عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 12-08-2012, 01:58 PM
الصورة الرمزية يزيد فاضلي
يزيد فاضلي يزيد فاضلي غير متواجد حالياً
عضو هيئة الشرف
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: شرق الجزائر
المشاركات: 1,011

اوسمتي

افتراضي رقائــق القلبِ في رمضان..( 24 )

رقائــق القلبِ في رمضان..( 24 )


أحبابَنا الأوفياء الكرام...

كنتُ في رقيقتي السابقة-أمس-أتحدث عن جلال الأثر القرآنيِّ الكريم الذي يتركه على صفحةِ النفس البشريةِ البيضاء،فإنَّ لأنواره الفريدةِ عليها أثراً من حُبٍّ وولاَءٍ وارتباطٍ،يسمو بعيداً على لوْثاتِ الملل والإحساس بالروتِين والسآمةِ التي تنتابُ الطبيعة الإنسانية حينَ تألفُ-بالتكرار والترديد-شيئاً من الأشياء...

قلنا إن الشوقَ للقرآن ولتلاوته وسماع آيــهِ الحكيمة نهْرٌ دفاقٌ،لا يتوقفُ في حِسِّ المسلم ولا ينضبُ أبداً..وقد تساءلنا-في ختام الرقيقةِ-عن السرِّ الخفيِّ في ذلكَ..؟؟

والسرُّ الخفيُّ-أحبتي الأماجد-يكمُنُ أوَّلَ ما يكمن في ميزةِ هذا الكتاب العظيم الأساسية،ومن أنه-خلافَ الرسالات السماوية السابقة-معجزة ٌعقلية ٌخالدة ٌ،تتجددُ مع تجدد الزمان والمكان في كل عصر ومَصْرٍ...

كانتِ الرسالاتُ السماوية السابقة-بحكم طبيعتها وظروف أنبيائها-تحتاجُ إلى أدلةٍ إعجازيةٍ ماديةٍ،تـُساقُ دعماً لأصحابها وتأكيداً على نبوتهم ورسالتهم،ومن أنهم مُوفدُون من عند الله تعالى..فكانت هذه الأدلة-كما نعلم-تظهرُ في صورة معجزاتٍ خارقةٍ،تـُرغـَمُ الناسَ على التصديق والتسليم...

بينما رأينا محمداً-عليه الصلاة والسلام-يبعثه الله تعالى ليُربيه،ثم يُربي به العربَ،وليربي العربَ بمحمدٍ حتى يُربي بهم الناسَ جميعاً...

فهلْ تربية الأمة على منهاج أخلاقيٍّ شامل،وعلى برنامجٍ حياتيٍّ كاملٍ،يَشمَلُ الأحوالَ الشخصية والسياسة والاقتصادَ والاجتماعَ يحتاجُ إلى معجزاتٍ حسيةٍ خارقةٍ ليتمَّ ذلكَ..؟؟

إن العربَ المشركين زمَن النبي صلى الله عليه وسلم طلبوا منه أن تقعَ على يديْه هذه المعجزاتُ الحسية الخارقة،قال تعالى في سورة الإسراء : (( وقالوا لن نـُؤمنَ لكَ حتى تـُفجِّرَ لنا من الأرض ينبوعاً أو تكونَ لكَ جَــنـَّة ٌمن نخيلٍ وعِنبٍ فتفجِّرَ الأنهارَ خلالها تفجيراً أو تسقط َالسماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفاً أو تأتيَ بالله والملائكةِ قبيلاً أو يكونَ لكَ بيْتٌ من زخرُفٍ أو ترقى في السماءِ ولن نؤمنَ لرقيّْكَ حتى تـُنزِّلَ علينا كتاباً نقرؤهُ... ))...

وعند التأمل في طلبَاتِ القوْم نجدُ أن فيها شيئاً من أمانيهم وآمالهم المنبعثةِ من واقع حياتهم الصحراوية القاسية...!!

ينبوعُ ماءٍ رقراقٍ عذبٍ،يتفجــرُ وسط القفار الجدباء..!! أو بساتينُ وارفة ٌبخيْراتِ الفواكه من العنب والتمر الرطب اللذيذ..!! أو بساط ُريحٍ،يَطوي لفحَ الشمس في الصحاري،ويَرقى بهم إلى أعالى السماء حيث يجدون قصوراً منيفة ً،تماماً كما أساطير الخيال في ألف ليلةٍ وليلةٍ..!!!

هذه هي مقترحاتهم المُلِحَّـة..فهل أجابُهمُ الله تعالى بتحقيقها..؟؟

كــلاَّ..!!

إن الله تعالى رفض الاستجابة لهم-غيرَ عاجز-وأجرى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الجواب القرآني في سياق الآيةِ ذاتِها : (( قل سبحانَ ربي هل كنتُ إلا بشراً رسولاً ))...

لقد أمِرَ محمدٌ-عليه الصلاة والسلام-أن يشرحَ للقوم أن مهمته الرسالية هي تحريكُ ما خبَا من نورٍ في قلوبهم وعقولهم،وأن يُفجــرَ في مجتمعهم ينابيع أخرى من الأخلاق والعدالةِ والحريةِ والضمير النقي الحي والعقل الواعي الراشد..

وهذه المَهَمّاتُ لا يمكنُ أن تحصلَ أو تقعَ بما طلبوا..!!

