المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عن زهرة والصغيرة التي كانت تعرفُ زهرة


مريم
28-06-2011, 12:29 AM
إلى زهرة حيثُ في رحابِ السماوات تعانقُ صلواتنا
رسالة سماويَّة ثانية ، هل أدمنتُ مراسلةَ السماويونَ إذن ؟!
جزء من ذاكرة ساذجة

كان يوماً غائماً والمنازل مزدانةُ بمصابيحِ النيون الملونة ورائحةُ الحنّاء تعبقُ في الأزقةِ وأصوات الزغاريد تستفزُ الأرواح لرقص دونما سبب أو لربما لأسباب لم تأخذُ من التبرير كفايتها ! كان كلُ شئ يوشي بفرحِ قادم لا يليقُ بالحارةِ القابعة خلفَ السورِ الممتدَّ بجبروت أساطيرهِ مستأسداً على حماقاتِ الزمن وعبثِ البشر ، تلكَ الأساطير التي قررتُ أن لا أكبرَ وأظلُ أؤمنُ بها وأسندُ على سذاجاتها تعب الأيام وضجر العُمر الذي لم ينضجُ بعد ! ... ( جنودُ أبو زيد الهلالي هي من بنت السور في ظرف ليلة واحدة وربما في طرفة عين ) !
كانت عيونُ الصغيرات تندسُ خلفَ الستائر ، خلفَ النوافذ وخلفَ كلِ فسحة محاولة استراق أخبارِ العرائسِ الأربع اللواتي كُنَّ يومها أيقونتنا المقدسة ، وكانت من بين الصغيرات الصغيرة التي يستوطنُ رأسها جنيُّ طيَّب عرفت مؤخراً بأنهُ ليس كأي نوعِ من الجن ؛ فلا يمكنُ لتمتمات المشعوذين ولا حتى للعصا وإن كانت مُحناةِ أن تُخرجهُ من دماغِها القابع داخل ما لا تستطيعُ هي جسهُ من الأعماق ، تحشُرُ الصغيرات أجسادهنَّ حيثُ تأمرهنَّ الفتاة الأكبر منهنَّ ربما بعامين أو أكثر كأيِ قائدِ حق على شعبهِ إطاعته والتسليم لأوامرهِ ، و كانت الصغيرة تلمح طيف الجنيَّ بعمامتهِ ولحيتهِ البيضاء المسترسلة إلى الأرض يرتلُ حكاياتهِ للحالمين بعالمِ ملائكي .
الصغيرات يتبعن خطوات الفتاة الأكبر منهنَّ كصغار البطة في مجموعةِ تجعل شغلها الشاغل البحث عن ألعاب جديدة تسفك بها دم الوقت الطويل .

هل أمطرت السماء يومها ؟!
أم بكت ؟!

سار الخبر كالنار في الهشيم ، زهرة عروس خامسة لليلتنا !
تعجب الجنيَّ ، لماذا تعتبر الصغيرة زهرة عروس خامسة وهي خارج حدود هذه الحارة ، لم يسألها وعرف بعد ذلك بأن سكان الأرواح تمتدَّ سماؤهم لما بعد هذه الحارة وما بعد هذا العالم السُفلي ؟!

كانت الشمس تطبخُ الأدمغة برتابةِ مقيتة على طابور الصباح الذي منذُ أن تأسست المدرسة يسوفُ وعد وضع مظلة على مربعهِ الكبير بعض الشئ في عيون الصغيرة .
كانت الصغيرة تقف بتململ بفستان المدرسة الحليبي وربطة الظهر الشوكولاه بينما زهرة تقف في الصف المقابل بمريوها الأزرق كحلم لا يريد أن يقترب وشاء الرب أن لا يقترب أبداً .
وبعد الأسبوع الأول من العالم الدراسي وجدت الصغيرة لسانها يخرج كل بضع دقائق ليلعق شفتيها ، كانت تعقد حاجبيها لتحجب الشمس عن عينيها ، ولكنها أبداً ما استطاعت أن تطول أكثر وأكثر لتصبح بقامة زهرة !
وصباح السبت من الأسبوع الثاني قررت الصغيرة أن لا تردد مدرسة صفا ، انتباه حرّة ، حاولت أن تجد معنى لهذه الصيحات ولم تجد ... إذا كانت المدرسة صفا لأن الطلاب يصطفون فلماذا نردد بعد انتباه حرة ، هل المدرسة أم عُمان الحرة هنا ؟!
هل كانت زهرة تردد السلام السلطاني أم مثل الصغيرة الشقيّة تُتمتم بحكاياتها عوضاً عن ذلك ؟
مرت ذات يوم أبله أنسام والعصا بيدها كان يبدو طويلاً أكثر من المُعتاد ، حاولت الصغيرة مقاومة الخوف من ضربات العصا ، صمدت ولم تردد أهازيج السلام السلطاني الذي كان على وشك الانتهاء ، أبله أنسام تقتربت ... هل رأتها ؟ ... تصمد الصغيرة وتلتفت أبله أنسام إلى الصف المجاور وتشير لزهرة !
عرفت الصغيرة بعدها بأن برنامج الإذاعة المدرسية بطريقة ما لم يعد له وعلى زهرة معالجة المشكل وإسعاف المنصة ، تناست الصغيرة الشمس التي ما انفكت تلفح الوجوه بلهيبها ... زهرة على المنصة الآن وكان عليها هي أن تصغي جيداً .

