المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أسد مجان


بيت حميد
04-07-2011, 11:30 AM
الزمان : القرن الثالث الميلادي (200م-300م)
المكان: مجان(صحار وما جاورها)
الظروف:مدينة عامرة وحضارة قائمة، صلات تجارية وثقافية بالحضارات المجاورة(الساسانية-الرافدين-السند)

ليلة موت الشيخ المجوسي كانت ليلة فارقة في حياتي، أذكر أني جلست خارج السور بينما أبنته وخادمه عند جثمانه في ساحة البيت، كانا يتلوان عليه الصلوات أمام النار التي كان دوماً يحرص على إبقائها مشتعلة في وسط الساحة، لا أستطيع أن أصف شعوري حينها بالحزن، بل شعرت حينها أني فقدت السيطرة تماماً على دفة أفكاري، لقد هاج بي بحر الذكريات وتلاطمت أمواجه بعد أن كان ساكناً لفترة طويلة ، كل موجة تأتي أكبر عن التي سبقتها، جلست متكئاً على الجدار وأغمضت عيني أستمع لصوت النار وهمهمات الصلاة التي يتخللها نحيب الابنة، تخيلت نفسي جثة هائمة تطفو في البحر، لا تأبه للأمواج ولا للعواصف، كنت أجد في هذه الصورة بعض الراحة، ربما لأني فعلاً كنت كذلك.


بين ساعات التفكير كنت أقف وأنظر إليهما من فوق الجدار لأعرف إن كانا قد فرغا من الصلاة عليه، كان أول شخص أعرفه يموت أمامي ميتة طبيعية، تذكرت أول يوم لقيته فيه، كان ذلك قبل خمس سنين، كنت قد أصبت بالجنون تلك الليلة ، تلك الليلة التي توقد ذكراها في صدري فرناً أشد من فرن إذابة النحاس الذي عملت عليه.


كنت هارباً من نفسي الآثمة التي كرهتها ، تمنيت ليلتها لو هاجمتني وحوش الجبال ونهشت وجهي وبقرت بطني وتقاسمت أطرافي، كنت سأستسلم لها دون مقاومة، أذكر أني ألقيت سلاحي لكي لا تهابني الوحوش، ركضت بكل قوتي في الظلام علّي أتردى في أحد الأودية السحيقة ، عندما تنقطع أنفاسي أقع على وجهي ثم ما يلبث جنوني أن يستعر مرة أخرى بفعل صرخات تلك الطفلة التي أبت أن تنقطع عن سمعي فأقوم مرّة أخرى، في الصباح وجدني الشيخ مغمىً علي بالقرب من منجمه فأمر العمال بحملي إلى بيته في الأعلى.


أفقت وهم يصعدون بي نحو البيت على قمة الجبل، وضعوني على بغلة وأمسك بي أحدهم عند رأسي وآخر عند قدمي وثالث كان يقود البغلة، فوق القمة المستوية أدخلوني من بوابة سور حجري واسع، تعاون الثلاثة لإنزالي عن البغلة وحملي إلى غرفة مبنية من سعف النخيل تقع بعد البوابة مباشرة، لم يكن حملي سهلاً عليهم بسبب بنيتي الضخمة.


خرجوا عني ودخلت علي ابنة الشيخ وخادمه، كانا يتكلمان بالفارسية التي لم أكن أفهمها، جاءني الخادم بشراب مرّ وحاد الطعم كدت أتقيأ بعد شربه مباشرةً لكني ما لبثت أن غرقت في نوم عميق حتى الليل.


أفقت على حديث الشيخ وابنته بجانبي، وجدتني في ساحة البيت لا في الغرفة التي أدخلوني فيها، كانت السماء الصافية والنجوم تملأ السماء، انتبهت ابنة الشيخ لعيني المفتوحتين فنبهت أباها، تحدث الشيخ بلغة عربية متعاجمة طالباً مني الجلوس فجلست، أعطتني ابنته ماءً فشربت ثم قربت لي صحناً فيه طعام كانا قد أكلا منه وأبقيا لي بعضه، لو كانوا يعلمون من أنا لكان أقل شيء يفعلونه هو تركي في مكاني ولما كلفوا أنفسهم عناء حملي هنا ثم علاجي وإطعامي.


