المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من نصوص الملتقى (القصه القصيره)


أحمد الهديفي
20-07-2011, 07:14 PM
حامض الذاكرة

الشمس تحاصر الطرقات بجبروتِ أشعتها، تلهبُ الجلود السمراء فتزيدها اسمراراً، وتصطف البيوت الطينيّة كجيشِ من العمالِ أرهقهُ الجري الدؤوب خلف لقمة العيش، بينما يداعب نسيم الصيف الجاف سعف النخيل ويرسم على الخدودِ الصغيرة حمره تضاهي حمره الشفق الأحمر جمالاً وشقاوة.
حكّ أنفه بشكلِ لا إرادي مراتِ عديدة وهو يقفزُ من الشمس إلى الظل، فكر في الأمبا الذي يداعبُ لعابهُ كلما مرّ على بيت ود المُبَشر، أعاد تلاوة المشهد من جديد، فسال لعابه وهو يتلمظ ذكرى آخر أمباة قضمتها أسنانه.
تمردت الرياح على السكون وكادت أن تخطف إزاره لولا أنه تنبه لزئيرها فقبض بقوة على إزاره، سأل قلبه الصغير الله أن لا يكونَ الشايب سلمان مضطجع في الحوش كالعادة، أي مجنون هذا الشايب سلمان ينام تحت سطوة شمس الظهيرة ليثبتَ أنه رجل لا شيء قادر على النيل منه؟! كشفت عيناه بنظرة واحدة على الحوش، كانت الأجواء غريبة بعض الشيء، السكون يخيّمُ على الأرجاء، وجد قدمه تدفعُ الباب الحديدي، همس صوته باحثاً عن صديقه عبدالله: عبيد، عبيد، بدا له أن البيت خال إلا من جسده وأرواح سكان البيت من الجن، ارتعدت فرائصه وهو قابع عند المدخل، تذكر الأمبا فواتته الشجاعة فتقدم حاشراً جسده في ممراتِ البيت يتلصص بحثاً عن وجه عبيد أو أحد إخوته، التفت مراتِ عديدة خوفاً من ظله، نبض قلبهُ بشده حين راودته فكرة أن يكون الشايب سلمان في البيت وقد يلمحهُ، جفّ صدره، واتسعت عيناه.
وصلَ إلى النافذة المطلة على بيت ود المبشر، قرّت عيناه بتأمل شجرة الأمبا، لمح رجل يركضُ على نحو غريب، مدّ نظره إلى المساحات الأخرى بين بيت ود المبشر ومزرعة النخل، عند البئر شاهد مسعود والشايب سلمان وكأن ثمة خطب غير طبيعي يحدث هنالك، استفزه الفضول فخرج من البيت مسرعاً متوجهاً إلى تلة بنت الراعي حيثُ بإمكانه رؤية المشهد كاملاً، هل يصدق ما تراه عيناه؟ جسد ود المبشر مسجى على الأرض ورأسه مضرج بالدماء، ابتعدت الشمس قليلاً عن كبدِ السماء، تعالت أصوات أذان العصر من القرية والقرى المجاورة، وعيناه ما انفكتا تسجلان المشهد، مسعود والشايب سلمان رموا جسد ود المبشر في البئر، رموه بقوة وعنف، شعر هو بأن روحه تنزلق من شاهق مع جسد ود المبشر، ارتفع طعم حموضة الأمبا إلى حلقه فاستحال طعمها مر ومثير للغثيان، صوّر خياله ارتطام جسد ود المبشر النحيل بعمود وماكينة البئر فشعر بأن رأسه يتحطم على دوي المشهد.
انتهى كل شيء، غادر مسعود والشايب سلمان المزرعة، وبدأت الأزقة الضيقة تصافحُ أقدام المصلين المتجهين إلى مسجد شَرَقْ، نزل من على التلة، كان إزاره مبتل، لم يهتم بذلك، حاول أن يسرع قدر الإمكان قبل أن يلمحهُ أحدهم، تعثرت قدماه بحجارة التلة فتأذى ظفر إبهام قدمه اليسرى تأوه متألماً ولكنه ركضَ وكأنّ العالم بأسره يركضُ خلفه غير آبه بحرقة الوجع.
اختبأ خلفَ بيت زوينة العوراء مخافة أن يلتقي بأحد، سمعَ أصوات أقدام تتقدم نحوه، دسّ جسده بين جالون ماء وباب خشبي مخلوع، امتدت يد كآهلة، شعر بها تقترب، كتم أنفاسه، بحثت اليد عن مخبأ لتحشر شيء لا يعرفُ هو كنهه بعد، طال الوقت، دقائق ولكنها تشبهُ طابور الصباح في يوم تفتيش الأظافر والخيزران بيد المدير محمود أبو قانون، احتجت رئتيه، ازرقّ وجهه وأخيراً ابتعدت اليد بعد أن حشرت كيس نايلون في الزاوية، ابتل إزاره مرة ثانية لا يعلم لماذا سالت دموعه وسال أنفه بغزارة دفعة واحدة؟! الكيس يحمل عمامة بيضاء ملطخة بالدم وأشياء أخرى.
ظلّ في مكانهِ، جسده المحشور ينتفض، صورة وجه مسعود والشايب سلمان تتسع، تتسع ، ويتقزم هو، تتسع وتبتلعه، يعيد مشهد البئر يشعرُ بالدوران ويرتجف ، أظلم المكان تدريجياً، حمره عشوائية تلطخُ وجه السماء، رفع رأسه، مسح أنفه بكمه، الطيور تعودُ إلى أوكارها و قطط تمرقُ بتململ إلى الداخل.
في صبيحة اليوم التالي كانت الحمى تشلُّ حركته بينما القرية تعلنُ الحداد بعد أن انتشر الخبر كالنار في الهشيم، (مسكين ود المبشر طاح في البئر بينما كان يحاول إصلاح ماكينة الطوي... الله يرحمه لو انتظر حمود المُصّلح ما كان أخيّر له ؟ ... مات لا ولد ولا تلد الله يرحمه.. الله يرحمه باع المزرعة والبيت لمسعود و الشايب سلمان).لم ينسَ ذلك اليوم مطلقاً حتى بعد سفره إلى أميركا لدراسة كان يتتبعُ أخبار القرية فتصلهُ طازجة، الشايب سلمان أصيبَ بالزهايمر، وقضى بقية حياتهِ يروي حكاية قتلهِ ود المبشر في الشوارع بينما الصغار يتوقفون عنده ليتضاحكوا ويرموه بالحجارة غير آبهينَ بأساطيره تلك.
وعندما عاد من الغربة ووجدّ أحفاد الشايب سلمان يديرون المزرعة، أخبرتهُ العجوز سلامة بنت ربيّع التي التقى بها عند مدخل بيتها عندما سألها عن مسعود أن مسعود تزوج فتاة هندية تصغره بعشرين عاماً وأكثر، كانت فتاة فاتنة أنجب منها ولدين توأمين وأولعَ بحبها وبعد مدة اكتشفّ بأن بيتهُ يزورهُ نصفُ مراهقي القرية ، قتلها وفرّ هارباً من الشرطة وأثناء مطاردة الشرطة له سقط في بئر ود المبشر.
تصاعدت المشاهد الحامضة كالبخار الساخن تحت غلي الذاكرة بسر الأمس، عندما ترجل ناصر بن حمد عن سيارته وتذكر صورة ود المبشر المضرج بالدماء في ظهيرة الأحد قبل خمسة وعشرين عاماً من الآن.


مريم بنت سعيد العدوية

أحمد الهديفي
20-07-2011, 07:18 PM
أنا حي ...

