المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طفولتي(2)


إبراهيم مشارة
12-07-2011, 08:58 PM
أما الحب الطفولي فكان ملهمي الأول وكيف لمن يحفظ الأشعار ويحسن تدبيج المقال أن لا يخفق قلبه للواعج الهوى وتباريح الصبابة واستراق البسمة وعبق الأنوثة والإعجاب من البنات ولكن حب الطفولة لا يمكن أن يوصف بالحب إنه انجذاب إلى عالم مغاير مختلف تختط فيه الطهارة بالغريزة والإعجاب بالجمال مع إثبات الذات والشاعر أقدر الناس على عشق الجمال وتقديره والتعبير عنه باللفظ الصادق الموحي المعبر عن حرارة الموقف وحرقة الشوق وألم السهاد وكنت كثير الاقتراب من الأنثى لا تفوتني الفرصة دون أن ألقي بعصاي فإذا هي كلمات عذاب تحمر لها الوجنات في خفر مصطنع وكيد أنثوي قابع في لاوعي البنت ، وعرفت حيلة العاشق الكلام الجميل يجلب المعجبات والتفوق في الدراسة يجلب الثناء والإعجاب والكتابة الجيدة مزيدا من الاحتكاك بالأنثى وما أكثر ما خصصتهن بالهدايا الحلوى الفرنسية خاصة والورد في أيار تعبيرا عن التقدير والمودة.أحبت في هذه جدائل شعرها وتلك لون عينيها والأخرى نبرة صوتها والأخرى أنوثتها الناضجة قبل الأوان وتلك حمرة شفتيها وتلك لونها القمحي وسم هذا ما شئت.
ولكنه ليس الحب الذي عرفته في الكبر حيث هو عبودية مطلقة أن تقف على الرمضاء ولا تشعر وأن تتحدى العرف ولو أدى ذلك إلى التباب حتى قلت صادق الزفرات والدمع والشهقات:
لا تقولي سلا حبيبي ميعادا
أنا لاأنسى من محضت ودادا
برعم في الحشا رعته الليالي
وحناني للحب صار سمادا
كيف أسلو عن توأم الروح يوما
كيف أرضى أن أستحيل جمادا؟
وأنا ابن الهوى أخاف الليالي
كم أحالت شوق القتاد المهادا!
وحتى أول مقال كتبته جادا كان غرضه إرضاء المحبوب ،أردت أن أثبت له جدارتي بالكتابة في كبريات المجلات العربية فنشرت في "العربي" "والمنهل" "والجيل" "وأخبار الأدب" "والرافد" وأحمل إليه تلك المقالات منشورة في تلك المجلات وحتى أول كتاب كان المحبوب هو الدافع إلى كتابته "وهج الأربعين" كان ثمرة مشاعر جارفة ورغبة في احتكار الآخر وامتلاكه مدى الحياة.
حلمت في طفولتي أن أكون كاتبا كبيرا كطه حسين أو نجيب محفوظ أو العقاد وكنت أراهم في أحلامي من فرط التفكير فيهم ومعرفة كل كبيرة وصغيرة عنهم فضلا عن التهام مؤلفاتهم التهاما، وأعتقد أني حققت جزءا يسيرا من الحلم ولكنه ليس الشيء الذي يرضيني وليست العبرة هنا بالشهرة وإنما بالإبداع الحق والإضافة الحقيقية والتمكن الصرف فأين أنا من هؤلاء؟
ما زلت مصرا على الكتابة فهي هوية وانتماء وقطب الرحى ومدار الوجود ولكن الأيام علمتني أن لا أكون كاتبا تحت الطلب ولا ساعيا إلى جائزة نفطية أو حوار متلفز أن أعشق الحرف في مودة هادئة وعشق صوفي وأمارسها دون إكراه أو طمع في مأرب دنيوي ولست أدعي الصوفية ولا الزهد ولكن الماديات في المقام الثاني. وكم نشرت في مجلات مهمة ولم أسأل عن حقوقي حتى حين سرقتني وزارة الثقافة الجزائرية في كرنفال سياسي أسمته مشروع الرئيس لطبع ألف كتاب ،أخذت مني كتابا استنفذ أربع سنوات فكرا وجهدا وسهرا وطبعته ووزعته في مكتبات الجمهورية ولم تعطني إلا ما يعادل ثلاثمائة دولار وفيه ست وعشرون مقالة نقدية نشرت في مجلات محكمة في المشرق والمغرب وحين بحثت عن الكتاب لأشتريه وأهديه إلى بعض معارفي لم أجده ويا للعجب وجدته ضمن مقتنيات مكتبة جامعة الإسكندرية!