كنت أحس بدوار شديد ومع ذلك أكلت بشراهة لم أعهدها، ربما بسبب الشراب المسكر الذي سقاني إياه الخادم في أول مجيئي، عدت للنوم بعد الأكل ولم أصحو إلا في صباح اليوم التالي، عندما صحوت كان قرص الشمس للتو قد اكتمل طلوعه، أحسست أني وحيد في البيت، الغرفة الحجرية الوحيدة الواقعة في أقصى السور الواسع كان بابها الخشبي مقفلاً، كمية كبيرة من حطب السمر كانت في منتصف الساحة بالقرب من الموقد، تناهت لسمعي أصوات مختلطة قادمة من الأسفل من الجهة الشرقية للسور، قمت لأنظر من فوق السور فرأيت الشيخ وابنته يشرفون على عدد من الرجال الذين يوقدون النار في فرن كبير في مكان مرتفع من سفح الجبل، لم أكن أعرف حينها ما تعلمته لا حقاً أن تلك هي طريقة إذابة النحاس من الأحجار.


مع نظري للأرض المنخفضة في الأسفل شعرت أني في برج عالي يعصمني عن حياتي السابقة بآثامها وظلمها وإرثها الثقيل ، تمنيت أن أبقى هنا وأن لا أعود إلى الأسفل.


راقبت النار وهي تستعر في الفرن والرجال يغذونها بالمزيد من الحطب، بدأ النحاس الأصفر يسيل من ثقوب في جانب الفرن ليصب في أوعية فخارية.


لمحت الخادم وهو يصعد للأعلى ، عدت لمكاني حيث كنت نائماً وجلست، دخل من البوابة ونظر لي نظرة خاطفة وهو مسرع دون أن يكلمني ،دخل غرفة السعف وأخرج منها صحناً كبيراً من الصفر متجهاً إلى القدر الذي كان بقرب الموقد في منتصف الساحة، حولّ ما كان في القدر إلى الصحن إلّا قليل منه وحمله إلى داخل غرفة السعف ثم خرج وأطل من فوق السور وصاح على سيده يخبره أن الطعام جاهز، صعد الجميع إلى البيت، دخل الرجال إلى غرفة السعف وأمرني الشيخ أن أدخل معهم لتناول الطعام، من فتحة الباب رأيت ابنة الشيخ تأخذ ما تبقى في القدر من الطعام لها ولأبيها.


كانت تبدو في عمر بين الخمسين و الستين، حسبتها زوجته حتى علمت بعد ذلك أنها ابنته، جاء الشيخ بعد ذلك يطمأن علي ثم عرض علي العمل معهم مشيراً إلى بنيتي القوية بنبرة مشجعة فقبلت دون أن أسأل عن الأجر، توقعت أن يسألني عن سبب وجودي على تلك الحالة التي وجدوني عليها لكنه لم يفعل، علمت بعدها من حديث العمال أنه يحسبني جئت للبحث عن قطع الفيروز التي تظهر مع أحجار النحاس عند المنجم وسقطت فأغمي علي، صادفت بعد ذلك من يبحث عن تلك الأحجار الزرقاء الجميلة بين بقايا المناجم ثم يبيعها للصاغة اليهود عند الميناء، كما جمعت أنا كمية منها خلال عملي عند الفرن من الصخور التي يأتي بها العمال من المنجم في أسفل الوادي.


كانت أحجار النحاس توضع في الفرن ونضع عليها أحجار بيضاء نجمعها من وادي في الجهة الأخرى من الجبل، تلك الأحجار كما يقول الشيخ كانت هي التي تطلق النحاس الملتصق بالأحجار السوداء في الفرن وتصفيه ليذوب ويخرج من الثقوب الجانبية، عملي في البداية اقتصر على جمع تلك الأحجار البيضاء وتكسير الكبير منها ووضع الكمية المناسبة مع أحجار النحاس.