لم يكن هناك من أحد في الغرفة سوى أنفاسه التي أخذت بالتصاعد زفرة تلو الأخرى، ومع كل زفرة يطلقها جسمه النحيل تتدلى من بين مسامات جسمه قطرات عرق تفوح منها رائحة الجهد والتعب وذكريات ما زالت تتخلل شرايين مخيلته.
ظلمة تحيط بأسوار الغرفة بشكل يبعث لناظره بدوار شديد سوى ضوء ضئيل جدا أخذ يتخللها من خلال نافذة صغيرة معلقة على أحد جدرانها بحيث يضيء بشكل مباشر على لوحة موجودة على الجهة المقابلة.
أغمض عينيه المطبقتين من شدة الألم وأخذ يسترجع كل ما حدث له بسبب ذلك وكل ما حدث له فيما مضى.
ذهب إلى المدينة المفعمة بضجيجها ليبحث له عن عمل يستطيع به إعانة نفسه، فالقدر ساعفه بدرجة كبيرة على إكمال شهادته الإعدادية وذلك حينما كان والداه على قيد الحياة وبعدها تركاه ليواجه قدره بعدما أخذهما القدر بعيدا عنه في حادث مروري.
واجه صعوبة كبيرة في البحث، فلم يكن من السهولة عليه الحصول على عمل، كانت مهنة تقديم القهوة في إحدى الشركات المترامية على قارعة الشارع المزدحم بدخان السيارات ربما أرضت بعضا مما تأمل به نفسه .
لم يكن حين خرج من قريته في إحدى الصباحات الباكرة يعلم ما يواجهه في المساء، كان الجو حينها تعتريه بعض الهمسات الباردة التي أخذت تلطم وجهه.
رجع إلى قريته بعد يوم مكتظ بالعمل ولكنه فوجئ عندما رأى بقايا دخان تنبعث من بيته وبقايا رماد متناثرة هنا وهناك تحتضن ما تبقى من آثار كانت شاهدة يوما على حياته، آثار طفولته التي تذكره دوما بأبويه والممزقة أشلاء بين كومة من رماد خامل، آثار شهدت وحدته واعتصرت آلامه.
أحس بيد ضعيفة تربت على كتفه انتشلته حينها من ماضيه، التفت قليلا فلم يجد إلا سالما، سالم ذلك الشخص الذي اتهمه الناس بالجنون، لم يعره اهتماما في البداية؛ لأنه كما عرف عنه عند أهل القرية لا يتكلم سوى من بعض تمتمات كانت تخرج من فمه، لكنه تفاجأ عندما سمعه يتحدث محاولا مواساته في مصابه وإخباره بأن ما حدث له كان بسبب مجموعة من الفرقعات التي كان يعمل بها بعض الصبية، وأن جيرانه عندما شهدوا ذلك حاولوا قدر استطاعتهم إخماد ما اشتعل في أرجاء البيت ولكن دون جدوى.
كل ذلك وهو قد شده ما رأى وما سمعت أذناه، فلم يكن يصدق، فذلك كله حاول أن ينسيه بعضا مما حدث له، لاحظ سالم ذلك فحاول أن يوضح له الأمر، وقبل أن تخرج بضع كلمات من فمه التي أوشكت أن تفصح وتبدد استغرابه التفت سالم وأدار ظهره للوراء، لأنه علم حينها بأن كلامه لا فائدة منه، فما ترسخ في أذهان القرية وما نعتوه به من جنون لا يمكن تغييره .
أين يذهب الآن وفي مثل هذا الوقت؟
أخذ هذا السؤال يتردد على تفكيره فلم يجد بدًّا من الذهاب إلى بيت عمه، وفعلا ذهب إلى هناك ولكن عمه سكت في البداية ثم قال: لا أستطيع استضافتك إلا لهذه الليلة فقط وبعدها ابحث لك عن مكان آخر، فلدي خمس بنات وأنت تدري بأن وجودك بينهن لا يصلح.
لم يكن منه إلا أن هزَّ رأسه بالموافقة، وفعلا عندما بزغ أول خيط من الصباح خرج من بيت عمه تاركا له رسالة تحمل بين ثناياها بضع كلمات معدودة ترتلها أسطر فارغة "شكرا لك على استضافتك لي الليلة الماضية... شكرا لك".
قطرات الندى ما زالت تتساقط من بعض الوريقات محتضنة وريقات أخرى محاولة مسح ما علق على حوافها من وسن وتنظيف ما علق بها من إفرازات ليلية، خرج مغادرا قريته حاملا معه كل ما يحتويه جسمه من ثقل ذكريات تتعلق بقريته ، خرج على أمل أن يعود إليها مرة أخرى، خرج وكل نفس في أغصان الأشجار يعده بأنه سيرجع إليها مرة أحرى.
ذهب إلى المدينة التي استقبلته بكل ما فيها من صخب وحركة، حاول أن يبحث له عن شقة بعدما قضى نصف يومه في العمل، وفعلا وجد شقة صغيرة جدا بما كان قد جمعه سابقا من مال، أودعها أول ما عتبت قدماه بابها حزنه وألمه ،ووضع في كل ركن من أركانها ما تبقي له من ذكريات قديمة ؛ بحيث يتسنى له في كل مرة يعود فيها من عمله أن يعيش بعضا مما أودعه جسمه من ذكريات.
استمر حاله هكذا لعدة أسابيع حتى طرد من عمله ذات يوم بسبب اتهامه ظلما من قبل أحد أفراد الشركة، فقد اتهم بسرقة مائتي ريال من مكتب المحاسبة التي كانت كثيرا ما تحاول أن تستجلبه ناحيتها كلما ذهب ليقدم لها القهوة أو للمدير، ولأنه كان في كل مرة يُعرِض عنها ولأن محاولاتها جميعها لم تنجح فقد ادعت بفقد هذا المبلغ من خزانتها والذي سحبته نهار اليوم لتقوم بتوزيعه على العمال، ولكن بسبب وصول رسالة مهمة ومستعجلة للمدير اضطرت أن تضع المبلغ في أحد الأدراج ريثما تعود، ولهذا السبب لم يكن هناك قبل ذلك إلا هو بينما كان يضع لها كوب القهوة الساخن على الطاولة.
وهكذا تم تصديقها لأنه طبعا هناك من كان يقف بجانبها، ولأن الرأس الكبير كان يقدم لها كل شيء حتى يستطيع هو بالتالي تحقيق مطالبه منها.
خرج من هناك وآمال الخيبة تجر اذيالها وراءه، خرج ونظرات الخزي والعار تلاحقه بخطوات حثيثة، خرج وفي نفسه كره للعالم من حوله وكره لطموحاته التي لم تتحقق.
فتح باب الشقة الذي نسي في الصباح ان يغلقة خوفا من تاخيره عن العمل، دخل وعيناه تودعان هذه الشقة أحزانا أخرى، فلم يعد هناك في هذا الوجود من يودعه أسراره وأحزانه سوى شقته.
جلس على كرسيه المتأرجح أمام النافذة وسيل أفكار متشتتة تعوم في مخيلته، حاول قليلا أن يطبق جفنيه علّه يستريح قليلا من عناء الحياة، وشيئا فشيئا استسلمت عيناه لذلك.. حاول بعد ذلك أن يعيد فتحهما ليبدأ حياة جديدة ولكن عينيه استسلمتا للأمر ولم يكن لديهما رغبة في الحياة من جديد.
خرج أحمد من غرفته التي انبعثت منها رائحة البطانيات المنثورة هنا وهناك، والستائر التي ما زالت تحجب عنها أشعة الشمس، وجد صديقه ما زال على كرسيه منذ ليلة البارحة عندما كان غارقا بمشاهدة التلفاز.
ناداه من بعيد ولكن صوته عاد أدراج الرياح، اقترب منه قليلا.. هزّ كتفه مناديا: ناصر.. ناصر.. قم لقد تأخرت كثيرا عن عملك..
يهزه في المرة الأولى والثانية ولم يجبه حتى سكب عليه الماء في المرة الثالثة، نهض ناصر منتفضا وعينيه في أحمد والغرفة والماء المنسكب على ملابسه وكل شيء، وأحمد ينظر إليه باستغراب، بعدها قهقه بصوت عال وهو يقول: أنا حي.. أنا حي، وخرج من الشقة وهو يردد: أناحي.. أناحي، وأحمد لم يفهم شيئا من ذلك.

لينا بنت زاهر الخصيبية

أحمد الهديفي
20-07-2011, 07:24 PM
جدتي.. إذ حكت

جدتي قالت: عبيد لم يكن هكذا..
يقال إنه استيقظ يوما ووجد نفسه ليس رجلا، فاجأه شعور طاغ بأنوثة تطارد مكامن رجولته، أغلب الناس خمّنوا أن زوجته التي تزوجها قبل أشهر من زنجبار هي التي دست له هذا السحر، وآخرون قالوا بأن الله أراد معاقبته عندما دخل المسجد يوما وهو سكران، فتبول على سجادة الإمام.
نعم فعلها ذات يوم غاب عنه القمر، أنت لم تسمع بالحادثة لأنك لم تكن قد ولدت بعد، نبّهك أبوك كثيراً بألا تقترب منه، الجميع يعلم أنه ومنذ صغره مختلف عن البقية، عندما أصابت الحصبة أخوته، ماتوا جميعاً، وظل أقوى من الحصبة وفعل الموت، يقال بأن الشر لا يموت إلا بشر مثله، فماتت الحصبة على يديه، ومما يقال أيضاً بأن جنية رأته عند الفلج فتمنّت أن يكون ولدها فتلبسته.
أتقصد حمدان الشاه!!
لا يا ولدي، حمدان كان رجلاً تقياً، لا تصدّق ما يشيعه الأطفال الصغار عنه، حمدان هذا إحدى مصائب عبيد، ذات يوم طلب عبيد من حمدان أن يزوجه من ابنته، لم يكن حينها شر عبيد بادئ في الظهور، حمدان رفض أن يزوج ابنته رجلا بلا صنعة، وبعد يومين فقط وجد حمدان في الدرس يأكل مع الأغنام، فسمي المسكين بحمدان الشاه.

ـ ما الذي ذكرك بهذه الحوادث الآن؟!، لم يعد في القرية ما يخاف منه.
ـ أنتم الآن أبناء مدارس، ومدارسكم محت كل شيء.
ـ ماذا تقول؟
ـ لا أريد أن أقول شيئا، لأني أعلم بأنها أكاذيب؟ّ!!!
ـ يا قليل الأدب..هل علموكم في المدارس أيضاً تكذيب أمهاتكم وجداتكم!!
ـ أنا لا أريد أن أحكي، لأن كل شيء أوشك على أن ينتهي
أي جلبة تعني؟...جلبة الديدان!!
أه نعم ..كانت بفعل عبيد أيضاً، ولكن أهل القرية هذه المرة فرحوا بفعلته، المزرعة كانت ملكاً لجده، جاءني المخاض فيها وولدت أبيك تحت إحدى نخيل الفرض، كانت مزرعة نخيل كبيرة جداً، عندما مات الجد ورثها سعدون الحرامي عم عبيد، فرفض أن يعطيه نصيب أبيه من المزرعة، فلما جاء الحصاد أثمرت النخيل ديدان صغيرة، وبقت حتى وفاة سعدون تثمر ديدان، بالرغم من أنه ذهب إلى عبيد وترجاه كي يأخذ نصيبه من المزرعة.
عبيد الآن ليس كسابق عهده، كان يؤذي الناس، والآن الناس توشك أن تؤذيه، أنت لا تصدق ما أقصه بسبب هذه الكتب التي ملأتم بها رؤوسكم، أنت بنفسك حذرناك منه كثيراً، ولكنك كنت تبتسم وتقول بأن ذلك الخوف كان في الماضي، عندما لم تكن هذه موجودة...وتشير إلى كتبك.
ـ نعم..هذا الورق أراحنا من أشياء كثيرة، ولكنه جركم إلى أشياء أكثر.
أتضحك من كلامي يا ولد؟
اخرج من غرفتي... ما رباك أبوك هكذا يا متعلم.
لا...
نهاية عبيد بقت غامضة إلى الآن..
ابتدأت نهايته عندما عاد سيف المرضي إلى القرية، نعم سيف ما غيره، أبا نورة التي جئتنا فيها عاشق ومغرم، ما كنت تجهله هو أن سيف كان متعمقا في الدين، حتى غلب على أمره فاتجه دون أن يشعر إلى الكفر، عندما عاد ذات ليلة، قطع عهداً بألا يمكث في القرية ما بقي عبيد حياً، ومنذ ذلك اليوم وذلك العهد، والحوادث تتوارد تارة على عبيد، وتارة على سيف، حتى استيقظت القرية ذات صباح لتجد سيف غائباً مرة أخرى، وعبيد أشبه بالميت.
ـ قم يا ولدي احضر القهوة... ألام المفاصل لا يتركني...لو كان لهذه الكتب منفعة بحق، لأحضرت لي دواء لهذا الداء.

وفاء بنت سالم الشكيلية

أحمد الهديفي
20-07-2011, 07:32 PM
القصه الفائزة بالمركز الثاني

" جُونيَّة سَبُوس(1) "