أثمن الجهد وأحترم المبدع مهما كان سنه أو جنسه أو قناعاته ولا أشعر بالغيرة أبدا بل أشجع وأتمنى لمن هو حقيق بكلمة مبدع التوفيق ولكن أكره المتطفلين والأدعياء والمتملقين وحملة الشهادة للمباهاة الكسالى النائمين وأرفض الانتماء إلى اتحاد الكتاب الجزائريين لرداءته وجمعه الغث مع السمين والمبدع مع الدعي والمنافق مع المخلص وأحب قول الشاعر العربي مجتهدا في العمل بمقتضاه:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثـــوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثــــان
ومما يخص حياتي الميل إلى التأمل ونبش بطون الألفاظ والنظر في كل شيء حتى المقدس وأحترم الإنسان وإبداعه مهما كان فكره ومعتقده وحتى نمط حياته، وكراهية النفاق والبعد عن الرسميات ونبذ السلطة لأنها مجلبة للشبهة والرياء وهذه قاصمة الظهر وخانقة الفكر وناحرة الإبداع الحق مؤمنا بقوله تعالى:" فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض."
في الطفولة قرأت شعر الغزل وأقاصيص عنترة وسيف بن ذي يزن وألف ليلة وليلة فضلا عن حكاياتنا الشعبية "مقيدش" "بقرة اليتامى" "صغرونة والغولة "ثم اقتحمت عالم الشعر خاصة الغزل شعر جميل وكثير وعرفت ميخائيل نعيمة وجبران وطه حسين ومعروف الرصافي .وأحببت مجالسة الشيوخ للاستماع إلى كلامهم حتى في السياسة القومية وعبد الناصر وبومدين والاشتراكية والحرب الباردة فقد كان حلاق القرية مثلا مهتما بها ونوادرهم وتاريخ البلد والعادات القديمة وأحببت في قريتي الراعي وكتبت فيه قصة بعنوان "العربي ولد صالحة" نالت الجائزة التقديرية عن اتحاد كتاب العراق عام 2007 وكتبت عنها جريدة الشروق الجزائرية،كما أحببت المعدمين وتعاطفت معهم: دعدونة وعياشة والحشاني وكان مريضا بالربو وحين يكون أمام بيتنا تنتابه النوبة وأكون حاضرا أحيانا فينفطر قلبي لألمه وخصصتهم جميعا بكتاب "ديوان الحكايا" الصادر في القاهرة عام 2011 عن دار إيزيس للطباعة والنشر.
وحين صرت في الجامعة كان أصدقائي المؤبدين هم نجيب محفوظ وحنا مينة وميخائيل نعيمة والطيب صالح وسارتر والخيام وأدونيس والسياب ودوستيفسكي وغيرهم كثيرون.
تجدر الإشارة إلى أن أول مقال كتبته كان في الجامعة وللإفادة فحين نلت البكالوريا عام1986 أصر والدي الكريم على أن أدرس الشريعة في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة وكان يدرس بها الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله- والدكتور صبحي التميمي ويزورها من حين لآخر الشيخ البوطي والقرضاوي وأحمد شلبي وعبد المجيد الزنداني وغيرهم ورفضت لكن والدي أصر فأضعت عامين أقرأ الكتب التي أستعيرها من مكتبة الجامعة أو أشتريها ليلا وأنام في النهار! ورسبت في النهاية وفعلت نفس الشيء في العام الثاني حتى اقتنع والدي بعدم جدوى الإصرار والإلحاح فتركني وشأني وكانت رغبتي أول الأمر أن أدرس الاقتصاد في جامعة سطيف نظرا لتفوقي في الرياضيات فقد نجحت في الامتحان الذي أجرته الكلية ثم أن الاقتصاد مادة علمية تتيح لي التبحر في الرياضيات وكنت أحب العلوم كالطبيعة والفلك أما الأدب فهواية وعشق وهكذا خططت لكن والدي مانع فأضعت الفرصة ثم اخترت الأدب العربي في جامعة قسنطينة ولم أستفد شيئا - اللهم إلا من كدي وسهري وعصاميتي- فقد كان الكثيرون من حملة الدكتوراه من الفارغين لا مؤلفات لهم ولا مقالات إلا التظاهر بل منهم من يعجز عن ارتجال كلمة سليمة في مجمع أكاديمي وتلك مصيبة البلد المبتلى اليوم بالأدعياء في السياسة والاقتصاد والثقافة والدين ، وسوف يدفع الثمن الناس يوما ما."إن البناء الهش الكرطوني والكذب على النفس لن يدوم طويلا" وفي الجامعة كتبت أول مقال عن العقاد وطه حسين ردا على علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر- رحمه الله- ونشر بجريد الشرق الأوسط اللندنية وكتب إلي نائب رئيس التحرير الأستاذ محمد خليفة التونسي يستزيدني من الكتابة. لكنني لم أفعل فقد دخلت في مرحلة بحث عن الذات وضياع كاد يودي بي!