كنت أعمل بكل بجهدي، وعندما أنجز عملي أساعد في الأعمال الأخرى خصوصاً العناية بتغذية النار في الفرن، رأى مني الشيخ جلداً كبيراً على النار ، لم يعرف أن النار التي كانت في صدري حينها أشد من نار فرنه ولهذا كنت أقوى عن غيري على النار، أوكلني بأمر الفرن وهو العمل الرئيسي في استخراج النحاس، ولم يعد ينزل من بيته إلا مرة أو مرتين في اليوم وبدل ذلك كان يراقب العمل من أعلى.


كنا نحمل النحاس بعد أن يبرد إلى الغرفة الحجرية ، كل شهر أو شهرين كان يمر بنا تجار في قوافل محروسة يشترون النحاس وعندما يذهب الشيخ للمدينة فإنه يحمل شيئاً منه يقايضه بالمؤن، أغلب التجار الذين يأتون للشراء هم من الفرس ونادراً ما يأتي بعض اليهود الصفارين لشراء النحاس من أجل صنع الأواني.


لم أسأله يوماً عن أجري طيلة السنين التي عملتها معه لأني لم أكن أود الخروج من محيط الجبل، بل لم أكن أجرؤ على النظر في اتجاه البحر حيث المدينة خوفاً من هياج البحر الذي بصدري، كان دوماً يقول أني أستطيع أن أطلب منه أجري متى ما أريد وإن مات فإن ابنته تعرف ما يجب أن تدفع لي، لم يعرف أحدهم اسمي الحقيقي فقد اتخذت اسماً جديداً هو " رمثة "، وهو اسم رفيق أبي الذي بقيت في كنفه، كل الرجال الذين كانوا يعملون مع المجوسي كانوا من سكان القرى القريبة التي لم أقترب منه يوماً ولهذا لم أكن أخشى كثيراً أن يتعرف علي أحدهم، في إحدى المرات سمعت أحدهم يذكر قصة أبي التي سمعها من أبيه لبقية الرجال بينما كنا ننتظر النحاس المذاب أن يبرد لننقله للأعلى ، لم أشعر إلا وأنا أتناول الإناء الفخاري المليء بالنحاس الساخن فالتصق جلد أصابعي بالإناء ، أسرعوا نحوي يرشون يدي بالماء ويسألون عمّا دهاني، قلت لهم أني حسبته قد برد .


كنت أخشى موت الشيخ بشدة، سمعته مرات عديدة يوصي ابنته أمامي بأن تبيع كل شيء وتعود لموطنها في البر الفارسي في حال موته، ثم يوصيني بأن أساعدها على ذلك ويظهر عدم ثقته بالخادم الفارسي، كان ذلك يعني بالنسبة لي سقوط هذا البرج الذي أحتمي فيه عن ذاتي السابقة.


كان يتمنى أن تعامل جثته حسب التقاليد المجوسية فتترك في برج عالي لتأكلها الطيور الجارحة لكن لعدم وجود تلك الأبراج أو "الدخمة" كما كان يسميها في مجان فأوصى أن تدفن جثته في صندوق حديدي محكم الإغلاق لكي لا تلوث العناصر المقدسة في المجوسية وهي التراب والماء والنار، كنت قد عرفت هذا عن المجوس من رفيق أبي رمثة الذي تسميت باسمه، كما عرفت منه أن ديانة المجوس هي الزرادشتية وإنما سميت بالمجوسية نسبة إلى قبيلة المجوس الذين اتبعوها أول الأمر.