قال لابنه وقد شارف على ساعة الحسم: "ضم السكاكين عن الغنم لا يشوفنهن! " .. كان ذلك صبيحة اليوم الثاني من عيد الأضحى، ترددت عبارة زاهر في ذهن ابنه الذي سأله عن السبب وراء ذلك فأوضح زاهر بأنه لا يفهم لغة السلاح الأبيض أحد أكثر مما قد تعيهِ الغنم !..
"شاة عجوز" كانت تنظر من أحد الشقوق الصغيرة التي كانت تفتح مداخل للهواء عبر جدار "الدرس(2)" ، تنظر لزاهر وابنه اللذين كانا يعدان لمراسم الذبح في ساعات الصباح الباكر وهي تستعيد ذاكرة طقوسٍ سابقة حسمت سابقا في مثل ذلك التوقيت من السنة كما جرت العادة!، فقبل الموعد المشهود تعودت عجوز الغنم أن ترى سخاء زاهر في ما يقدمه حصريا لـ تيوس القطيع الفتية، الفتية منها فقط !!.. يقدم القت الطازج والبرسيم والأعلاف الطرية التي يضِن بها على باقي القطيع طوال أيام العام إلا ما ندر ! .
كانت "الشاة العجوز" قد فقدت ابنيها الاثنين في مواسم سابقة، وباتت ترقب باقي تيوس القطيع متسائلة في كل موسم: "على من سيحين الدور؟؟!"، كانت تعد الأيام تنازليا بعد أول ليلة يأتي فيها زاهر وابنه بـ "جونية السبوس" الكبيرة لإطعام مجموعة معينة من التيوس ولمدة شهرين متتاليين حتى اليوم الموعود!! كانت تعي العجوز لمَ يفعل زاهر ذلك! ، فقد سمعته وهو يخبر ابنه حين سأله ذات مرة ؛ بأنه يجب إعداد جسد الأضحية بما يكفي لتكون دسمة وسمينة ..
استيقظت الشاة العجوز من سرحانها العميق على صوت فتح الباب الحديدي الذي كان يحكم فصلها والقطيع عن العالم الخارجي .
دخل زاهر وابنه سعيد إلى الدرس .. كانت الشياه تهرب من زاوية إلى أخرى وزاهر يطارد ! .. كانت جميع الغنم تهرب بما فيها فتيان القطيع إلا "الشاة العجوز" ليس لأنها عجوز لا تقدر على الجري ولكن لأنها كانت تعلم ـ على الأقل ـ أنها ليست المقصودة من هذه المطاردة.
أمسك زاهر بأحد التيوس الفتية، وبدأ يجره بقوة إلى خارج الدرس، كان التيس ممتلئا بغروره الشاب، حيث إنه الأقوى والأفضل، فأبدى تمردا شديدا وهيجانا كبيرا يظن منه سعيد أن والده لن يستطيع السيطرة على التيس.. لا زال التيس هائجا ولكن رغم ذلك تم اقتياده إلى الخارج .
جره زاهر إلى الخارج نحو زاوية تقبع على يسار الدرس، حيث أوجد هناك مكان الحسم!! .. عادت الشاة العجوز لتنظر عبر نفس الشق الذي اعتادت أن تنظر منه في كل مرة، حيث اتضح أمام ناظريها زاهر والتيس الذي بدأ يهدأ لسبب غريب لا تفصح عنه الأضحية، أو لم يسبق الإفصاح عنه..
صاح زاهر على ابنه سعيد قائلا "قرب الماي حل التيس عشان يشرب" كان ذلك أحد مراسم هذا الحدث.. فأتى سعيد بسطلٍ من الماء ووضعه على مقربة من التيس..
شرب التيس حتى ارتوى، فيما لا زالت العجوز تنظر للمشهد المعاد مرة أخرى..
كان الحال هادئا حتى أبعد سعيد السطل ووضعه في زاوية أخرى ليسبقه وقع عراك !! ، حيث تناول زاهر فجأة وبكل طاقته وقوته التيس من رجليه وطرحه أرضا بسرعة كبيرة إذ ثبته على أرض الحسم وأحكم تثبيته وأمسك بالسكين! .. هنا أغمضت العجوز عينيها فجأة ، وظلت تستمع لصوت التيس الهالك والأصوات المنبعثة من دمه النافر وتشرخات حنجرته المشدودة وصوت ترفسه بين الحين والآخر ..
هدأت الأصوات فجأة.. فتحت العجوز عينيها بعد لحظات من اعتراك الأصوات في أذنيها وتتابع المشاهد في ذاكرتها، فإذا بها ترى السكين البيضاء وقد احمرت ووضعت فوق جسد التيس الهالك وهو يترفس بثقل وهدوء بالغين حتى بدأت ترحل قوته إلى عالم آخر..!، أدارت الشاة ظهرها لنافذة الحقيقة التي كانت تنظر منها..!، وجلست في مخدعها المعهود وهي تعتزل كعادتها باقي الغنم!! ..
بعد ذلك اليوم توقفت إرساليات القت التي كانت تأتي لباقي التيوس، والتي كانت تطول الغنم بالقليل غير المقصود منها.. وتوقف السبوس عن القدوم على أحضان زاهر في جونيته الضخمة.. وعادت حياة الغنم إلى طبيعتها مرة أخرى!! ..
مرت الأيام تلو الأيام وأتى الموسم الجديد وقد كبرت فتيانٌ أخرى من تيوس القطيع !!..، وبدأ زاهر يطعم تيوسه القت والبرسيم مرة أخرى، وبينما كانت العجوز تتابع الحدث هذا مرة، إذ بدأت علامات اليوم الموعود بالظهور!! .. ففي صبيحة أحد الأيام كان زاهر يجهز جونية السبوس ليأتي بها إلى صـفــوة التيوس التي كان يعدها كي يختار من بينها " العيد " - كما كانوا يطلقون هذا الاسم على الأضحية- .. وبينما كان زاهر وابنه يجهزان الجونية، حمل الابن المشاغب شيئا من السبوس في كف يده مازحا؛ فملأ به فم أبيه عبثا في جوٍ يسوده المرح، مسح الوالد عن فمه بقايا السبوس العالق على شفاهه وهو يضحك ! .. وأنب ابنه وهو بالكاد يتمالك نفسه ضحكا.. كان هذا المشهد المضحك يرتسم على عيني الشاة العجوز من بعيد وهي خلف قضبان الباب الحديدي، حيث بانت عليها ابتسامة خافتة تعي أن العد التنازلي للشهرين السابقين لليوم المشهود قد بدأ منذ أن ظهرت جونية السبوس ..
بدأ يتبادر في ذهنها تساؤل غبي في نظرها ولكنه كان مجرد تساؤل : "هل تذوق زاهر السبوس ؟؟ ".. فجأة وجدت نفسها وقد تمددت عيناها على جونية السبوس الضخمة التي سد بها زاهر سرحانها اللامتوقف ليزيحها من وراء الباب حيث فتحه سائرا باتجاه صفوته التي اختارها ليغذيها بالسبوس كما اعتاد في كل موسم ..
استمر زاهر في تقديم السبوس طوال الشهرين لمجموعته المختارة من تيوس القطيع، حتى بزغ فجر ثاني أيام العيد الأضحى.
استيقضت الشاة العجوز قبل الجميع كالعادة متأهبة لتضع إجابة عن تساؤلها المتجدد.. "على من سيحين الدور ؟؟!" ..
تنفس الصباح حياته التي أمده إياها الخالق .. وبدأت تتضح قسمات الشمس للعيان، وأتى زاهر وابنه سعيد ليجهزا مكان اليوم الموعود ويخبئا السكاكين من جديد..
ترقبت الشاة العجوز من شق الجدار أحداث ذلك اليوم مثلما كانت تفعل قبل مراسم كل حدث ناظرة لـزاهر وابنه وهما يجهزان العدة وقد بدأا طقوس اليوم الموعود ..
فجأة !.. سقط زاهر من ناظر العجوز .. وقع على الأرض .. فَزِعَ الابن لأبيه بفجائية غريبة فأمسكه وهو يصرخ : "أباااااه .. أبااااه !!"
- زاهر ( الأب ) : ... !
- سعيد (وهو يلطمه على خديه محاولا إعادته لوعيه ) : "أباااااه .. أبااااه .. قوووم .. قوووم أباااه "
أجحضت العجوز عينيها بشدة حتى إنهما تكادان تعبران شق الجدار .. وأذناها تنتظران إجابة زاهر لابنه ..
ولا زال سعيد يصرخ .. "أباااه قوووم ... مالك؟؟ .. أبا قووم .. مووو فيك ؟؟ "
لا إجابة تخرج من شفاه زاهر .. ولا نفس من رئتيه .. ولا شيء يذكر !!
فأجاب الصمت بلغة الإيحاء : "مات زاهر"....!!

هوامش :
1 - طعام يقدم للغنم.
2 - مصطلح عامي وهو مسمى آخر للزريبة.


أحمد بن سالم بن عبدالله الكلباني

أحمد الهديفي
20-07-2011, 07:33 PM
عبورٌ على طرقاتِ المدينة

رأيتهم قبل ولوجي إلى داخل البيت، تلتحف أجسادهم السماء،لا مأوى يحفظ أرواحهم من الهلاك. مذ عرفتهم وهم منبوذون من الناس. يرتحلون من زاوية إلى زاوية أخرى في هذه المدينة الصاخبة؛ بحثا عن بقعة معتمة تقيهم شر ما يحيكه الليل في لجيته. هذه الأسرة الصغيرة مبنية من الأم وتؤمها والباقي لفظتهم المدينة منذ زمن.
يلعبون في الطرقات الأسفلتية الصماء، تغريهم ثغرة على حافة الأسفلت، تتنفس الأرض منها ترابا، ينثرون الغبار بأناملهم الصغيرة وهي تحفر في تلك الثغرة بحثا عن فرح لم تبتلعه المدنية بعد.
دخلت البيت معدوم الرغبة في لقيا أحد من سكانه، وكان لي ما أردت، بدأ المكان خاليا، مرهقٌ أنا اليوم حد الموت، تقتات من جسدي الأيام لترديني في أواخر عمري فتات!
يخنقني هذا الجو الكئيب من غرفتي، حملت هاتفي على عجالة وخرجت من البيت مسرعا. أوقفني شيءٌ ملقي على الأرض، لا يبدو من بعيدٍ ذا هيئة، اقتربت من السواد المكب على الإسفلت، صعقتني المفاجأة وأنا أرى التوأم المشرد ملقيا على الأرض. هززت رأسي كثيرا متعجبا قبل أقل من 10 دقائق كانا يجريان أمامي! والآن أجسادهم ملقية على الإسفلت اللعين!! أهما أموات؟ لا أعلم فتبدو أجسادهما مسلوبة الروح. أيعقل أن يكونا نائمين وسط هذا الصخب الموجع للشارع؟! وقفت أتأملهم دقائق مبهت الوجه. في تلك الفترة تخطتنا أجساد كثيرة مرت سريعًا من حولنا ولم يقف أحد منهم. في داخلي رغبة عاتية للاقتراب وقطع الشك باليقين أهم أموات حقا؟ ولكني أيضا لم أحرك ساكنا. نهرت نفسي كثيرا. فيباغتني صوت من أعماقي داكن باهت: وإن كانوا أموات فماذا بيدك أنت أن تفعل؟ دعك منهم وامض كغيرك كأنك لم ترهم، فيرد عليه صوت غائر يطالبني بالاقتراب ونزع الجبن من نفسي، ثم ما يلبث أن يعود ذلك الصوت الباهت قائلا: وهم أحياء لم يشغلا بال أحد فلماذا كل هذه الجلبة المصطنعة؟! دعهم إن كانوا أمواتا حقا فستأتي البلدية لحملهم هي أعلم منك بهذا الأمر ...ثم ما الغريب إن مات فقيرٌ مشردٌ؟ هذا قدرهم مثل قدرك. ربما لو وُجدوا في بلد مغاير لكان هناك الآن من يلقي آلاف الورود والقبلات على توابيتهم الفاخرة. هذا حظهم ان أجهضتهم الحياة في مجتمع ينازع الفقر. ودون إحساس مني وجدت نفسي أبتعد عنهم، وصوت من داخلي يعلو ...ينعتني بالآلاف من الاتهامات والكلمات القاسية. سيءٌ أنا وكل من حولي سيئون، قلوبنا سوداء كوجوهنا.
دون أن ألقي بالا للطريق وجدت نفسي أمام بيت رفيقي. سامرني قليلا وأنا شاردا بغفلتي، في نفسي حرائق لا تنطفئ تزداد اشتعالا، و فكري ما يلبث أن يبث من جديد مشهد التوأم كأن ذاكرتي ترفض أن تلعنه منها. لم أسطع أن أتحمل طويلا فالذنب يصلبني كالمقتول، توجعني كفوف الآلم التي يرسلها لي، قمت جريا، لأندهش، وأبهت، وأبتلع ملامحي في جوفي وأنا أرى التوأمين وقد عادا يلعبان ويجريان. ترتسم ملئ أشداقي ابتسامة حين أتذكر بأنهما كانا نائمين تأخذهم الغفوة إلى أوسع أبوابها. وها هم يعودان أمامي ينبشان الغبار بأظافر أقدامهما لينتشر الفرح في قلوبهما وينعم قلبي بفرح مكبوت وأنا أرى هذه القطط الصغيرة ما زالت تنهل من الحياة دقائق قادمة تنشر غبار الفرح في الجو فتعدمها زحمة الأبنية.

خلود بنت خميس المقرشية

أحمد الهديفي
21-07-2011, 02:56 PM
النص الفائز بالمركز الثالث عن القصه القصيره

خوزقة !