ومما أحفظه من هرطقات الصبا هذا البيت الذي كتبته في المرحلة الثانوية يعبر عن الطموح:
مرادي عظيم وعزمي شديد
مراد السريرة مجد تليـــــد
كتبت الأشعار ومزقتها ، وأتهيب من نشرها وعندي منها الكثير.
أؤمن بمقولة وورد زورث" لاتتسرع دع الزمن يفعل فعله فالانفعال الأهوج مصيره أن يكون هباء "أو في هذا المعنى.
كتبت القصص ونشرت منها في القاهرة "ديوان الحكايا"وكتبت الدراسات النقدية عن السياب وأدونيس والشابي وجبران،وحنا مينة، وعمر الخيام والنزعة الإنسانية في الأدب المهجري وغيرها لكني أتجه الآن إلى الرواية وعندي مشروع دون أن أنسى عالم الشعر كممارسة لها طقوسها بعيدا عن المتطفلين والطالبين مجالس سمر وقد شاركت في ندوات وأمسيات داخل الوطن وخارجه. كما أحب الكتابة في الفلك فهذا العلم يستهويني ربما لأن السماء تمثل اللامحدود والمطلق والسامي والبلوري والأثيري الشفاف ومعرفتي به دقيقة – دون ادعاء- فقد كتبت في مجلات مختصة وشاركت في ليالي الرصد خارج الوطن وتأتيني دعوات من خارج الوطن لإلقاء محاضرة أو المشاركة في ندوة وآخرها من الجمعية الفلكية العمانية في رحاب جامعة السلطان قابوس.
عشت مرحلة مراهقة صعبة اختلطت علي المفاهيم والغاية من الوجود وتماهى عندي المقدس والمدنس والخير والشر والصحو والغيبوبة وتركت ممارسة ما يمارسه الناس من شعائر تعبيرا عن مديونية المعنى وتناسيت ما يقوله الناس في، كنت أبحث عن الأنا وراحة اليقين وسكينة العرفان ولذة المعرفة وأمعن في دراسة الفلسفة والتأمل وركبت موجة الحرية بلا قيود ولا روادع"الإنسان سيد مصيره هو الفوق والتحت هو الأول والآخر هو المبتدأ والخبر، أنا حر إذا أنا موجود.
ومن فلسفة سارتر ورباعيات الخيام ونظريات ماركس وداروين ونمط حياة رامبو وامرئ القيس وأبي نواس انفلت من المعالم ،فكم ارتكبت من حماقة وكم أتيت من سفاسف الأمورمما أكره مجرد التفكير فيه في مرحلة النضج والاستواء.
عندي خمسة أولاد هم الورد والشذا واللفظ والمعنى والقلب والنبض ،هم معقد البقاء وقطب الرحى ومدار الوجود،البهجة والنشوة والسلوى في خدمتهم واللعب معهم ومحاولة تثقيفهم بالهوينى والتؤدة: نور الهدى ولدت عام 1996 وخولة عام1999 ومريم عام2003 وريحانة عام2005 وآخر العنقود محمدعام2007 ولد في نفس الشهر الذي ولدت فيه شباط.
أما الزوجة كريمة زهار فقد ولدت عام1972 ما حققته من نجاح فبفضل الله ومعونتها آزرتني وشجعتني وأخلصت الحب والوفاء والصبر على الرغم من ارتكابي حماقات كثيرة ولكنها صاحبة قلب عطوف بار مخلص رحب كالسماء سمح كالضرع نافع كالغيث حلو كالعسل فلولاها ولولا مساعدة الوالد ودعاء الوالدة وتوفيق الله ماحققت شيئا.
وأستسمح القراء من الإفاضة حد الإملال أحيانا.