عمي رمثة، كما كنت أناديه، كان فرداً فريداً بين كل قطاع الطرق الذين لا يخرج اهتمامهم عن موعد ومكان الغارة القادمة، كان على علم دقيق بالنجوم وتقلب الفصول، كان قد لقنني قصيدة طويلة تصف مواقع النجوم وحركتها وتقلب الفصول معها، كما كان يتردد على أصحاب الأديرة من اليهود والنصارى، صحبته غير مرة إلى رجل من العرب الوافدين من الغرب الذين يدين بعضهم بالنصرانية، فوجئت به في أول مرة صحبته إلى ذلك الرجل وهو يجادل ويقارن بين الأديان وأقوال في الرب والموت والحياة والفناء.
لم يكن يدين بدين معين لكنه كان يؤمن بوجود رب عادل يسير الكون وبالحياة بعد الموت وبالحساب على الأعمال.


للقصة بقية .....

بيت حميد
04-07-2011, 11:35 AM
كان المجوسي قد أعد صندوقه المعدني منذ فترة تقارب السنة قبل موته، لا زلت أذكره حين وقف ممسكاً بجريدة نخل يقيس بها قامته ، قطعها على طول أكثر قليلاً عن قامته وبعثها مع أحد أصدقائه التجار الذين يشترون النحاس ليعطيها لحداد في المدينة كمقاس للصندوق.



كانت ميتة هينة، تعشى بالقرب من موقده مع ابنته وأنا تعشيت مع الخادم عند باب غرفة السعف حيث يصلنا شيء من ضوء النار، بعد العشاء أحس بحرقة شديدة في صدره تعود أن يتداوى عنها ببعض الأعشاب، جاءته ابنته بالأعشاب بعد أن بللتها بالماء وبدأ يمضغها، ذهبت لتأتي له بالفراش من الغرفة الحجرية فسقط على وجهه ميتاً قبل أن تخرج هي من الغرفة.




أخرجت رأسي من بين ركبتي ووقفت لأنظر داخل السور، كانت أصواتهما قد هدأت ونارهما قد خبت، أدركت أنه الوقت المناسب لوضع الشيخ في صندوقه، استأذنت ابنته لأخرج الصندوق من الغرفة ، جئت بالصندوق وكنت متحيراً في أمر ملابسه إن كان يجب أن أنزعها عنه، بدد حيرتي قول ابنته " انزع عنه ملابسه وضعه في الصندوق، أخبرني عندما تنتهي من ذلك".



قامت وجلست عند باب غرفتها موجهة وجهها للداخل، نزعت الملابس عن الجثة ووضعتها في الصندوق وأحكمت إغلاقه، جاءت دون أن أخبرها ، لابد أنها سمعت صوت إغلاق أقفال الصندوق الثلاثة، انكبت على الصندوق تنتحب لدقائق ثم قامت، أشارت إلى امتداد مرتفع من القمة طالبة منا أن ندفنه فيه، استمهلتها حتى الصباح لكنها أصرت أن ندفنه في تلك الساعة.


حملت الصندوق وحيداً بعد أن لاحظت الإجهاد البادي على الخادم وطلبت منه عوضاً عن مساعدتي حمل أدوات الحفر، استغرقت وقتاً طويلاً لحفر القبر بسبب كثرة الصخور، كانت ابنته تراقبنا من على مسافة حاملة جذوة مشتعلة، أتممنا الدفن ثم كومنا عليه الحجارة التي أخرجناها خلال الحفر، فرغت من كل شيء ونظرت باتجاه الشرق حيث كانت تقف ابنته، كانت مازالت واقفة لكن عيني تسمرت على شيء آخر، تسمرت عيني على الضوء المنبعث من منارة الميناء البعيد التي لم أرها منذ سنين، أدركت أنها إشارة لمرحلة جديدة.