ذلك الرمح الحاد المغروس في الأرض كشجرة موت، يلمع بشهوة متهيئا للولوج إلى الكتلة البشرية الدافئة. ألا يعجبكِ شموخه؟ قاطع كشعرة موت، خاشع كمئذنة، منتصب كابن شهيد. منتظر كلهفة عاشق.
سأخوزقهم جميعا. لا مفر . بكلمة مني يصبحون جميعا على الرماح. أتعلمين بمن سأبدأ؟ أبدأ بأمي تلك العاهرة التي دعت أبي ليضع حيوانه اللعين في بويضتها القذرة. ثم تزوجها بعد ذلك، بالمناسبة زواجهما لا يعني قطعا أنني لم أعد ابن حرام؟ متأكد أنني ابن حرام وإلا ما كنت بهذا السوء. ما الذي سيحدث لها لو فعلتها مع ابن الشيخ؟! أو أي رجل لعين آخر له جيب. ألم يحلو لها سوى ذلك الشقي!
سأخوزق أمي التي لو لم تفعل ما يشينها غير ولادتي لكفاها، فما بالكِ بعذاب سنوات. سأخوزقها ببطئ لتتذكر كيف كانت تعطي أخي الأكبر بيضتين على الفطور ولا تعطيني سوى واحدة. دائما تفضله علي، حين ينجح فهو عبقري، وحين أنجح فهي نتيجة طبيعة لاهتمامها بدراستي. كنت من يذهب للدكان، ومن يلقي "كيس الزبالة"، ومن يحضر الثياب من "الدوبي". رغم ذلك فأنا مقصر ! مقصر لأن سيارة الخبز تأخرت، أو لأن الهندي الجديد لا يجيد كي الملابس. بالمناسبة هل لديكِ أشقاء؟ لو كان لديكِ لقدّرتِ حجم المحرقة المتوحشة بداخلي... أما أنتِ يا أمي العزيزة فتخوزقي بتفانٍ، تخوزقي أنت وابنك المفضل. تخوزقوا معا كعائلة سعيدة. وحده أبي الذي سأنجـّـيه اليوم ببدنه. صحيح أن فقره أذل طفولتنا لكن هذا ذنب العاهرة وليس ذنبه بعد كل شيء.
سأخوزق كل معلمي الإنجليزية الذي اعتقدوا أنني غبي. إنهم حتى لم يسألوا معلمي الرياضيات والعلوم عن أدائي. ولعلمكم أيها المتخوزقون فأنا لست طالبا سيئا، كل ما هنالك أني أعاني ضعفا في اللغات. ضعفا عاما حتى في العربية نفسها، ليس ذنبي إن كان النصف الأيمن من دماغي لا يعمل كما يجب، ولكنكم أيها المتعجرفون لم تتفهموا ذلك، هل أترككم وأخوزق دماغي مثلا! حسنا أيها الظرفاء أرجو أن تقضوا good time على خوازيقكم الفاخرة.
أما عبدالستار فلك الخازوق الأطول والأصلب، ليلائم شهواتك. لا تدعي أنك لا تذكر تلك الظهيرة حين فتحت سحاب سروالك، وأمسكت يدي لتضعها عليه. قلت لي أنك تعاني حساسية في عنقك ويصعب عليك الوصول إلى موضع الألم، وطلبت أن أحكه لك ففعلتُ، ثم قلتَ أنك تعاني حساسية في مكان آخر ... ، فما كان مني إلا أن مددت يد العون، وأنا أعني أنني مددت يدي حقيقة. ارتحتَ كثيرا بعلاجي، وقلت أن لي يدا سحرية تمنح الشفاء، وتنبأتَ بأني سأدخل كلية الطب. الذي يغيضني أكثر من أي شيء هو أنني سعدتُ بإطراءك، هل تسمعين أيتها الأم على الخازوق الأخير، سعدتُ لأنهم أثنوا علي، في البيت كل الثناء محجوز للولد المذهل المتخوزق عن يمينك. حسنا أيها القذر يسعدني أن أشفيك الآن من كل معاناتك. تلذذ بخازوقك أيها الخنيث. ولعلمك فنبؤتك كذبت وأنا لم أتمكن من دخول كلية الطب، لأسباب أقلها أنني ضعيف في الإنجليزية، وإلا –أعني لو كنت طالب طب- كنت سأشرحك حيا. أربط كل طرف منك بالسرير، وأكشف عن صدرك، أدخل المشرط لتصبغ حمرة دمك المثيرة بياض قفازي، أليس رائعا كل هذا البياض؟ السرير، قميصي، القفازات، وكفنك المنتظر بلهفة عروس على الطاولة الأخرى. أتعلم ما سيقول قلبك حين أخرجه؟
"نصحته، لم ينصت، كلما لكزته قال : يلتهمني المنفى، و يوجعني الغياب.
أقول له : في العمر متسع، وللأعياد صبر
ويرد: كلها ماتت
- أهو انتقام؟
- من أبيه
- ما فعل ؟
- أيها القلب انظر في جراحك، كلها منه. على الوجه صفعة، في الصدر بصقة، والجيب فارغ
- البيت ؟
- تساقطت جدرانه مع المطر
- الحبيبة ؟
- أحرقها الشتاء
- وأنت ؟
- أشوه كبد الطاغية "
حتى أبي أيتها الجميلة تبين أنه مستحق للخازوق، ولا عاصم اليوم من أمري ! أيتها الجميلة يا خازوقا يشك فؤادي، ألا تريدين الجلوس على العرش بجانبي؟ سأسمح لك بتصفية حساباتك وخوزقة أهلك بين الحين والآخر. ربما ليس لك أهل، أنت يتيمة، ولا أشقاء لديك طبعا، أتعلمين شيئا ربما لهذا أنت معافاة أكثر منا، حسنا خوزقي أقرانك الذين لهم آباء أغنياء، وأمهات لطيفات. إن لم تطيقي مشاهدة المنظر خبئي وجهك البهي في صدري. ماذا قررتِ؟ أتختارين العرش أم الخازوق ؟ حسنا .. حسنا يا حبيبتي سأمنحك فرصة التفكير حتى نلتقي في المرسم بعد أسبوع، أما الآن فعلي التخلص من لوحتي، فالمحاضر أستدعاني إلى مكتبه آخر مرة ليوضح اندهاشه من رسوماتي "الوحشية" كما يصفها. أتعلمين سنخوزقه أيضا في حصة الأسبوع القادم. ما رأيك ؟ هل تنضمين لي؟


نوف السعيدي

أحمد الهديفي
21-07-2011, 04:24 PM
مُسافر للحظة -

للعلم تم حذف مقطع من النص لحجمه الكبير.

طردني أبي من البيت، هذه ليست المرة الأولى التي أطرد فيها وبهذه القسوة، عادةً يستضيفني أحد أصدقائي في منازلهم، أو أتجه إلى مجلس بيت خالتي، أتسلل كـقط، وأنام دون أن يعلم أحد بمجيئي ..، ثم أعود إلى باب بيتنا صباحاً كجرو يرمى في السيوح ويعود إلى ذات جهنم التي لا تطيقه، أتوسل إلى أبي أن يُدخلني، فلا يسمح لي بذلك إلا بعد أن يُشعرني بدونيتي ثم أدخل .
اليوم هو اليوم الوحيد الذي اتخذت فيه قراراً صارماً إلى هذا الحد، لم يفلح أي كائن في إقناعي بالتراجع، أيّ أب يمكن أن يضع رأسه على وسادته دون أن يطمئن على أبنائه أنهم بسلام ؟ كيف لأبي أن ينام، هو يعلم جيداً أنني لا أملك نصف ريال في جيبي ويعلم أن هاتفي بلا رصيد وأنا خارج البيت.
ألصق كفه الغليظ على خدي بعنف وأغلق الباب في وجهي، هذا ما أتذكره جيداً، هي خمسة دقائق فقط لم تسعفني، تأخرت بها عن موعد إغلاق بوابة البيت، هل كان تأخري هو جرمي الوحيد لأحصد كل هذا، وبهذه القسوة .. ،!
لا أريد أن أجشم خالتي الشجار مع زوجها بسبب مبيتي في مجلسهم كل مرة، بحجة أنه يخاف على بناته مني، ولا أريد أن أثقل على أصدقائي، فمؤكد أن لهم أباء كأبي أو لا .. ربما أقل قسوة، لابد أن أصر على قراري ..
لم يقصر أبناء خالي في تكفل تعبئة هاتفي، ولكنهم بعيدون عني لتزويدي بالمال، وحدهم من يُدركون ما أٌقاسي، وحدهم من يعلمون جيداً تفاصيل معاناتي مع أبي، وعدد مرات طردي من البيت، يعرفون أسرار طلاق أمي، وسر رسوبي في مادة الفيزياء هذه السنة، ولذلك أخبرتهم بخطتي في الهرب إلى أمي، لن يساعدني أحد سواهم، حتى أخي الأكبر الذي كان سبب تأخري في تلك الخمس دقائق اللعينة لن يساعدني، وسيخشى على موقفه أمام أبي.
اتصلت بصديقٍ لي يملك سيارة، طلبت منه أن يوصلني إلى مركز الحدود، لأسافر إلى أمي، تذكرت أن السفر إلى أمي بعيد بعيد، ويحتاج أن أحصل على بطاقتي الشخصية، تلك التي يحتفظ بها أبي كوصية شيطان، كيف لي أن أحصل عليها يا ربي، طلبت بطاقة ابن عمي الشخصية كونه يشبهني، كنت أستعيرها منه كلما حاولت الهرب وأعيدها بعد أن تفشل كل مخططاتي، اليوم سأحتاج إليها كثيراً، أوصلني صديقي إلى مكان ما لم يستطع أن يوصلني لأبعد عنه، كون أنه لا يستطيع أن يتأخر عن البيت، ولهذا عذرته، لربما هنالك ساعة السندريلا التي ينتظر فيها الآباء أبناءهم، وتركني في مكان يبعد عن مركز الحدود بكثير، شكرته ثم نزلت من السيارة، المكان لا يبدو غريباً، رباه .. لم أخرج من حدود مدينتي الشاسعة بعد ..
ماذا افعل !؟ ، كنت أشعر بالجوع، ولم يبق شيء عن وقت الإمساك، المطاعم ممتدة على امتداد الشارع وأنا أمشي، أمشي ..
توقفت إلى أحد المقاهي، طلبت قنينة ماء، أسعفني درهم إماراتي في محفظتي ظللت محتفظاً به لأكثر من سنة، ولكن العطش كان أقوى من أن أتمسك بذكرى عابرة قديمة، تابعت المشي، أوقفتني سيارة أجرة، يبدو أن سائقها في ـ سن جدي، طلب مني الركوب، ولكني أومأت له بالذهاب كوني لا أملك ثمن الأجرة، فـرحل ..
سمعت آذان الفجر، مررت بمسجد وصليت فيه، دعوت ربي أن يوصلني إلى أمي قبل أن يعرف أبي بتحركاتي، ما أن خرجتْ حتى اتصل بي أخي الأكبر، لم يسألني عن مكاني، أو " هل تسحرت " .! طلب مني بإصرار العودة إلى البيت والتوسل إلى أبي كالعادة:
- سـأعود، لا تقلق، أنا بالقرب من المنزل.
هكذا أخي دائماً لا يشعر بما أشعر، وسيخلد للنوم بعد دقائق.
الجو حار للغاية، يبدو أنني قطعت مسافة طويلة وأنا أمشي،
كم هي المسافات قريبة جداً حينما نمشي وأذهاننا مشغولة بالتفكير إلى أبعد حد، كم أتوق لحضن أمي بعد هكذا عراك مع الزمن، كنت قد طلبت من أبناء خالي مساعدتي في إيصالي إلى مركز الحدود الذي سأنتظر أمي بالقرب منه، أتمنى أن لا يخذلوني، فقدماي تقطعت من المشي،
تفاجأت بأن أبناء خالي يصلون إلي بعد أن فقدت الأمل، كرحمة مرسلة من الله، وصلت إلى درجة كنت أتصبب فيها من العرق والضمأ وأنا صائم، دموعي تختلط بعرقي، رافعاً ثوبي إلى ركبتي لتتسع خطوتي، خجلت كثيراً من مظهري أمامهم، ركبت معهم السيارة، شعرت بالخزي أكثر حينما تكررت مكالمات أمهم بين الدقيقة والدقيقة الأخرى، وهم يترددون في الرد ..
كان الوقت فجراً، ضحكنا كثيراً كأن لم يحدث شيء، فنحن في هذا السن، تجمعنا ذات الهموم على اختلاف الطرائق، والتفاوت في درجات القسوة، كنت فرحاً بلقائهم، كوني حُرمت من الذهاب إلى بيتهم منذ أن رحلت أمي، أوصلوني إلى المركز، وجدت أمي هناك تبكي، وأخيراً رأيت وجهها بعد غياب عامين .. شاحباً كما لم أتوقع، أخذتني لحضنها، الحلم الذي لا أود له أن ينتهي.
فجأة، انتزعني أبي من كتفي ورمى بي في سيارته وعدت إلى جهنم.