في ذلك اليوم - إن كان لسماويون ذاكرة - ستذكرين يا زهرة برنامج الإذاعة المدرسية الذي قدمتِ فيه وطالبة أخرى مناظرة بين مؤيد ومعارض لدخول أمريكا للعراق ... كُنتِ تؤمنين بأن صدام مشكل ولكنَّ أمريكا سوف تكون المشكل الأعظم ... بالمناسبة دخلت أمريكا وانتصرت وانتصر صدام كذلك وخسر الشعب كالمعتاد وكم هو عجيبُ تأريخنا العربي ومفاجئ .. .فلقد صُيّر صدام شهيداً !
آه تلكَ قصة طويلة ربما سأحكيها لكِي في ثرثرةِ أخرى ، ربما السماويون يشاركوننا ذات الأوجاع بأرواحهم ، هل فتحتِ باباً لجراح العراق ... سيخذلكِ الأمل ، غدونا نحملُ على أكتافنا ألفّ عراق ، ألف فلسطين ... ثمة قاعدة عربية حفظناها ( الجروح لا تلتئم بل توَّلدُ جراحاً لا نهاية لها !؟ )
( لا علينا ... إحنا الشعب ) .


حسناً عندما سمعت الصغيرة بخبرِ زفاف زهرة أبصرت من على نافذة العليَّة وربما أبصرَّ الجنيَّ الطيّب ذلك وحسب ، الرجال يزفون زهرة بلا نساء وبلا دفوف نحو الفرجانيه (اسم مقبرة ) ... تلك البقعة التي ما زالت تكتظ على أسوارها الكثير والكثير من الحكايات التي ربما ذات يوم سيفكُ أسرها ويريقُ قلم مجنون أسرارها .


لم تبكي يومها الصغيرة... الصغار لا يجيدون البكاء بصمت ، لعبتهم الصراخ وحسب ولكنَّ الغصة التي تخنقُ العبرات سمة مشتركة بين البشر صغاراً كانوا أم كِباراً والعهدة على ذاكرة الصغيرة في ذلك اليوم المشئوم .

صوتُ إنشاد زهرة :
أن تدخلني ربي الجنة * هذا أقصى ما أتمنى
يعلو في أذنيّ الصغيرة ويكبر السؤال ... إلى أي مدى يصلُ صوتنا لرب ؟!

كان عزاؤكِ خاطفاً ومُبهجاً ؟!
الأكف المخضبة بالحنّاء تصافح بصمت ، أم صامدة بعيون جافة وأخوات يتقبلنّ التعازي ويؤنبنّ من يستهويه البكاء !
حاولت الصغيرة مقاومة الرغبة الدفينة لرؤية فطوم تلك الليلة ... ألم تقل فطوم بأنها سوف ترتدي فستان أبيض تماماً كأختها العروس ؟

بصمت جرّت الصغيرات أقدامهنَّ نحو بيت فطوم بعد حديثِ طويل ومغالطات كثيرة ثرثرتها الصغيرات حول أسباب وفاة زهرة ، لم تسمع الصغيرة منها شئ حيثُ كانت شاردة بكلها... تتوجسُ يمينها التي ما زلت حتى بعد الثمانية أعوام ساخنة إثر مصافحة خاطفة لزهرة ... تستطيعُ جسَّ أصابع زهرة تحتضن كفها ... ذات مرة التقت الصغيرة بزهرة ، لم تكن بينهن معرفة ولكن ربما تشابه طفيف أوشى بصلة قرابة بعيدة جعل زهرة تبتسم وتصافح الصغيرة ... كانت عيوننا تحملُ الكثير من الوعود بأننا ذات يوم سنقترب وسنشترك في أشياء كثيرة ... هذا الأمر الوحيد الذي لم أستعجلُ فيه وهو الأمر الوحيد كذلك الذي كرهتُ فيه غياب عجلتي المعتادة !