كان الفجر قد اقترب، عندما عدنا إلى البيت كان العمال مجتمعين عند الباب ليأخذوا أدوات الحفر، تعجبوا عندما رأونا قادمين من الجهة العالية من قمة الجبل ثم فجعوا بالخبر، دخلت ابنة الشيخ إلى حجرتها وجلست أنا والعمال والخادم في الساحة، أخبرتهم بوصية الشيخ لابنته بأن تعود لفارس بمجرد وفاته وأنها غالباً ستبيع المنجم والبيت والفرن، لم يطل الأمر بها حتى خرجت وأكدت لهم ما سبق أن قلته لهم ، عرضت عليهم أن يأخذوا بعض النحاس كأجر لهم عن أيام عملهم فوافقوا وأخذوا ما يرضيهم وانصرفوا، أخبرتني أنها ستنتظر التجار الذين يشترون النحاس لتعرض عليهم شراء المنجم والبيت والفرن، بعد أسبوع مر بنا أحد أولئك التجار الفرس وكان صديقاً قديماً للشيخ ومن ذات بلاد الشيخ، عرض على الابنة مقايضتها ببيت وحديقة في فارس مقابل المنجم والبيت والفرن على أن يتكفل بتوصيلها وحراستها مع أموالها حتى تصل، وافقت وهي شاكرة له على ما قالت انه كرم منه، تحدد يوم رحيلها بعد ثلاثة أيام لتتوافق مع عودة ذلك التاجر من تطوافه على مناجم النحاس الأخرى.



قضينا صبيحة اليوم السابق لقدوم القافلة في ترتيب أشياءها وصفها في غرفة السعف استعداداً لعودة قافلة التاجر، لم أكن أعلم أنها أبقت المال مدفوناً في الغرفة الحجرية، أما الخادم فقد اتضح أنه يعلم بذلك وأنه كان يخطط لسرقته، ليلتها نمنا أنا والخادم كالعادة في غرفة السعف ونامت هي خارج باب غرفتها الحجرية مثل ما كانت تفعل في كثير من الأيام، سمعت صرخات استغاثتها فقمت مرتاعاً وقد لبسني شيطاني القديم، لم أعي لنفسي إلا ويميني تعتصر رقبة الخادم وقد أشرف على الهلاك وسقطت صرة كبيرة من المال من يده، لطالما كانت تلك طريقتي المفضلة في القتل بصمت، أرخيت يدي عنه بسرعة وتذكرت أنه سقاني دواءً يوم أتيت هنا أول الأمر.



كان أضعف من أن يتمكن من المشي عندما تركته، جاءت والتقطت صرتها وأمسكت بقطعة حطب وصارت تضربه بها حتى سقط وهو يستعطفها أن تتركه، طردته لكنه لم يذهب بعيداً عن بوابة السور حيث جلس يبكي، أما هي فلم تسكت حتى الصباح، لم أفقه كل ما كانت تقول سوى أنها كانت تذكر إكرام أبيها له ولأهله في فارس ثم تلومه على محاولة سرقتها، استطعت النوم قليلاً عند الفجر رغم حديثها المتواصل، وتعجبت كثيراً عندما صحوت فوجدته يعد طعام الإفطار بعدما سمحت له بالدخول.

جاءت القافلة في الموعد ذلك الصباح، سلمها التاجر كتاباً منه بحقها في البيت والبستان في فارس ومهره أمامها بمهره، وبالمقابل كتبت هي كتاباً له بالبيت والمنجم والفرن ومهرته بمهر أبيها.


حمل رجال التاجر متاعها إلى أسفل الوادي حيث حملوه على بغلتين وأعدوا لها ثالثة لتركبها، سألتني أن أرافقها للمدينة حيث ستدفع لي أجري عن السنوات الماضية، لو رفضت مرافقتها لدفعت لي في حينها لكني فضلت أن أرافقها لأدخل المدينة في قافلة، أشعرني ذلك بالأمان من أن يتعرف علي أحد.
لم يكن أمامي خيار آخر سوى التوجه للمدينة والذوبان فيها آملاً أن لا يتعرف علي أحد، البديل الوحيد لذلك هو العودة لحياة قطاع الطرق التي أصبحت تعتريني رعشة كلما تذكرت أفعالي في بعض الغزوات خصوصاً تلك الليلة المشؤومة.

