعض أيقونات الدردشة انغلقت وبعضها مالت نقطتها إلى الأبيض وثمة أيقونات ورسائل جاءت تباعاً ، شعرت بجسدها يتخدر ، حاولت تقصي الحبات ، أترها وصلت بها إلى العالم الآخر أم ما زالت هنا ؟ تعالت فجأة نغمة الهاتف ، وميض الشاشة والموسيقى ، مزق سكون الغرفة ، لم تهتم في البداية للأمر ، ولكن عندما استمر الرنين لفترة مدت يدها ، قربت الهاتف من عينيها ، عقدت حاجبيها ( أبي يتصل ) ، ابتسمت بتشفى ودمعت عينيها ، ثمة حديث حزين يسترسل في أعماقها ( راحلة عنكم للأبد ) ، دخل والدها الغرفة والغضب يتطاير من عينيه : هيه إنت لماذا لا تردي على الهاتف ؟ بقيت منكمشة تحت الغطاء وجسدها متخدر ، لمح والدها علبة المضاد الحيوي الذي تركته قريبا من السرير ، متعمدة ، نفض جسدها بعنف ، وصرخ في وجهها ، ما هذا ؟ يا مجنونه ماذا فعلت ؟ بكت بحرقة عندما تذكرت الحديث النبوي الذي درسته في المرحلة الإعدادية ، عن جزآء المنتحر ، في أعماقها تصاعد صوت باكي ( يا رب ، لا تدخلني النار ، أنت تركتني لوحدي) ، رمى والدها في وجهها ملابس الخروج وطلب منها أن تَنزل بأقصى سرعة ليصطحبها إلى المستشفى ، بعد فترة لا تعلم كيف -حدث ذلك- وجدت نفسها أمام المستشفى ، كان جوء السيارة يبعث على الريبة ، هي تحاول ترتيب مشاهد جنازتها القادمة وفكرة واحدة حاولت إقصائها عن مخيلتها ( كيف ستقابل الله ؟ كيف ستبرر فعلتها أمامه ؟) تأفف والدها ونفخ أنفاسه بعنف ، شتمها صارخاً في وجهها : أتريدي أن تفضحينا ماذا سنقول لطبيب الآن ؟ إنكِ مجنونة ؟ ! أم إنك انتحرت ؟! ، عاود شتمها وهو يتذكر أنّ جارهم عادل يعمل ممرضاً في المستشفى ، واسترسل في غضبه : ستفضحينا ربي ينتقم منك ، ماذا سيقولون : لن يبرر شئ فعلتكِ ، ما الذي يجعل فتاة في مثل عمرك تفعل هذا إلا إن أحدهم ضحك عليها ، سقطت الكلمات الأخيرة على مسمعيها ثقيلة ، وهتف قلبها (لا يرب ، لا أريد أن ينسج لي الآخرين قصة قذرة كهذه) ، رجع الأب بالسيارة إلى الوراء ووقف على الرصيف ، اتصل بأكثر من مستشفى ليستفسر عن الأمر والخجل يقرض وجهه ، كانت الإجابات متشابه ، يجب( إحضارها إلى المستشفى لعمل الإجراءات اللازمة وأولها تسجيل محضر لدى الشرطة ؟! ) ، رمى الأب بظهره إلى ظهر مقعد السيارة وتنهد ، شاتماً لاعناً إبنته ( ستدخليننا في سين وجيم وشرطة ، ستسقطين سمعتنا إلى الحضيض ) ثم أشار إليها بيديه المرتجفتين ،( لن يقبل بعد اليوم أحد أن يتزوج من أخواتك ، ولن يزوج أحد أخوتك ، كيف سأقابل الناس ؟ يا رب) ، آخر مكالمة مع طبيب مقيم يعمل في مستشفى خاص ، كانت الحاسمة ،( إذا لم يحدث للفتاة شئ لمدة ثماني ساعات ؛ فلن يحدث شئ لها وستكون بخير ،و خلال الساعات القادمة عليكم فقط ملاحظتها في حالة حدوث أي تغير ، يجب الإسراع إلى أقرب مستشفى ) ، عادوا للبيت الذي إزدحم فيه الصغار ، والأقارب ، يبدو أن اليوم الخميس والعائلة مجتمعة ، صعدت تجر خوفها إلى غرفتها ، وسفّ الأب وجبة الغداء مع الجميع ممتنعاً عن الإجابة عن إي سؤال ، وبين كل لحضة وأخرى كان يرسل الأم التي -عرفت بالأمر-؛ لترقب حالة ابنتها ، أما الفتاة فقد أغلقت شاشة الحاسب الآلي ، وإنكمشت على نفسها ترقب ، تائه ، ولا تعلم ما كنه القادم ، الأم بدت كالمجنونة وهي تبكي حيناً وتتوعد ابنتها حيناً آخر ، مرت الساعات ،الساعة تلو الأخرى والثلاثة فقط من يلفهم الخوف ، بعد أن قرر الأب أن الأمر يجب أن يبقى سراً ، أربع ساعات متبقية ولا جديد ، خمس ساعات ولم يتغير شئ ، هل كانت خائفة من أن لا يَصدُق كلام الطبيب وتنام بسلام بعد الساعة الثامنة ولا تصحى ؟ هل هذا الألم الذي يغزو بطنها ألم تفاعل المضاد الحيوي ؟ أم ألم الخوف وحسب. بعد خمسة عشر ساعة ، وجدت نفسها ترتجف من البرد ، فتحت صنبور الماء الساخن على رأسها ، وتركته ينهمر فوق كل شئ ، ملابسها ، روحها ، وأحزانها ، مغمضة العينين أمام الله ، وقلبها يهتف ( يا رب لمَ اختبرتني ؟كم أشعر بالخجل الآن أمام رحمتك ) ، كم مر من السنوات ؟ وهي على سجادة الصلاة تقف ويديها إلى السماء ، يطوقها الحياء ، ترجو العفو والمغفرة، أمام صفحة الفيس بوك المتوهجة ، تسترسل إليها الأحداث السابقة طازجة ، على المستطيل اعلاه في الصفحة كتبت ( اللهم أعوذُ بكَ من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ).

سالم الوشاحي
06-06-2011, 10:33 PM
الأخت الفاضله مريم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قصة جميله وسرد رائع جداً

لقد عجبتني القصة لما لها من واقع ملموس

في حيلتنا اليوميه ...

أخيّه الف شكر لهذه القصة ,,,

nana
07-06-2011, 12:03 PM
فصة رائعة جدا

جريحة الاحساس
07-06-2011, 12:54 PM
قصة جميلة اختي

تقبلي مروري المتواضع

عبدالله العمري
07-06-2011, 08:16 PM
بل سيعيش هذا النص في ذاكرة المبدعين

حتى لو طالت الأيام والسنين

وستجدين نفسك دائما

حين تكتبين تبدعين..


شكرا لهذه القامة

فاطمه القمشوعيه
08-06-2011, 08:33 AM
مريم

سرد جميل يجعل القاريء يعيش النص وكأنه هو الفاعل ..
فالواقع صورة حية تمضي مع السطور ..

فقط سأردد معك ..
( اللهم أعوذُ بكَ من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ).
( اللهم أعوذُ بكَ من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ).
( اللهم أعوذُ بكَ من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ).


حفظك الرب