عائشة المعمرية

أحمد الهديفي
21-07-2011, 08:02 PM
عبورٌ على طرقاتِ المدينة

رأيتهم قبل ولوجي إلى داخل البيت، تلتحف أجسادهم السماء،لا مأوى يحفظ أرواحهم من الهلاك. مذ عرفتهم وهم منبوذين من الناس. يرتحلون من زاوية إلى زاوية أخرى في هذه المدينة الصاخبة؛ بحثا عن بقعة معتمة تقيهم شر ما يحيكه الليل في لجيته. هذه الأسرة الصغيرة مبنية من الأم وتؤمها والباقي لفظتهم المدينة منذ زمن.
يلعبون في الطرقات الأسفلتية الصماء، تغريهم ثغرة على حافة الأسفلت، تتنفس الأرض منها ترابا، ينثرون الغبار بأناملهم الصغيرة وهي تحفر في تلك الثغرة بحثا عن فرح لم تبتلعه المدنية بعد.
دخلت البيت معدوم الرغبة في لقيا أحد من سكانه، وكان لي ما أردت، بدأ المكان خاليا، مرهقٌ أنا اليوم حد الموت، تقتات من جسدي الأيام لترديني في أواخر عمري فتات!
يخنقني هذا الجو الكئيب من غرفتي، حملت هاتفي على عجالة وخرجت من البيت مسرعا. أوقفني شئٌ ملقي على الأرض، لا يبدو من بعيدٍ ذو هيئة، إقتربت من السواد المكب على الإسفلت، صعقتني المفاجأة وأنا أرى التوأم المشرد ملقي على الأرض. هززت رأسي كثيرا متعجبا قبل أقل من 10 دقائق كانا يجريان أمامي! والآن أجسادهم ملقية على الإسفلت اللعين!! أهما أموات؟ لا أعلم فتبدو أجسادهما مسلوبة الروح. أيعقل أن يكونا نائمين وسط هذا الصخب الموجع للشارع؟! وقفت أتأملهم دقائق مبهت الوجه. في تلك الفترة تخطتنا أجسادا كثيرةً مرت سريعاً من حولنا ولم يقف أحد منهم. في داخلي رغبة عاتية للاقتراب وقطع الشك باليقين أهم أموات حقا؟ ولكني أيضا لم أحرك ساكنا. نهرت نفسي كثيرا. فيباغتني صوت من أعماقي داكن باهت: وإن كانوا أموات فماذا بيدك أنت أن تفعل؟ دعك منهم وأمضي كغيرك كأنك لم ترهم، فيرد عليه صوت غائر يطالبني بالإقتراب ونزع الجبن من نفسي، ثم ما يلبث أن يعود ذلك الصوت الباهت قائلا: وهم أحياء لم يشغلا بال أحد فلماذا كل هذه الجلبة المصطنعة؟! دعهم إن كانوا أمواتا حقا فستاتي البلدية لحملهم هي أعلم منك بهذا الأمر ...ثم ما الغريب إن مات فقيرٌ مشردٌ؟ هذا قدرهم مثل قدرك. ربما لو وُجدوا في بلد مغاير لكان هناك الآن من يلقي آلاف الورود والقبلات على توابيتهم الفاخرة.هذا حظهم أن أجهضتهم الحياة في مجتمع ينازع الفقر.
ودون إحساس مني وجدت نفسي أبتعد عنهم، وصوت من داخلي يعلو ...ينعتني بالآلاف من الإتهامات والكلمات القاسية. سيءٌ أنا وكل من حولي سيئون، قلوبنا سوداء كوجوهنا.
دون أن ألقي بالا للطريق وجدت نفسي أمام بيت رفيقي. سامرني قليلا وأنا شاردا بغفلتي، في نفسي حرائق لا تنطفي تزداد إشتعالا، و فكري ما يلبث أن يبث من جديد مشهد التوأم كأن ذاكرتي ترفض أن تلعنه منها. لم أسطع أن أتحمل طويلا فالذنب يصلبني كالمقتول، توجعني كفوف الآلم التي يرسلها لي، قمت جريا، لإ ندهش، وأبهت، وأبتلع ملامحي في جوفي وأنا أرى التوأمان وقد عادا يلعبان ويجريان. ترتسم ملئ أشداقي إبتسامة حين أتذكر بأنهما كانا نائمين تأخذهم الغفوة إلى أوسع أبوابها. وها هم يعودون أمامي ينبشون الغبار بأظافر أقدامهم لينتشر الفرح في قلوبهم وينعم قلبي بفرح مكبوت وأنا أرى هذه القطط الصغيرة ما زالت تنهل من الحياة دقائق قادمة تنشر غبار الفرح في الجو فتعدمها زحمة الأبنية.

خلود بنت خميس المقرشي

أحمد الهديفي
23-07-2011, 08:22 PM
يوم من أيام ريم

من بين سحب بيضاء متراكمة يتسلل ضوء الشمس ليخبر الصباح الذي يغطي ملامحه بقايا ظلام بشروق الشمس مبشراً إياه ببداية يوم جديد. يجمع الضوء نفسه ليتسلل من نافذة غرفة ريم وبالرغم من دقته ولونه الخافت إلا أنه قد حول المكان من لونه القاتم إلى لون مبهج يجمع بين الحمرة والاصفرار ولكن كل ذلك لم يوقظ ريم من نومها العميق فهي غارقة في أضغاث أحلامها غير مبالية بجمال المنظر الذي يحيط بها غير شاكرة لضوءٍ أصبغ على غرفتها لونا مميزا لا يستطيع بنو البشر أن يصبغوا مثله. بينما ريم غارقة في نومها مبتسمة فرحة بحلمها الجميل إذ بصوت كالرعد يخرق أذنها ويجعلها تقفز من سريرها وكأنها نهضت من كابوس مرعب محدقة بعينيها الواسعتين كالبلهاء وكأن الصوت ينبئها بقدوم عاصفة مدمرة. يعلو الصوت أكثر فأكثر "ريييييييييييييييييم"
تصرخ ريم"آآآها أمي لقد أفقت كفي عن هذا.يا إلهي ما أجمل النوم .آها من الذي اخترع المدرسة؟"
تنهض ريم بتكاسل بينما أمها منهمكة بتحضير الفطور وصوت أمها يكاد يفجر البيت "أيتها الحمقاء أسرعي أنت متأخرة". تهمس ريم لنفسها " هل حقا أنا حمقاء ؟؟؟ سئمت من سماع هذه الكلمة". تحدق ريم في المرآه تندهش من شعرها المتطاير في الهواء وعينيها المنتفختين كأن حشرة ضخمة لدغتهما " يبدو أنني فعلا حمقاء’آها يجب أن أسرع" . ترتدي ريم زيها المدرسي بسرعة البرق ثم تتناول فطورها بنفس السرعة وتحدث نفسها " لقد قالت المعلمة لا يجب أن نبتلع الطعام بسرعة لأنه سوف يتعب المعدة ولكنني مستعجلة"
تخرج ريم من المنزل بسرعة بابتسامة عريضة ترتسم على وجهها الطفولي وبينما هي خارج البيت إذ بطفلة جيرانها تبكي أمام بيت الجيران فوقفت ريم متأثرة ببكائها الغير طبيعي ولكن تابعت طريقها خشية أن يدق جرس الطابور ويستقبلها توبيخ يؤلم قلبها الصغير ولكنها شعرت بأن صياح الطفلة يناديها ويستنجد بها فتوقفت وهمست لنفسها" المدرسة لا تبعد إلا بضع خطوات وقد علمتنا المعلمة بأن نفعل الخير دائما لنكسب محبة الله". ركضت ريم للطفلة ’وصل قلبها الحنون قبل أن تصل قدميها لتتبين أن الطفلة مصابة بجرح بسيط يؤلمها وأمها منهمكة في المطبخ لا تسمع صوت طفلتها . أخذت ريم تنادي " هل من أحد في البيت؟ إييييييييييه أجيبوا ’آه سيدق الجرس’ الجرررررررررررس
ردت أم الطفلة" ريم ما به الجرس ؟" . أجابت ريم " لا شي لا شي طفلتك مصابة بجرح بسيط تعالي إليها وأنا سأذهب إلى المدرسة.إلى اللقااااء ".
شعرت ريم بسعادة تجتاح روحها الطيبة وأيقنت بأن فعل الخير ولو كان بسيطا يدخل إلى القلب سعادة لا مثيل لها. دق جرس الطابور قبل أن تدخل ريم المدرسة فتسرع بكل ما أوتيت من قوة لتصل بسرعة وعندما وصلت استقبلها حارس المدرسة بابتسامة ساخرة"لماذا أنت متأخرة؟ آها " ’ تحدث ريم نفسها " ما دخل الحارس بي ولماذا يتدخل بكل صغيرة وكبيرة لا تعنيه". تتابع ريم طريقها وتسمع السؤال مرة أخرى " لماذا أنت متأخرة؟" ’ تتحدث ريم بصوت مرتفع " آها لماذا يعيد السؤال مرة أخرى لماذا لماذا لماذا؟ ’ وبينما تردد نفس السؤال اصطدمت بشخص لا تعرف من هو فرفعت رأسها لتكتشف أنها أمام شخص طويل جدا يبدو في نظرها كأنه عملاق احتل المدينة توا ويجب عليها الهرب. أطلق العملاق قنبلة السؤال مرة أخرى " لماذا أنت متأخرة؟" ’ أجابت ريم" أستاذتي المديرة" فارتعش جسمها وبدأت تتلعثم في الكلام "آنا آنا آنا" صرخت المديرة " هي اذهبي إلى الطابور ولا تتأخري مرة أخرى".
مديرة المدرسة التي ترتادها ريم تتميز بطولها الملفت للنظر وضخامة جسمها الذي كان يشكل رعبا لطالبات المدرسة بالإضافة إلى شخصيتها القاسية ونظرتها الحادة التي تحول طالبات المدرسة إلى كتلة ثلج لا حراك لها.
بدأ طابور الصباح وبدأت ساحة الطابور تهتز إثر تمارين الصباح فيبدأ النشاط يدب في نفوس الطالبات لتكون بداية اليوم الجديد خالية تماما من الكسل الذي يهرب في وجه النشاط الذي يرسل رسالة إيجابية لعقول الطالبات تحمل مضمون " كن مستعدا لاستقبال المعلومات "
تؤدي ريم التمارين بكل نشاط وسعادة وبعد أن انتهى وقت التمارين جاء وقت أداء النشيد السلطاني فتعلو حنجرة المديرة لأقصى حد لها " الجميع ثابت ولا حركة أبدا "’ جمدت ريم في مكانها لتكون مستعدة تماما ولكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من الشرود " لو كان للمديرة سلطة على الهواء لمنعته من أن يدخل رئتينا وقت النشيد السلطاني"
أدى الجميع النشيد بحماس ووطنية وبعد أن انتهوا أدوا تحية العلم بكل تقدير واحترام. أصبحت ريم ممتلئة بالوطنية وبدون شعور بدأت تحدق بالعلم لفترة ليست بقصيرة ولعلها ردة فعل طبيعية لفتاة مثل ريم تتأثر بما يدور حولها’ عندما أتى وقت قراءة القرآن بدأ الجميع ينصت لكلام الله ولكنهم يتحركون كما يشاءون فتساءلت ريم " لا تصرخ مديرة المدرسة لتطلب منا أن لا نتحرك وقت قراءة القرآن مثلما تفعل وقت النشيد السلطاني بالرغم بأن هذا كلام الله وذلك كلام البشر فهناك فرق شاسع ولا وجه للمقارنة أبدا"
بدأ اليوم الدراسي وبدأت ريم وهي طالبة بالصف الثامن بإخراج كتبها استعدادا للحصة الأولى مؤدية دور الطالبة المجتهدة الحريصة كل الحرص على الحصص الدراسية ’ فجأة صرخت في خوف " آها لم أقم بأداء واجب التاريخ ’ سعاد..بدور.. شروق ساعدوني’ سعاد أحضري دفتر التاريخ هيا أسرعي" نسخت ريم إجابة سعاد بسرعة خيالية ثم تنفست الصعداء" آها لقد ارتحت كيف كتبته بهذه السرعة إنني لشيء عظيم لا يقدر في هذه المدرسة" .
دخلت المعلمة وبدأت بشرح الدرس مسطرة لهم الأحداث التاريخية التي جعلت ريم تتثاءب وتغلق وتفتح عينيها عير قادرة على مقاومة نوم آتى إليها بغتة ’تهمس ريم " لا أحب مادة التاريخ إنها تشعرني بالنعاس " ثم تلتفت إلى زميلتها سعاد"يبدو أن سعاد مستمتعة كثيرا فالبريق يخرج من عينيها كأنها العاشق الولهان الذي ينظر إلى حبيبته لا أعرف إذا كانت تفعل ذلك حبا في المادة أم حبا في المعلمة فقط" .
يدق الجرس لتنتهي الحصة الأولى ثم تمر الحصص واحدة تلو الأخرى ’ بعضها يمر على ريم ببطء وبعضها بسرعة يعتمد عل حبها للمادة والمعلمة ثم يأتي وقت حصة الرياضيات فتصرخ ريم " وقت حصة الأذكياء هههههه" . تدخل المعلمة وتبدأ بالشرح وجميع الطالبات مندمجات مع شرحها ثم تسأل المعلمة الطالبة سعاد لتقوم بحل مسألة مشروحة سابقا في الحصة الماضية. وقفت الطالبة أمام السبورة بدون حركة ثم همست للمعلمة "لا أعرف" قالت المعلمة بصوت عالي هز قلوب الطالبات " أيتها الغبية أيتها الحمقاء أنت لا تفهمين شيئا أبدا كم شرحت هذه المسألة مرارا وتكرارا ولكن يبدو أن عقلك حجرة صماء". احمر وجه سعاد وكاد الإحراج يخنقها فتموت أمام الملأ ولكن دمعة سقطت من عينيها تعبر عن حزن سيطر على أعماقها في تلك اللحظة التي ستدخل من دون استئذان في صندوق الذكريات الأليمة ... لحظة ستظهر أمامها كل ما فتحت صندوق ذكريات المدرسة .
مشت سعاد من أمام السبورة بتثاقل وكأن المعلمة قد ربطت رجليها بسلاسل حديدية لتحكم عليها أن تكون سجينة الأحزان في ذلك اليوم المشئوم بالنسبة لها فليس من السهل عليها وهي مراهقة الآن أن يعتقد الآخرين عنها بأنها غبية وحمقاء ولا تفهم. وقفت الصدمة وقوفا طويلا على وجه ريم مندهشة من تصرف معلمتها التي تحبها وتتباهى بها محدقة إليها " يا ترى ما الذي حدث لها إنها تتصرف هكذا لأول مرة لا بد أنها غاضبة من شيء مسبقا’ ولكن لماذا نعتتها بالحمقاء والغبية إن سعاد بكل بساطة لا تحب مادة الرياضيات وهي طالبة متميزة جدا في مادة التاريخ " نظرت المعلمة إلى طالباتها لترى الدهشة جلية في وجوههن البريئة.
صمتت المعلمة لفترة قصيرة ثم بدأت تستعيذ من الشيطان الرجيم محاولة تهدئة نفسها وبعد فترة الصمت اعتذرت من الطالبة سعاد بصوت عالي ولكن هيهات أن يصل اعتذارها إلى قلب سعاد الغارقة في دموعها فتصرفها القاسي قد أزال المحبة التي كانت تكنها هذه الطالبة لها وربما قد أزال أيضا محبة الطالبات الأخريات بما فيهن ريم التي كانت تعتبرها نجمتها المشهورة والمعلمة المفضلة لديها ولكن سلوكها الذي لا تجد له ريم أي تبرير قد جبرها أن تخرج حبها لها مع ثاني أكسيد الكربون في عملية الزفير لتتنفس هواءا جديدا مفعما بالحب والحياة . قررت ريم أن تختار معلمة أخرى لتكون المفضلة لديها فالحياة في نظرها لا تقف عند شخص واحد .
دق جرس مغادرة المدرسة فأدخلت ريم أغراضها المدرسية في حقيبتها لتغادر المدرسة وقبل أن تخرج من المدرسة وقفت عند البوابة وتنفست الصعداء وعاهدت نفسها أن تدفن أحداث المدرسة الحزينة هنا وأن لا تتذكر شيئا حزينا حدث هنا لتعيش ما تبقى من اليوم بمرح وسعادة.