قبل تلك الليلة التي لا تنسى، عصراً وقبل غروب الشمس بقليل كنت قد اقتربت من أحدى القرى لأستطلع لعلي أجد نوقاً قصية أغنمها، لمحت فتاة صغيرة تدخل أحد البيوت في طرف القرية ، عزمت على اختطافها وبيعها، عند انتصاف الليل أنخت ناقتي على مسافة من القرية وتسللت حتى اقتربت من بيت الفتاة ، سكنت حتى تيقنت أنهم جميعاً نائمين، قطعت حبل الباب بالخنجر وفرجت بين دفتيه ودخلت، كانت البنت نائمة بين أمها وأبيها على منامة في وسط البيت، مشيت حتى أصبحت عند أقدامهم، وضعت يدي تحت الطفلة بهدوء ورفعتها، حسبت أنها لن تصحو إلا وقد ابتعدت بها، لكنها فاجأتني بصرخة قام على إثرها أبوها وأمها، تعلق الأب برجلي وأنا ممسك بالبنت فركلته، عاد وتعلق برجلي الأخرى وأخذ يصرخ، خفت أن يسمعه أهل القرية فيجتمعون علي، أنزلت البنت ورفعته بيد واحدة ثم شققته بالخنجر كما تشق الذبيحة، البنت لم تهرب عندما أنزلتها بل وقفت تصرخ في وجهي صرخات متلاحقة، تلك الصرخات كانت تصب في رأسي حميماً أفقدني صوابي، حتى عندما خرجت وتركتها ركضت خلفي وهي تصرخ وأنا أحاول أن أسد أذني عنها، توغلت بعيداً في الجبال ومازالت صرخاتها تتردد كالصدى بين الجبال والوديان لتواصل صب الحميم في رأسي وصدري حتى انتهى بي الأمر عند المنجم.

بالرغم من مرور أكثر من عشرين عاماً على حادثة قتل أبي علناً في سوق المدينة وقطع رأسه أمام عيني إلا أنها مازالت تمر بمخيلتي كأنها حدثت قبل ساعة، كنت حينها لم أتجاوز العاشرة، ما زلت أسمع مَن حولي يصيحون بالرجال الذين كانوا يجرونه وهو مقيد أن يقطعوا رأسه، أذكر أني رفعت بصري إلى رجل بجانبي فرأيت الزبد يخرج من فمه من شدة حماسته للمشهد.



قطع رأسه وعلق في السوق تنكيلاً به، ثم أخذوه في اليوم التالي وعلقوه في السوق الذي يؤمه البدو وأهل الجبال إلى الغرب من المدينة، عدت يومها إلى البيت دون أن أبكي، كنت أخشى النظر إلى وجه أمي، توقعت أن تلومني على عدم مساعدته، وجدتها وسط جمع من النسوة، رأتني فقامت لاحتضاني وهي تبكي لكني هربت عنها بسرعة إلى خارج البيت، ربما أحسست حينها أني لا أستحق العطف بل أستحق اللوم.


عدت للبيت بعد غياب الشمس بقليل بعد أن تعبت من المشي والتفكير، كدت أدخل البيت وأغلق الباب الخشبي خلفي لولا دفعة قوية للباب أطاحت بي مستلقياً، دخل رجل سبق أن رأيته مع أبي وانتزعني من على الأرض بيد واحدة كالريشة ، خرج بي ووضعني أمامه على ناقة كانت معدة خلف البيت، أمرني بالسكوت وقال لي أنه يأخذني مخافة أن يقتلوني كما فعلوا بوالدي، كان ذلك هو عمي رمثة الذي بقيت معه حتى الليلة التي وجدوني فيها عند المنجم.



