عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 04-09-2011, 02:03 PM
مازن الحسني مازن الحسني غير متواجد حالياً
كاتب جديد
 
تاريخ التسجيل: Jul 2011
المشاركات: 28
افتراضي الكلمة بين انطوائية المغنى واجتماعية المعنى ( سلسلة بوح قلم )


الكلمة بين انطوائية المغنى واجتماعية المعنى


اللسان عضو صغير جداً، ولكنه أصعب المخلوقات ترويضاً، كونه قادرا على بناءِ النفس الإنسانية، وفي المقابل هدمها، فمن يتحكم في لسانه يستطيع التحكم في دوله كاملة. ذكر أحد أساتذة الطب النفسي أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي تؤثر فيه الكلمات فكلمة واحدة تسعده وأخرى قد تسبب له الشقاء ولما كان للكلمة أثرٌ على المتلقي كان من الواجب انتقاؤها قبل الشروع في نطقها، لأنها تعبير عنالداخل قبل كل شيء.

ومما دعاني لكتابة هذا المقال تلك الحادثة التي وقعت أمام ناظريّ إبان تسوقي في أحدِ المراكز التجارية؛ حيث كنتُ أنتظر أن يحين دوري لأدفع قيمه ما أخذت من بضاعة، وكانت تقف أمامي امرأة وطفلاها حينما طلب أحدهما قطعة حلوى، ردت عليه أمه:" لا لن آخذ لك حلوى " بل وأقدمت على ضربه حتى أبكته، عندها قررت أن أغير مكاني لأقف في صفٍ آخر، كانت تقف به امرأة وطفلاها أيضا، الغريب عندما بادر أحدهما أمه بطلب قطعة حلوى والأغرب من ذلك الطريقة التي تعاملت بها الأم مع طفلها والتي أدهشتني حقا، مسحةٌ حنونةٌ على رأسه تتبعها كلمات تعزف سيمفونية التعامل تغنت بها تلكم الأم قائلة : "حبيبي الحلوى قد تضر أسنانك وأنا اشتريت لك عصيرا سيفيدك أكثر منها "، مشهدٌ جعلني أفكر مليا في كلتا الحالتين ومدى تأثيرهما على الطفلين. ومن باب المصادفة وجدت مقالا بعنوان ( أربع كلمات غيرت مجرى حياتي ) للصحفي بوب جرين يحكي فيه نفس المشهد الذي رأيته تقريبا، يقول (جرين): رأيتُ أما غاضبةً من ابنها الصغير فسألته " هل أنت غبي لدرجة تمنعك من أن تفعل أي شيء على نحو صحيح؟".
إن من يعي القدرة التي تمتلكها الكلمة في التأثير على الآخرين سيؤمن أنها سلعة غالية في سوق المعاملات البشرية يجب أن تُنفق في أوقات معينة بحسب الزمان والمكان قال تعالى :
( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ )،]إبراهيم: 24- 26]، ويخبرنا بذلك أيضا النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات ،وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم ).

يقول الباحث (شينسينج زين) من جامعة (بوردو) في ولاية إنديانا الأمريكية، إنه من الصعب إحياء ذكرى الألم البدني مقارنة بالألم العاطفي والاجتماعي وهذه المقولة تقودني بدورها للبحث الذي أجراه مجموعه من العلماء الأمريكيين نشرت في إحدى مجلات العلوم النفسية تناقض في مضمونها المقولة السابقة أفادت بأن الضرب يمكن أن يحدث أثرا أكبر في النفس مقارنة بالكلمات.وقال الباحثون في هذه الدراسة إن التغيرات التي تطرأ على المخ وتسمح لنا بالعمل في إطار جماعي أو مجتمعي يمكن أن تكون المفتاح لفهم هذا الأمر، يقول (مايكل هوجسمان) الأخصائي في علم نفس الطفل في ألمانيا إنه من المرجح أن تكون عدة أجزاء في المخ تتعامل مع الألم العاطفي الذي يعتبر تأثيره أبعد مدى، أي أنه في الألم البدني يمكن رؤية الجراح والكدمات أما الألم العاطفي فهو يخلّف في الغالب القلق والخوف. فلو قال تلاميذ لزميل لهم إنهم سيعتدون عليه بعد المدرسة فهو سيعيش في قلق وخوف أكبر بكثير مما قد يحدث له بالفعل.