عبق العطور المتطايرة من أجساد النساء يصارع البخور المتصاعدة من زوايا المنزل ، الأجساد تتمايل مع نغمات الغناء ، كل شئ يستفز الفرح الذي حزم أمتعته وغادر مبكراً من مُدن الصغيرة ... حيثُ لا مكان للفرحِ في حضرة الحزن الذي فتحنا له الأبواب ، النوافذ والأرواح ليستبيح ما شاء من أغوارنا ، مستلذين بوجعه ... هكذا هو الوجع لذيذ عندما يدفعُ لمن أحببناهم بصدق .

كل ذلكَ الهرج والمرج لم يلفتُ انتباه الصغيرة التي كانت هنالك بينهم ولم تكن ، فجأة همست الصغيرة لصديقة تفتح عينيها بكل اتساعهما لاختزال مشهدية الفرح ؛ فلربما تحتاجُ لترتيلهِ للآخرين ذات يوم (أعلمُ لماذا أختار الله زهرة ) ، التفتت الصديقة كقطة متململة من قطع غفوتها ... أكملت الصغيرة : ( لأن الله يحبها ... اختار أن يأخذُها إلى جانبه باكراً ) ... ربما الصديقة لم تسمع ، ربما الصغيرة لم تنطق وربما فقط ناجت بذلك الجنيّ الطيّب ! ... (ربما) تكبرُ الآن ربما تستفزُ ذاكرتي ، أحاول جسَّ حقيقتها ، أحاول العودة للخلف لأبصر الحقيقة التي تهمني ، أشعر بالدوار ربما تعالت في تلك الليلة أصوات الغناء و غطت على كلِ شئ أصواتنا ، صورنا ولكنها حتماً لم تغطي أوجاعنا .
خارجة من بيت أبوها
رايحه بيت الجيران
لابسه الأبيض على الأحمر
والعين تدمع سلام
الجميع رقص أذكرُ هذا ... لن تخدعني الصديقات عندما أحكي لهنَّ ، لن يتفقن على تلفيق مقلبِ آخر لي ويتهمنني بالجنون أو الخيال الشاطح ، سأكتبُ هذا على كراستي ، (ذلك لم يكن حلم ولم يكن من حكايات الجنيّ الطيّب وليس هلوسة خيال شاطح ، ذلك ذاكرة نقية وأكيدة وحسب ) ، وسأضع تنويه أسفل النص أعلاه وبين هلالين سأُسجل ثمة رسائل وصلت لبعض صديقات زهرة أوصت بذلك !

عام دراسي جديد ، وحلم يفتحُ عينيه وقلبه وكله ... مريول أزرق تماماً وأخيراً كمريولِ زهرة بدون ربطة الظهر الشوكولاه ، لا يشبهُ سوى مريول زهرة الطويل بجيوبهِ الأمامية ... من حسن الطالع بأنهُ لا يحمل اللون الغبي لملابس طالبات الصف السادس ... العنابية اللون ... هل ستضحكين يا زهرة الآن ؟ السماويوَّن يضحكون كثيراً في الغالب خاصة إن كانوا أتقياء ...لا أعلم من أخبرني بهذا ؟ هنالك الكثيرون من الذين لا يتوقفون عن إخبارنا فنحن كصغار نحتاجُ إلى الكثير لنعرف ؛ لذا قررتُ أن لا أشغل مساحات الذاكرة بحفظ أسمائهم ... حسناً لتضحكي ولتضحكي كثيراً إلى اليوم وما زلتُ أحقد وبحق على ذلك اللون الغبي الذي أصبح هكذا دونما مبرر لوناً ملائماً لملابس طالبات الصف السادس ومن ثم انتقل الأمر لملابس المرحلة الابتدائية كاملة ؟!

كان ذلك العام مُختلفاً ...
لم ننتظر خارج بوابة المدرسة لننطلق كخرفان عمياء حالما تُفتح البوابة في مساءً بل ولأولِ مرة نبدأ دوام المدرسة صباحاً كبنات الثانوية ... هل داعبنا يومها شعوراً بأننا أصبحنا أكبر ولو قليلاً ؟!