فما علاقة أن تتفجرَ الأرض بالمياه أو يرقى شخصٌ فوق بساطٍ إلى السماء أو أن تنقلبَ العصا إلى حيةٍ وثعبان بتحقيق الأخلاق الحسنةِ وإرساءِ قواعدِ الحرية والعدالة الاجتماعيةِ السامية..؟؟

فمعجزة محمدٍ صلى الله عليه وسلم هو هذا الكتاب الخالد،الذي جاءَ ليغيرَ النفسَ الإنسانية،ويَرقى بأخلاقياتِ المجتمع وأوضاعه إلى السمو والرفعة...

أذكُرُ هنا أن القاضي الأندلسي الفيلسوفَ أبا الوليد محمد بن رشد رحمه الله تعالى-صاحب كتاب تهافت الفلاسفة-قال : (( إن الأدلة َعلى القضايا نوعان..أدلة من جنس هذه القضايا،وأدلة ٌمن
خارجها...
))..

وراحَ ابنُ رُشدٍ،يضربُ لنا أمثلة ًعلى ذلكَ...

ونحن سنضربُ أمثلة معاصرة ً،تقرِّبُ لنا الصورة :

رجلٌ مهندسٌ يفتح مكتبَ دراساتٍ للهندسة المعمارية،تأتي إليه وتقول له : هاتِ لي دليلاً حيًّا على قـُدُراتِكَ..فيقول لكَ : حَسَنٌ..سأمشي على سطح الماء..!!

وفِـعــلاً..يمشي على الماء..!!

ابنُ رشد يقول : (( الواقعُ أن الرجلَ أتى بدليل دامِغ،يُخضعُ عقلي لأنه مشى فوق الماء،وهذه معجزة خارقة ٌبكل المقاييس،ولكنه دليلٌ من خارج القضيةِ وليسَ من جنسِها ))،لأنه لا صلة َالبتة بين المشي على الماء والهندسةِ..!!



لكن الرجلَ لو قال : دليلي على قـُدُراتي أني مهندسٌ،سأشيِّدُ لكَ قصراً بديعاً،فيه كل المرافق الحيوية والجَمالية..ويبْنيه بالفعل..فهو بهدا الدليل العملي-الذي هو من جنس القصية-قد أثبتَ أنه مهندسٌ..

فأيُّ الدليليْن أقربُ للعقل والنفس وأصحُّ على صدق القصية..؟؟

بَــداهة ً،الدليلُ الثاني هو الأقرب لأنه من داخل القضيةِ ومن جنسِها...

ابن رشد يُعلقُ بعد ذلكَ،ويقول : (( إن دلالة القرآن على نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم،ليستْ كدِلالة انقلاب العصا حية ً،ولا إحياء المَوتى وإبراء الأكمه والأبرص،فإن تلكَ،وإن كانتْ أفعالاً لا تظهرُ إلا على أيدي الأنبياء الصادقين إلا أنها مقطوعة الصلة بوظيفة النبوة التي جاء بها القرآن الكريم..فالقرآن إنما تكون دلالته على صفةِ النبوة كدلالةِ الإبراء على الطب )) وكدلالةِ البناء على الهندسة...

هذا هو الفارق الإعجازي بين الرسالة الخاتمة وبين غيرها من الرسالات التي سبقتها..

لو كانتْ معجزة محمدٍ صلى الله عليه وسلم عَصاً،قلبَتْ جبلَ أحُــدٍ إلى حدائقَ وبساتينَ لآمَــنَ بها كلُّ مَنْ رآها،ولكنْ مَنْ لم يرها-بعد عصر النبوة-سيقول : أنا لم أرَ هــذا..!!!

لكنْ عندما أفتحُ المصحفَ الشريفَ اليومَ وأسمعُ الله تعالى يُخاطبني-وأنا في القرن الخامس عشر للهجرة-ويُحركُ مسَارَ عقلي إلى الاتجاه الصحيح بهذه التساؤلات : (( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ))...

إن القرآنَ بهذا التخاطب العقلي،اشتبكَ مع دماغي الراكد،فراح يُحركُ ما فيه من وعيٍ وإدراكِ وألمعيةٍ وأنا في القرن الخامس عشر،وكأنما صاحبُ الرسالة العُظمَى-صلى الله عليه وسلم-موْجودٌ بيننا..!!!

هذا هو السر في معجزة القرآن الخالدة-أحبتي الأكارم-إنها تضع أمامنا كتاباً سماويًّا،ينسابُ بآياته المُحكماتِ إلى نسيج العقل البشري،فيُديرُ مفتاحَ الإضاءةِ في جنبَاتِه،تماماً كما يُضاءُ مكانٌ فسيحٌ مظلِمٌ بمصباحٍ كاشفٍ ساطع...

وهي-واللهِ-إضاءة ٌلا ينقطعُ تيارُها أبداً،على امتداد الزمان والمكان والأشخاص،إلى أن يَرث اللهُ الأرضَ ومن عليها...

وإلى موعدٍ لاحٍق إن شاء الله...وتقبل الله منا ومنكم الصيامَ والقيامَ وصالح الأعمال...
__________________
يَا رَبيعَ بَلـَـــــدِي الحبيب...
يا لوحة ًمزروعة ًفِي أقصَى الوريدِ جَمَـــالاً..!!


التعديل الأخير تم بواسطة يزيد فاضلي ; 12-08-2012 الساعة 07:13 PM
رد مع اقتباس