ولنتأمل ذلك سويا في قراءة سريعة لما يقوله المختصون في مجال التنمية البشرية حيث أفادوا أن الطفل يتأثر بالكلمات التي يسمعها ممن حوله أكثر من غيره، فكلمه ( أنت غبي، أنت كسول ) قادرة على هدم جبال العزم والتفوق في طفل ما بل وتدعه غير قادرٍ حتى على التفكير في أي شيء وكلمة ( أنت مميز، أنت مبدع ) قادرة على رفع المستوى الإنتاجي وبث روح الأمل لنفس الطفل ولو قارنا ذلك ببيئة العمل لوجدنا أنها لا تختلف في المضمون عن نظيراتها فالمسؤول قادر على دفع عجلة التقدم في مؤسسته بكلمات مشجعة لموظفيه والثناء عليهم وأيضا له القدرة على ذلك حتى بالتوبيخ كأن يقول ( كنت تؤدي العمل في السابق بشكل أفضل من الآن أتمنى أن تعود لسابق عهدك)،
ولعل المتأمل من خلال السياق فيما مضى يجد أن ظاهر الجملة تأنيبيّ بينما باطنها تحفيزيّ تشجيعيّ بالدرجة الأولى، خلال التاريخ البشري , أعظم قادتنا ومفكرينا استخدموا قوة الكلمة في تحويل مشاعرنا وعواطفنا , وفي إقناعنا بأهدافهم ومبادئهم , وفي تشكيل مسار التاريخ، وأبرز هؤلاء القادة النبي - عليه الصلاة والسلام – فقد برهن بحكمته المعروفة كيف يتعامل مع الآخرين بأسلوب حواري بناء بعيدا عن الهمجيّة والأسلوب التعسفي قال تعالى: ( فَبمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظَّا غَلِيظَ الْقَلبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك) ]آل عمران: 159[.
والكلمات ليست قادرة على توليد المشاعر والعواطف فحسب , وإنما قادرة على خلق الأفعال أيضا. ومن الأفعال تتدفق نتائج حياتنا. وخير مثال على ذلك قصة ذاك الكاتب الذي أضحى محترفا في كتاباته والذي أعزى سر تميزه للكلمات الأربع التي كانت تخطها معلمته ( أسلوب جميل في الكتابة ) مع العلم أنه كان من الطلبة الذين يفتقرون للثقة، كان هذا الكاتب يحلم بتأليف قصص قصيرة , فملاحظة معلمته البسيطة جعلته يفكر بشكل مختلف في قدراته , وكانت هذه نقطة البداية للنجاح في عالم الكتابة . إلى يومنا هذا يعتقد هذا الكاتب أنه لولا الكلمات الأربع التي كانت تكتبها المعلمة في هامش الصفحة لما حقق هذا النجاح.
إننا حقا بحاجة إلى أن نكون أكثر وعيا بالكلمات التي تتدفق منا إلى الآخرين بل ونحرص على انتقائها كحرصنا عند قيادة السيارة خوفا من أن نصطدم بحاجز بشري فنحطمهم بحرف متسول.وافتقار البعض للكلمة الطيبة ناتج من عقليته المتحجرة التي قتلت الكلمة ومشت في جنازتها بل وودعتها بوابلٍ من الضحكات حتى باتت - الكلمة- تنوح كالأم التي فقدت فلذة كبدها بعد أن كرست جلّ وقتها وأحلى سنوات عمرها في تربيته وتعليمه العلوم المختلفة.
ختاما إن كنت تبحث عن مفتاح للولوج إلى قلوب الناس فعليك بالكلمة الطيبة، فبها يستخرج عطر المحبة، وشذى المودة، وبها تُحًرك المشاعر، وتوقد الضمائر، وتشحذ الهمم لبلوغ القمم.



بقلم //
مازن بن سعيد الحسني
رد مع اقتباس