الحقيبة ذات العجلات برسوماتها الملونة ، والمريول الأزرق وغيرها من الأشياء التي تلتصقُ رائحة الجديد فيها لم تبهج الصغيرة ... كان ثمة شئ يفقدُ اللوحة الكبيرة رونقها ... هذا العام لا زهرة فيه ...

لن نعلق اللوحات على جدران قاعة المعرض يوم المعسكر الموافق أقل من يوم من تأريخ تقييم الأنشطة أو تقييم مسابقة النظافة ....

لن تقف زهرة على منصة الإذاعة المدرسية ....
ولا فرصة لعقد صداقة بيننا إذن ؟! ولا إمكانية لأحكي لكي قناعاتي حول تلوث البيئة ، الإرهاب أو حتى زيف دعاة تحرير المرأة....لكنني ثرثرتُ بها طويلاً في أوقاتِ مختلفة وأماكن شتى ؛ فثمة قناعة كبيرة بداخلي ،( لسماويوَّن عيون وآذان تبصرُ وتسمعُ كل شئ ... كل شئ ...)
عندما رُفعَ العلم أغاضة رفرفتهُ الصغيرة كان عليهم أن يبقوه بعيداً عن قمته ... ليشاركنا الحداد .


مرَّ كلُ شئ كما تقتضي سُنَّة الحياة ، فقط ثمةُ نظرة مكسورة وغصة تخنق الأمنيات ونحن نجدُكِ في الممرات ، وبين الصفوف الدراسية وفي قاعة المعارض حيثُ وجدتكِ كثيراً ... أطول مطوية ... أجمل لوحة ... المجسم الفائز بالمركز الأول عن مسابقة .... كُنت أشتهي أن أخطفَ شئ رسمتِ عليه من الأمنيات الطيّبة ما شاء الله لكي في عُمرك القصير مقارنة بأعمارِنا التي طالت ولا رسومات ولا أمنيات على صفحاتِ ذاكرتها ... لكنني قررتُ أن لا أخطفَ شئ ... قررت أن لا أفعل في محاولة يائسة مني لإخمادِ حرائق الذاكرة التي لا تتوقف ... كم أوجعني أن أبصر كلَّ جمالكِ يُرمى إلى خارج قاعة المعرض ؟ ... فلا يصح عرض القديم مهما تجدد في أرواحنا !

تطول الحكايات السماوية دائماً
ربما الأرضيون ثرثارون أكثر من اللازم وبما لأنكِ كُنتِ وما زلتِ زهرة بكل ما في الذاكرة من وجعِ وأمل .
مساء 26-6-2011

كُنتِ زهرةً بكلِ أريجها
أحببتِ الحياة
مثلما أحببناكِ نحن
ولكنكِ أحببتِ الفراشات
أكثر من كل لحن
آمنتِ بالنشيد
وأدمنتِ تلاوتهُ
وأمنا ببعدكِ
فاحتفظنا بصورتكِ
صورتكِ إلى جوارِ أبي وجدتي
وأنتي ابنة أثنى عشر ربيعاً
كم حلمِ أهديتنا ؟
وكم لحنِ أنشدتنا ؟
وكم ابتسامة...
لم تكمليها !
كُنّا نعلمُ مدى حُبكِ للفراشات
وما لم نكن نعلمهُ
أن تفكري بالهجرة باكراً معها !
رحلتِ ولم ترحلي
زهرة
أنتِ ذا عطرِ فواح
مهما غدر به الزمان
فسيظلُ فوّاح.
مساء 19-6-2007م

رحل الراحلون تِباعاً
وبقينا وهواجسنا
أجداث خاوية
يواري إبليس خطايانا
تحت ستائرنا الطينية
لننسى الراحلين
وعواصف ذكرياتهم
ونبقى على الدوام
سطور خالية
لا نملكُ زورقاً يكفي
لنبحر إلى الذين غادرونا
منذُ زمن
ونسو أقلاهم
على صدور دفاترنا
تلونُ حروفنا بالهواجس
وتسكننا مُدن الزرقة
.27-1-2009

بعد ثمانية أعوام وربما أكثر ها قد نجحتُ أخيراً في الكتابة لزهرة ... فهل سأنجحُ يوماً في الكتابة إلى سماويّ آخر ؟!

سالم الوشاحي
28-06-2011, 05:05 AM
الأخت الفاضله مريم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قصة جميله وسرد رائع

وتصوير راقي تخلله بعض المشاهد

الحزينة ...

ملاحظة:ـ

سيتم نقل الموضوع إلى قسم القصة القصيرة