زينب الجابري

أحمد الهديفي
24-07-2011, 05:09 PM
(جبل الكور)...


تَحتضِنُهَا زُرقةُ السماءِ, تُغَطِيَها قُلنُسوة ضَبابيةً, وَجَدت لَهَا مكاناً بينَ الشُقوقِ العميقةِ الباردهِِ. صَفيرُ الرِيحِ يتقاذفُهُ الصَدَى بَينَ القِمَمِ المُتقابلهِ وعلى السُهُولِ المُظلِمهِ هُنَاكَ على صُخُورِالقِمَمِ, لوَثَتة مُخَلَفَاتِ الطُيُورِ المُحلِقَةِ في الأَرجاءِ.
عَلى أِحدى القِمَمِ يَقِفُ مُمسِكاً طرِيدَته. مِن تَحتِهِ أعواد كَثيره, وَفَوقَهَا رُؤوس مُشرَئِبه تَختَلِسُ مَا يَحَتضِنُهُ المنقار. يَتَكرَرُ المَشهد عِندَ كُلِ شُرُوقِ شمسِ الصباحِ.

على إحْدى القِمَمِ وَاصَلَ مسيرةَ أسَلافهِ. أناخوا فأَنَاخَ مَتَاعهُ, وَعَلَى الصُخُورِ المُبْعثَرهِ صَنَعَ الضِلَ. بَيْنَ شُجَيراتِ "البُوت" صَنَعَ المَكَانْ وَرَوَضَ الطبيعة. تَنَاسلتِْ الأجيال, تَحْتَ صَخْرةٍ كَبِيرة. لوَثَت التُرابْ. فَتنَهدتْ تَحْتَ الأغصانِ مَا خَلّفَتهُ بُطُونَها. طِوَالَ تِلكْ السنين تَطَاولتْ كَمَثِيلاتها, تَعَانَقتِ الأغصانِ, فحَجَبتْ خُيُوطُ الشَمْسِ.صَنَعتْ بَيتاً, لَمْ يَكُنْ سِوَا شَجَرا مِنْ "بُوتْ", وشعرًا من حيوانٍ حَبِكَتُهُ يداهُ, وأغصان ميِتة صَلَبَها بينْ الأرضِِ وَسَقفِ شُجَيراتِ "البُوتِ".

علَى إحْدى الزَوايَا, إفْتَرشَ الأرضِ. حَصيراً مِنْ شَعْرٍ, وغِطاءاً صَغير. يُغْطي جَسَدُهُ. ومنْ فَوقِهِ عَلّقّ "السِمّةْ والقُفْران" وَخِمَارٌ أسودْ, تَحتََهُ قَبْرٌ مَبلول, يَحَتضِنُهُ غُصْنُ شَجَرةٍ قَديمٍ مَليءٌ بالأشواكِ.
كَانَ اسْمُهُ مرهون. رَجُلٌ سَبعينيْ. نَحِيلُ الجَسَدِ. مَلأَتْ رِيَحُتُهُ المَكانَ. فانتمى إليه. تَيبسَتْ قَدماهُ, مِنْ قسوةِ المَكْانِ. فَانَتَعلْ الأرضَ. يَلِفُ إزارهُ المُمتَدِ إلى مُنْتَصَفِ ساقيهِ. يَتَدلى مِنُهُ حبلُ الشْعْرِ المَشدُودِ على خاصرتهِ. يُغْطِي أعْلى جَسَدُهُ لِحافٌ من قُطْنٍ. تَبْرُزُ عُروقِ رَقَبتِه. فتعكِسُ ضوءَ الشمسِ, تختفي عَينَاهُ. يُغَطيهما شعْرُ جِفْنيهِ. فَتَبْرُزُ قَسْوةُ المَكَانِ. تَمْوَجتْ نَاصيتُهُ.عبْر الأيامِ. غَطْتْ لِحيَتُهُ الفضيه وَجْهَهُ الحزين.
***
أَصْواتُ ذِئابِ القِمَمِ تَحمِلُ طَرائِدَ الليلِ الطويلِ. يُغَادِرُ صَوْتُهَا المكانَ. عندَ هذهِ السَاعه, يَتثائبُ الفجرُ, فتبدأُ رِحلةُ النَهَارِ. إمتلئتْ لحيتُهُ بالماءِ. استَقْبلَ الغروبِ. من خلفهِ ظَهَرَ أوَلُ خيْطٍ للشمسِ. نَثَرَ المَاءَ على القبْرِ. عِنْدَ الزاويه من فَوْقِ لِحَافِ الشَعْرِ. تَنَاوَلَ عَصاهُ وَخِرقةٌ صَغيرة. مُعلقة على نهايته.بداخلها خُبْز ٌقَديم, وَبُضَعَ تمراتْ. أجُتذِبتْ نحوَ ترابِ الأرضِ.

تَعالتِ الأصواتُ. إتَجَهَ إليهَا. رُؤوسٌ تُنَاجي, قطرَةَ ماءٍ, وأديمٍ ليستَقِرَ في بُطُونِها المُفرَغَه. أشَاَرَ علَيَها بِعَصاهُ.
"أحَمِدُهُ على نِعَمِهِ" قالها مرهون.
نََثَرَ المِلحَ عَلى الأجسَادِ. لِئَلاَ تَراَهَا الجَمَاعةُ المُقْبِلَه, فَأخَتفتْ واخَْتََفَى خلفَهَا الماءَ تَحْتَ الصَخْرةِ الكَبيرةِ المُعَلقهِ. غَطّتِّ القِمَمِ, والوادي, والسَهْلَ المُظْلِمِ. تَبِعَهَا يَنَتعِل الأرضَ. يَصْدَحُ بِصوتٍ عذْب. فَراغ الجَبَلْ إلتَحَمَْ مَعَْ فَرَاغِهِ. فَكّوَنْ أبيات مِنْ شِعر. وَعَلى كِلا سَاقيْهِ رَبَطَ حبلأً صَغير. حبلاً من شَعْرٍ. سُئِلَ: لما الشَعرُ؟!
"الشْعرُ يُخيِفُ الحياتَ وَيَقتُلُ الهَوامَْ والنَملَ والعَقْربْ". قال: مرهون.