للقصة بقية

بيت حميد
04-07-2011, 11:39 AM
ترك التاجر أحد رجاله في البيت الذي آل لملكيته للحراسة بعد أن تفقد كل شيء، استأذنت التاجر لأركب بغلة الشيخ المتوفى التي حتى المدينة فأذن لي، تحركت القافلة في اتجاه المدينة التي لا تبعد أكثر من مسيرة نصف يوم بسير القافلة البطيء، الطريق يسير بمحاذاة النهر الصغير الذي ينحدر من الجبال الغربية ليخترق وسط المدينة في نهاية المطاف قبل أن يصب في البحر، أحياناً يلتف بنا الطريق شمالاً لتحاشي الجبال المحاذية للنهر ثم يعود لمسايرته، كانت دقات قلبي تزداد كلما اقتربنا من المدينة التي هجرتها خوفاً منذ عشرين سنة، في منتصف الطريق وإلى الجنوب منه يقع السوق الخارجي الذي يأتيه البدو وسكان الجبال، في هذا السوق علقوا رأس أبي في سدرة على مدخل السوق قبل عشرين سنة، لم ألتفت للسوق ونحن بمحاذاته ثم لما تركناه ورائنا لم أستطع إلا أن ألتفت، لم تؤذني كثيراً تلك النظرة كما توقعت، ربما لأني كنت أمضي وأترك هذه الذكرى وراءي.

واصلنا السير حتى أطراف المدينة التي تمددت كثيراً عن عهدي بها، وعوضاً عن التقدم مباشرة واختراقها كما يفعل النهر التف بنا صاحب الدواب الذي استأجره التاجر من طريق واسع يتعرج عبر البساتين الكثيفة بعد أن عبرنا النهر على الجسر الذي كان عهدي به قنطرة صغيرة ويبدو أنهم بنوه ليتسع لمرور الدواب المحملة ، كان واضحاً من آثار الدواب أنه طريق القوافل المعتاد للميناء، أنعشت رائحة البساتين روحي الحرى، بعد كل تلك السنين التي قضيتها بين الكهوف والصحارى كان للخضرة وهواء البساتين المحمل بالرطوبة الباردة مفعول السحر علي، من فرط تأثري وانتعاشي تركت مكاني في وسط القافلة وتأخرت عنهم بمسافة مكنتني من سماع حفيف الأشجار وتغريد الطيور بصفاء.

لم يطل بنا السير حتى جاءتنا رائحة البحر ورطوبته التي افتقدتها هي الأخرى، أسرعت ببغلتي حتى عادلت قائد القافلة متعطشاً لرؤية البحر وشم نسيمه.

أول شيء واجهناه من البحر هو لسان صغير يخترق البساتين لمسافة قصيرة، ثم مالبثت الستائر الخضراء أن انفرجت عن البحر الأزرق، هالني عدد المراكب وأحجامها الكبيرة التي لم أرَ مثلها في صغري، مراكب كبيرة ذات أشرعة واسعة، لم يكن يخطر لي أن هناك سفن بهذا الحجم، أرسلت بصري على الشاطئ الممتد فوجدت جواباً لسؤال دار بخلدي وأنا أنظر للمراكب وأشرعتها العالية، كنت أتساءل عن سبب عدم رؤيتي لهذه الأشرعة من بعيد، كانت الدور المرتفعة وغرفها المنيفة هي ما كان يحجب عني رؤية المراكب، في حياة الوحوش التي كنت أحياها، حتى عملي في المنجم لم يكن يقل صلفاً عنها، لم تكن تحيط بي الكثير من التفاصيل، وكانت المناظر كثيراً ما تتشابه، أما هنا فيبدو أني لا بد أن أعتاد على غير ذلك.

استدارت القافلة حول اللسان البحري الصغير ثم عدنا لنسير بمحاذاة البحر، قبل الميناء بقليل مررنا بمجموعة من أصحاب الجمال وقد احتدمت بينهم مشادة عنيفة، كانت فيما يبدو بسبب المنافسة على تحميل البضائع، احتدمت بينهما المشادة وكادا يشتبكان لولا الفزع الذي أصاب الإبل فتفرقت عنهما في كل اتجاه ، لم يثر المشهد انتباه أحد غيري ومضوا دون حتى أن يلتفتوا لما يحدث.