الشْمسُ في كََبِِدِ السْمَاءِ. إنَتصَفَْ النَهار. عَادَ راجِعاً مُمْسِكَا عَصَاهُ, يُعَلِقُهَا على كَتِْفِهِ. في نِهَايتِهِ خِرقَةُ قِمَاش تُأرجِحُهَا الريح. وفي اليدِ الأُخْري سَعَف مبْلول. مليئ بالماءِ. كَانَ قدْ خبّأهُ في عينِ الماءِ. وصَلَ الظِلَّ. التَقَطَ أنفاسَهُ. إفتَرشَ الأرضَ. رَوَضَ السَعَفَ. فصنَعَ قْفيرا وحبلا "وسمه" كبيره, كانَ أحدُهمْ قدْ طَلَبهَا ممنْ قَطَنوا تَحتَ الجبل.


أُناس يبتلِعهم الوادي. نَحوَ ظُلمتِهِ. سَاروا حيثُ سَارْ. على أقدامِهِمْ رُقَع من جلد وفوق رؤوسهم لحاف من صوفٍ تتقدمهمْ دابة, يُلازمُهَا أحَدهُمْ يَضِرِبُهَا بِعَصاهُ فَتَجُرُ جِسْمَهَا الثقيلُ. محملة "جراب " من تمرٍ. تلَهثُ حَنَاجرهمْ لتَبْتَلِعَ الهواءَ. وصَلوا الى حيثُ أراحَ جَسَده,ُ قَبّلّتْ رُكَبهم الأرضَ فَجَلسوا القُرْفُصَاءَ. جَحَُضَتْ أعُينُهم للمكانِ. قْبر مبلول !
سأَلَ أحدُهُم: "لما دائماً مبلول؟ ولِمَا الغُصُنُ الشائِكِ عليه؟!" سمِعَهُمْ يهمِسُونَ. نَظَرَ إليهم نظرةَ أستياء.
"الرُوحُ معلقة على القَبْرِ تَحتاجُ الى ماءٍ" قال: مرهون.

كُنتُ مَعَهُمْ.التَحِفُ الصَمَتْ أُرَاقِبُ عنْ كثبٍ ما يَحدِثُ بينَ الصُخُوِر. ظلوا يتساومونَ. عندَ ساعاتِ النهارِ الأخيرةِ فابتاعوا ما يشْتَهُونَ. يبتلعونَ ما أفرزهُ الجَبْلَ. يثرثرون .
أما هوَ فظَلَ صامِتا يُحرِكُ أصابعَ يديه المليئةُ بسعَفِ النخلِ.
على القِمَمِ المتراميه, إختفتِ خُيُوطُ الشمسِ.فَعَادَ النَهارُ الى مخبئِهِ. حمِل عصاهُ واتجهَ نحوَ الغُرُوبِ.أفرَغَ ما في فاهُ. ملأَ صداهُ الجَبَلَ. فاتَجْهتْ اليِهِ بِطانا تجُرُ أجسامها.
ساروا فسرتُ معَهُم. فتركنا المَكانَ تَحت لِحافِ ظلِ الأرضِ.

دارتِ الأرضُ دوراتها. زارتْ الريحٌ القِمَمِ. فحملت في طياتها, خِماراً أسودْ, وخِرقةٌ صغيره فارغه, فأسقطتْ ثِمارُ "البوت". حتى الأورَاقَ انجَذْبتْ نَحوَ صُخورِ الأرضِ. فملأتْ شُقُوقَهَا. فامتصت رائحةُ المكانِ.

إمتلأتْ السماءُ نقيقَ طُيور سمينة سوداءَ حلّقتّ فَوقَ القِمَمِ. من تحتها. قبر عتيق, وعين بِلا ماءٍ, وجسدٌ بلا قبر.




تمت...

ماجد حمد الهنائي

أحمد الهديفي
24-07-2011, 05:11 PM
زيارةٌ بعد منام


أخذتني خطواتي إلى حيث لا أدري .. سرت بخطوات سريعة جداً..التفت كثيراً خشية أن يراني أحدهم فيمشي في إثري
وجدت نفسي فجأة أمام جدار المقبرة، الجدار الطيني الذي بنته سواعد غيبها الموت منذ زمن. يا له من جدارصامد!! .. ترددت في الدخول .. سيطرت علي مشاعر مضطربة ومتناقضة.. خوف يدفعني للعودة وشوق يدفعني للمتابعة.
"بسم الله".. قلتها في سري وأنا أضع رجلي في وجل للدخول... كان قلبي يحمل ما تحمله قدماي من ألم الخطوات.. اخذت أبحلق في القبور.."ترى أيها قبرها؟" أخذت أمشي بحذر خشية أن أطأ عقرباً أو زاحفةً .."ترى هل يسمعني الموتى؟ هل أزعجهم بسيري هنا؟"
توقفت حين رأيت نورا سطع من أحد القبور، أو هكذا خيل إليّ، قلت في نفسي "لا بد أنه هو! يقال بأن النور يسطع من قبور الصالحين، وهي أطهر من عرفت .. لا بد أنه روضتها!".. سرت باتجاه ذلك النور .. هاجت ذكريات كثيرة مع كل خطوة...تذكرت ضحكاتها، كلماتها العذبة، خضنها الدافئ..آآآآه كم تتعبني هذه الذكريات المثقلة بالحزن والألم !... فجأة اختفى النور فلم أعد أعرف أي القبور قبرها!
جلست بين القبور.. كشفت النقاب عن وجهي؛ النقاب الذي ارتديته خشية أن يتعرف إلي أحد أهالي القرية فيظن بي الظنون لخروجي في هذا الوقت المبكر من اليوم.
رحت أناجي القبور وتباشير الدمع في عيني ..." أختاه لا أعرف في أي القبور ترقدين، لكني أشعر بأنك قريبة جداً مني .. كم أشتاق لك! .. سامحيني لأني لم أزرك من قبل كنت خائفة ومتردده..هل تسمعيني أختاه؟ هل تشعرين بمقدار الشوق الذي يختلج في صدري تجاهك؟ هل ما زلت تحبينني أم أنك نسيتني؟؟"... بكيت كثيراً.

اقشعر جسدي وأنا اتخيل جسمي مدفون هنا ثم لا تبقى الأرض منه شيئاً.. دخلت في سلسلة من الخيلات المخيفة ... فجأة أحسست بجسم يقترب مني، ارتعدت أوصالي، التفت وجسدي يرتعش من الخوف.. أحسست بأن الجسم أصبح أمامي مباشرة.. تسارعت دقات قلبي.. رفعت عينيّ ببطءٍ وحذرٍ شديدين .. وقفت مذهولة
- علي! هذا أنت؟
- هدئي من روعك عزيزتي

شعرت بشي من الأمان وهو يجلس بجانبي
- سلم على أختك يا علي
لم ينبس علي بكلمة.. بدا وكأنه استعاد كل ما تخبأ في الذاكرة من حزنٍ دفينٍ .. رأيت الدمع في عينيه .."علي!" ..ناديته فلم يجبني..هززته "علي هل تسمعني؟"
- هاه! نعم ماذا هناك؟
- هل تعرف أي القبور قبر عائشة؟
أجابني بهدوء: "لا يا أختي. لم أعد أذكر. مضى وقت طويل على وفاتها"
خيم الصمت على المكان وأطبق الحزن بقبضتيه على كل ما حولنا حتى غدا كل شي أسود عامر بالكآبة. قلت وأنا أطيل النظر في القبور: "أي شدة خلقها الله في قلوبكم أنتم معشر الرجال؟ كيف تطيقون أن تهيلوا التراب على من تحبون؟"
- "هيا بنا".. قالها علي بعد أن قام فجأة
سرت خلفه..توقفت فجاة ثم التفت خلفي " إلى اللقاء.. أنتم السابقون ونحن اللاحقون".. أمسك علي يدي وشدني إليه.. غادرنا المكان .. ثم ركبنا السيارة وابتعدنا عن المقبرة التي ظلت عيناي معلقة بها حتى اختفت عن ناظري
وفي الطريق فاجئت علي بسؤالي : " لم تقل لي كيف عرفت أني كنت في المقبرة!"
نظر لي بابتسامة عريضة
"أحسست بذلك"
- ومنذ متى وأنت تمتلك الحاسة السادسة؟
- منذ زمن، لكنك لا تشعرين بي .. لكن قولي لي كيف تجرأتي على الذهاب إلى المقبرة بمفردك؟
- لا اعرف ! احيانا نتصرف دون وعي
فجأة أوقف السيارة والتفت نحوي
- "هل تودين معرفة الحقيقة؟" وبدا الخوف عليه
- نعم ولا أريد غيرها
- أنا لم آتِ في إثرك..جئت لزيارة عائشة .. وفجأة رأيتك هناك ... نعم لا تنظري إلي هكذا أنا جاد!
قلت والدهشة تملؤني..
- ولكن ما الذي ذكرك بها اليوم بالذات؟
عاد بكله إلى الوراء ... أسند رأسه إلى الكرسي ...
- "لم أنسها لأتذكرها ثمة أشياء لا نستطيع أن نزيلها من ثنايا الذاكرة لا بالقوة ولا باللين".. صمت قليلاً ثم أردف .. "رأيتها البارحة في المنام ، أنبتني كثيرا وقالت أني نسيتها.. أخبرتها اني لم أنسها، ووعدتها بزيارتها وجئت لأفي بوعدي"
بكيت بحرقة
بحلق علي في وجهي وعلامات التعجب واضحة عليه
- "ما بك؟ هل الحلم مؤثر إلى هذا الحد؟"..
قلت بكلمات متقطعة:
- "أنا أيضا حلمتها البارحة"
- حقاً! احكي لي ماذا رأيت؟
مسحت دموعي وتنفست بعمق .. رأيتها تمد يديها إلي وتقول لي: تعالي إلي ..اشتقت لك كثيرا.. قلت لها: وأنا كذلك أشتاق لك كثيرا .. ثم قالت : لكني أشعر بالوحدة .. اقتربت منها اكثر فأكثر، وفجأة ..
صمتُّ
- أكملي ما الذي حدث؟
- لا شي قمت من نومي
تأفف علي بقوة ..."أوف ! ليتك أكملت الحلم "
سار بالسيارة خارج البلدة
سألته: "إلى أين يا علي؟ عد بنا إلى البيت .. ستقلق أمي علينا كثيرا"
- لا تقلقي فقط دورة بسيطة ونعود
صمتنا لوهلة ثم قال لي: "بالمناسبة، أمي تقول بأنها تخاف من أحلامك"
- نعم أعرف ذلك
قال كطفل يملأه الإستغراب : " حقا؟"
"أجل .. قالت لي ذلك بكل صراحة".. عدت بذاكرتي إلى الوراء .. تذكرت حين كنت أروي لها حلماً مخيفاً رأيته.. حينها اصفر وجهها، وبدا الخوف عليها .. أمسكت يديها .." امي إنما هو حلم"
- أخاف من أحلامك .. أخاف منها كثيراً!

هزني علي
- " ما بك؟ أسألك: هل تحلمين عائشة باستمرار؟"
-هاه!! نعم أحلمها كثيراً.. أتخيل روحها تحاورني ..أشعر أنها تعلم بكل ما يحدث معنا.. وكأنما روحها تحوم حولنا

التفت إليه وأنا أقول له: " يقال بأن أرواح الموتى وأرواح من يحبون من الأحياء تلتقي في المنام ! "
أدهشه ما قلت، صمت قليلاً ثم قال:إنما الروح من أمر ربي ... أنا لا أعطي الأحلام كثير بال ..أنساها في بعض الأحيان وأتناسها في البعض الآخر.
قلت له بانفعال: " الأحلام رسائل سماوية لا يجوز تجاهلها..هي ميراث الأنبياء"
حين أنهيت عبارتي الأخيرة لاحظت زيادة سرعة السيارة كثيرا..
صرخت في وجهه: "خفف السرعة يا علي"
قهقه بقوة: " ما بك؟ تخافين أن يتحقق الحلم وتموتين؟"... قالها بسخرية
- لا، لا أقصد ذلك .. أرجوك لا تسرع يا علي
نظر إلي بابتسامة عريضة وقال: "لا تخافي، لا توجد أجهزة ضبط السرعة هنا."
- أنا جادة يا علي...عد بنا إلى البيت
أخذت سرعة السيارة تتزايد بشكل تدريجي .. عرفت ذلك من عداد السرعة الذي لم ترتفع عيناي عنه ..وفجأة خرجت السيارة عن سيطرته.. صرخت بقوة .. حاول عليِ أن يتدارك الموقف ..خرجت السيارة عن مسارها ، ثم اصطدمت بسدرة كبيرة.

فتحت عيني فإذا أنا في المستشفى .. وإذا أهلي حولي والحزن بادٍ عليهم .. بحثت عن علي بين الوجوه فلم أره .. التفت إلى أمي: " أمي، رأيت اختي عائشة في المنام ..رأيتها تمد يديها إلي وتقول لي تعالي إلي ..اشتقت لك كثيرا.. قلت لها: وأنا كذلك أشتاق لك كثيراً .. ثم قالت : لكني أشعر بالوحدة .. اقتربت منها أكثر فأكثر، وفجأة توقفت وقلت لها : لا تحزني سيزورك علي قريباً"




رحمة حارث الحراصي

أحمد الهديفي
24-07-2011, 05:16 PM
الأعمى

القصه الفائزة بالمركز الرابع

في السوق يجلس الأعمى في أحد الزوايا المطلة على سوق الغنم ، حيث هناك تساق البهائم وتباع في لوحة تقليدية توارثتها الأجيال من حقب مديدة كما يحكي الأعمى ذلك.
يفضل الأعمى هذا المكان على غيره لكثير من الأسباب ، حيث كل صباح يلتقي بأصحابه ويشاطرهم حديثه ويستمع لأخبارهم بحلوها ومرها ، فهو لا يميز بين وجوه الناس ، لذلك يضحك لضحكهم ويحزن لمصائبهم .. هكذا فقط يجلس وينشد الأشعار ويقرأ عادة آيات من القرآن يضيف بها لونا دينيا على جلسته ..
يحلو لأقرانه من كبار السن أن يشاطروه جلسته ، بل يطيب لهم ما يقدم هناك من أخبارعن الولاية وأهلها ، وحتى عادة شتم أحدهم كان يرقى لهم وعلى إثرها يتبادلون ضحكاتهم ..
اليوم يقال له "الهبطة"(1) ، لذلك كان الأعمى حريص أن ينزل إلى السوق مبكرا حتى لا يفقد مكانه المطل والأستراتيجي الذي يحسبه كذلك ، ففي الهبطة تتوافد الوفود من كل حدب وصوب في الولاية ليتخيروا أضاحيهم للعيد، لهذا تجد أنه تساق الأغنام والأبقار وحتى الجمال لهذا السوق . فيزحم السوق ، وتتقلص الأماكن والمسافات بأبدان البشر ويرسم السوق بأصواته غوغائية عذبة في أذن الأعمى ..
بدأت "الهبطة" ، وعلى أثرها بدأ صوت "الدلالين"(2) يعلو ، ولم تسكت البهائم من عويلها، والناس من لغوها ، والأعمى يقبع في زاويته مستمتعا بذلك ، يراوح بين محدثيه وحديث "البهائم" وهي تقاد للبيع ، يضحك تارة من شتيمة أحدهم للآخر ، وينصت لصياح نعز لتوه قد دخل مسار البيع مفترقا عن أمه ومودعا عشها .. وبينما المشهد يضج بهالة من أمواج الدلالين وصياح البهائم قطع فجأة صوت نقع شديد في وسط الميدان .!!! فلاذ كل صوت بالفرار .. وسكت الجميع ..!
فجأة تبددت الأصوات وبقي الأعمى يحاول أن ينصت لكل ما يدور حوله ، ففي ثوان معدودة لم تلتقط أذناه إلا أصوات انفاسه وحده فقط ، حاول جاهدا أن يسمع ، وكأن به يحاول أن يرى بسمعه، يتقفى أثر تلك النقعة الشديدة التي ببدت متعته ..ولكنه لم يستطع فعل شيء.
لحضات بسيطة مضت ، وبدأ اللغو يعود ، لكن هذه المرة بصراخ أحدهم ، ألتفتت الوجوه إلى ذلك الصراخ وتدافع الناس إلى مصدره ، والأعمى بدوره لم يبرح مكانه بل غير من وضعيته فقام بعدما كان جالسا ، وحاول أن يستقطب بيده أحدهم ، واضعا أذناه في أتم تركيزها ، حاول أن يمسك أحد من حوله ليرى من حديثهم ماذا يدور حوله ..

(1): الهبطة : يوم قبل أيام الأعياد في عمان يباع فيه الأغنام والسلع الخاصة بالعيد.
(2): الدلالين (جمع مفرده دلال): وهو رجل في السوق يقوم بالإشراف على عملية البيع ، وهو من سيوق للسلع بصوته الجهوري. ويدير المزاد العلني للبضاعة أو الماشية.
لم يكن أحد بجانبه ، لم يبقى أحد حوله ، لم يستمع أحد لهذيانه .. بقي مجهولا في وسط المعركة لا يعرف إلى أي الفريقين سيمضي ، هل سيترك مكانه وينقاد لهم أم يبقى فيجهل ما يدور حوله .. ففي نفسه الأثنين ويخاف من خطر الأثنين ، بدأت معركة داخلية داخله ، وبدت أفكاره تتصارع فيما بينها ، فضاق صدره بما آلت أليه الأمور ..إلا أنه قرر البقاء في مكانه ..
قرر الأعمى وكله أمل أن يأتي أحدهم ليخبره ماذا يدور حوله ..،ولكن طال أنتظاره، رثى لحاله إلى ما وصل بعدما كان مجلسه يألفه الكثير ، لم تكن تلك الدقائق من يومه إلا كسنوات تمر عليه، خاب ضنه إلا أن من حوله بدأت ترتفع أصواتا أخرى ، بدأ حوار بجانبه يدخل إلى مسامعه :
ماذا حدث ..؟؟
لا أعرف ..
أنظر إلى ذلك الرجل الذي يحملونه أنه ملطخ بالدم ؟؟
اللهم أسألك الرحمة ... ماذا جرى هناك .. أيه ماذا يجري ..ما..
وبدأت أصوات أقدامهم تبتعد شيئا فشيئا إلى أن أختفت من مسامعه .. وجالت في الأعمى صورة للحدث الذي دار في "الهبطة" بل أرتسمت فكرة وضمها بين جنبات ذاكرته .. ضمها وهو غاضب لما حدث من دقائق معدودة من حاله ..
لم يزل الأعمى في مكانه يجلس منصتا لكل حديث عابر يمر من حوله ، ولكن "الهبطة" وغواغائيتها ألغيت اليوم ، وبقى صياح البهائم يغطي المكان ..
لحضات أخرى مرت وسُمع صوت سيارة الشرطة تقترب ، كانت الشرطة في هذا اليوم على أهبة أستعدادها ، ف"الهبطة" يوم طوارئ للشرطة ويوم فرح للناس كما يراه آخرون .. ترجل الشرطي من سيارته وأخذ يبعد الأفواج المتحلقة حول المكان، وأقتاد أحدهم للسيارة ، فيما دور الشرطي الآخر بشريط أصفر حول المكان كتب عليه " ممنوع الأقتراب ..مكان جريمة"..
كانت تلك نقعة لأحد الأسلحة التقليدية أطلقها أحدهم على رجل كان واقفا حذوه ، مما أدى إلى مصرعه ، كان هذا حديث أحدهم من أعوان الأعمى ، بل يمكن أن نطلق عليه مجمع الأحاديث كلها التي بدأت تتراجع شيئا فشيئا إلى مجلس الأعمى ساعتها .. لكن صوتا آخر علق قائلا :
يقال أنه لم يكن متعمدا ..بل كان يجرب ذلك السلاح ..
رد عليه آخر بنبرة حادة :
كيف يجربه في وسط السوق ؟ ألم يرى الناس حوله ؟
ولماذا نعيب عليه ، مادام ذلك المحل لبيع تلك الأسلحة؟ وفي ذلك المكان ..
ولو كان ذلك.. العيب عليه ..
....
...
بقي الجدال بين الأثنان ، وتعددت وجهات النظر حول الحادثة ، لكن الأعمى ترسخت في خلده فكرة الرجل المجرم التي سمعها ساعة الحادثة من ذلك الحوار .. تبنى تلك الفكرة ودافع عنها بشدة ..أنتقاما لأقرانه الذين خذلوه ساعتها.
في اليوم التالي خرج الأعمى مرة أخرى مبكرا ، لكن اليوم ليس بيوم "الهبطة" ، بل توافد الحشود لذلك المكان لرؤية مكان الجريمة قد يسرق عليه مكانه ومجلسه ، وصل الأعمى إلى مكانه وجلس يتمتم بأشعاره كعادته ينتظر محدثيه ليستقي منهم آخر الأخبار حول جريمة "الهبطة" كما سميت لاحقا ..
لم يطل به الأمد إلا وأحدهم يخاطبه :
صباح الخير
لم يستطع الأعمى تمييز الصوت ، فهو لم يكن صوت أحد محدثيه السابقين ..
صباح النور ,, من أنت؟؟
أنا أحد المحققين بالجريمة (جريمة الأمس) .
أرتبك الأعمى قليلا ، فضيفه هذه المرة رفيع المستوى ولم يسبق أن زاره أحد من قبل كذلك ، رد بسرعة قائلا بعدما غير جلسته :
تفضل .. ماذا تريد ؟؟
قيل لي بأنك كل يوم تجلس في هذا المكان ، وأنك على علم بكل شيء بما ما يدور حولك ..
نعم , فأنا منذ سنوات أجلس في هذا المكان ... ماذا هناك ؟؟
هل لك أن تحكي لنا ماذا حدث بالأمس ؟؟
بدأ الأعمى يسرد حكايته مدعما أقواله بكل الأحاديث التي سمعها من أقرانه بالأمس ، وكان المحقق يكتب التفاصيل حسب ما يريد من معلومات ..تحدث الأعمى طويلا وشرح الحادثة بتفاصيل عديدة إلا أنه تحاشى رأي من قال أن المجرم ليس متعمدا ، وحاول أن يثبت على فكرته التي بنى عليها حكمه ..
أيام وأحداث مضت على الحادثة والأعمى متشبث بمكانه ، ولم يغير قناعاته حول القضية، جاء بعدها رجل من أقرانه وفي يده مذياع صغير يحكي تفاصيل جريمة الهبطة ، وكأن الأعمى يروي ذلك ..
فرح الأعمى بما سمع من أخبار يومها ، وقرر بعدم تغيير مكانه مهما كلفه الأمر ..فرأيه أصبح يذاع في المذياع !!

علي بن سعيد البيماني

هيثم العيسائي
25-07-2011, 09:48 AM
أحمد
شكرا على هذا المجهود عزيزي

إبراهيم الرواحي
30-07-2011, 09:13 AM
مجهود جبار فعلا

أحسنت أحمد