قبل الميناء لفتت نظري القلعة المهيبة المطلة عليه مباشرة ببرجيها الدائريين، أمكنني رؤية الحراس من فتحات البرجين وهم يتحركون، كانت القلعة متراجعة قليلاً لناحية البر مفسحة المجال لحركة البشر والدواب المتعلقة بالميناء، هالني عدد البشر وأصواتهم المختلطة بأصوات الدواب، عندما دخلنا الساحة أحسست بتوتر غريب بسبب كثرة الحركة حولي وتزاحم الأقدام والأصوات، توقف قائد القافلة وهو ينظر للتاجر ، أشار له التاجر أن يتجه منتصف الساحة حيث يجلس رجل بالقرب من كومة كبيرة مغطاة بسعف النخيل المشدود بالحبال، أقبل ذلك الرجل، الذي اتضح أنه من أعوان التاجر وضعه لحراسة تلك الكومة من البضائع، أقبل يساعدنا على إنزال حمولة القافلة، جاء صاحب الدواب ليأخذ أجره من التاجر وأجر أربعة حراس يرافقون القافلة، كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها المال، كانت قطع معدنية دائرية بحجم راحة يد طفل، لونها أقرب للون النحاس وعليها رسم لأحد ملوك الفرس ويسمونها "سلوقي"، كانت عليها نقوش دائرية تشبه إلى حد بعيد النقوش التي كان يقرأ بها عمي رمثة.

اختلف التاجر مع صاحب الدواب على الأجر، كان الأخير يطالب بزيادة بسبب متاع ابنة الشيخ الذي لم يكن متفقاً عليه من قبل وأما التاجر فكان يقول أنه لم يزد عن مدة الأيام الخمسة التي تم الاتفاق عليها، كنت أعتقد أن صاحب الدواب يستحق زيادة لكن الأمر حسم بتدخل ابنة الشيخ التي عرضت دفع أجر حمل متاعها بنفسها.

انصرف صاحب الدواب وأمرنا التاجر بالجلوس إلى حين تدبر أمر السفينة التي ستقلهم إلى فارس ، قد يطول الأمر ليوم أو يومين كما قال.
كان الوقت عصراً والشمس توارت خلف القلعة العالية التي بدت لي من الساحة وأنا مستند على كومة البضائع أكبر كثيراً من ذي قبل، كانت تسد معظم مساحة النظر من الغرب، البيوت تبتعد عنها من الشمال والجنوب بمقدار عرضها، الجنود يبدون صغاراً من خلال فتحات الأبراج المرتفعة.

اقتربت مني ابنة الشيخ وهي تبتسم وأعطتني كيساً صغيراً عرفت أنه يحوي مالاً هو أجري عن سنوات عملي في المنجم ، ثم أعطتني صرة لم أعرف ما بها حتى أخبرتني بأنها أحجار الفيروز التي كنت أجمعها طوال السنوات الماضية، كنت قد نسيتها وها هي جمعتها لي من إحدى زوايا البيت حيث كنت أضعها وصرتها لي، أخبرتني أني يمكن أن أبيعها للصاغة اليهود واشارت بيدها لجهة إلى الشمال من الميناء، التفتت إلى الرجل الذي استقبلنا في الميناء وكان متكأً بجانبي في صمت وكلمته بالفارسية موصية إياه بي، كنت قد تعلمت حينها من الفارسية ما مكنني أن أعرف أنها قصت عليه كل شيء عني منذ أن وجدوني عند المنجم، وفوجئت من خلال حديثها له بأنها تظنني طوال السنين التي قضيتها معها ومع أبيها أني قد فقدت ذاكرتي بسبب سقوطي تلك الليلة، لابد أن أباها أيضاً كانت لديه نفس القناعة ، اعتبرت ذلك إشارة ورحمة من الرب.


للقصة بقية.....