عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 07-09-2013, 09:49 PM
الصورة الرمزية يزيد فاضلي
يزيد فاضلي يزيد فاضلي غير متواجد حالياً
عضو هيئة الشرف
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: شرق الجزائر
المشاركات: 1,011

اوسمتي

افتراضي .../...

...لنتفقْ أولاً-أختي الكريمة مملكة الطموح-أن ( العفوَ ) المقصودَ هنا،هو ذلك العفوُ الذي يصدرُ عن قدْرَةٍ وتمكينٍ..أي عن ذلك العفو الذي عرفناه ونحن صغارٌ-في باب الشجاعةِ الأدبية-بـ ( العفو عند المقدرة )...

لأن العفوَ المصحوبَ بضعْفٍ وعجْزٍ وبفقدان القدرةِ عن إعطائة سيكونُ شكلاً من أشكال الذلـَّةِ والهَوان،وفي هذه الحالةِ سيظهرُ جليًّا أن الشخصَ المسامِحَ إنما يَهبُ ما ليسَ عنده،وإنما هو-بسببِ الجُبْن والخَوَر-يتنصلُ عن مغارم المواجهةِ،فيَهَبُ عفواً لا طعمَ له ولا لونَ..وفاقدُ الشيءِ لا يُعطيه..!!

بيْدَ أن العفوَ الصادرَ عن قدرةِ الثأر من الخصم الظالم قدرة ًكاملة ًلاَ شكَّ فيها ولا جدالَ هو العفوُ الحقيقي الذي له في النفسِ طعْمٌ ولوْنٌ وله عند اللهِ والناسِ وزنٌ وقيمة...

والعفو عند المقدرة-إلى جانبِ كونِهِ خلـُقاً فارعاً رفيعاً-فهوَ مسلكُ صاحب الرسالة الخاتمة صلواتُ ربي وسلامُه عليه ومسلكُ أصحابهِ الطيبين الكرام...

وكلنا قرأ-تماماً كما ذكَّرتنا أختـُنا الكريمة ريم الحربي-كيفَ عفا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الفتح الأعظم عن أهل مكة الجَحَدةِ الظالمين..وكانَ عفواً سارتْ به الركبانُ وتحدثَ به الورى في كل زمانٍ ومكان...

قال : ما تظنون أني فاعلٌ بكم..؟؟ فردوا : خيراً..أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ..قال : اذهبوا..فأنتم الطلقاء...
ولو أنفذَ فيهمْ رسولُ الله القصاصَ العادلَ بقتلهم جميعاً،فما يلومُهُ أحدٌ في التاريخ،لأن الذي فعلوا به وبدعوتِه ليسَ شيئًا قليلاً..ولكنها عظمة الإسلام حين تمدُّ يَدَها بالسلام القوي الحقيقي،فتعفوا وتصفح في غير هَوانٍ أو تذلل...

وكلنا قرأ كيفَ عفا سيدُنا أبوبكر الصدِّيق رضيَ الله عنه عن غلامِه ( مِسْطح ) وقد كانَ أحدَ الذين خاضوا بألسنتهم ترويجاً لـ ( الإفكِ ) الذي رُميتْ به-قذفاً وكذباً وزوراً ونفاقاً-ابنته العفيفة الطاهرة الجليلة أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها،وقد كانَ أبو بكر يُنفق عليه لقرابته منه،فقال : واللهِ لا أنفقُ عليه شيئًا أبداً بعد الذي قال لعائشة..فنزل قوله تعالى-من سورة النور-(( وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))،فقال أبوبكر : بلى..واللهِ إني أحب أن يغفرَ الله لي..ورجعَ-عفواً منه وتفضلاً-إلى مسطح،ينفقُ عليه كما كان...

والعفوُ عن المذنبِ الذي صحَا ضميرُهُ بعد مَوَاتٍ يكونُ أشدَّ وقعاً عليه ربما أنكَى من سوطِ العقوبةِ لو نزلَ عليه..!!

وذاكَ-أختي الكريمة-هو المعنى الذي ساقهُ أبو الطيب المتنبي في داليَّتِهِ المشهورة حين صَدَحَ :

وما قتلَ الأحرارَ كالعفو عنهُمُ ** ومَنْ لكَ بالحُرِّ الذي يَحفِظ اليَـدَا..؟؟!!

إلا أن العفوَ-وإن كانَ استحقاقاً لفضيلةِ المروءةِ-قد لا ينفعُ في بعض الحالاتِ..أو لِنقلْ : لا يَصِحُّ في ذمةِ بعض اللئام..

قد يبلغُ اللؤمُ أحياناً بصاحبهِ،فيتوهَّمُ أن عفوَ الكريم عليه نوعٌ من ربْح الوقتِ لاستعادةِ الأنفاس الشريرةِ،ومن ثمَّ تبدأ جولة ٌأخرى من الإيذاءِ والكيْدِ عن أول فرصةٍ سانحةٍ..!!

إن المسامحة مع هذا الطراز الخاسر من البشر تذهبُ أدارَجَ الرياح،وأيُّ عفوٍ بعدَ التفضل عليهم بالصفح مراراً وتكراراً كانَ كمَنْ يحرثُ الهباءَ على صفحةِ الماء..!!

لابد من إظهار جانبِ العِزةِ والترفع والحزم والصرامةِ معهم،إذ لا مندوحة َمن ذلكَ أمامَ لئيمٍ،نفخَ فيه الغرورُ الأرعنُ ما جعَلهُ يفهمُ العفوَ والصفحَ ولِين المسامحةِ ضَرْبًا من نقاهةٍ،يتمرَّغُ فيها لوقتٍ ثم تعودُ ريمة لعادتِها القديمة..!!

وانظري-أختي الكريمة-إلى نبينا الكريم محمدٍ صلى الله عليه وسلم..إنه هو ذاته الذي عفا وأصفحَ وغفرَ أكثر من مرةٍ،في أكثر من موقفٍ..هوَ ذاتـُهُ أيضاً الذي لم تأخذهُ في بعض الناس اللئام لومة لائمٍ،فوقفَ يحسمُ معهم الأمرَ في حزْمٍ لا هوادة فيه..!!

وكلنا نقرأ عقِبَ غزوة بدر الكبرى التي كانتْ أولَ نصرٍ مؤزرٍ للفئةِ المؤمنةِ عالى الفئةِ الباغيةِ..نقرأ كيفَ ساقَ جيشُهُ المؤمنُ الأسرى المشركينَ السبعين أمامه قافلاً بهمْ إلى المدينة المنورةِ..فلما وصلَ إلى مكانٍ-في طريق العودةِ-أمرَ بإخراج أسيريْن من الأسرى،وهما عقبة بن أبي مُعيطٍ و النضْرُ بنُ الحارث..ثم أمرَ بضربِ عنقهما صبراً في ذاكَ المكان..!!

والإنسانُ قصيرُ النظر قد يستغربُ هذا المسلكَ من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم،إذ أن العُرْفَ في تاريخ الحروب النظيفةِ يقتضي حماية الأسرَى..!!

ولكنْ إذا عَرُفَ السببُ بَطلَ العَجَبُ..!!

فإن القارئَ الجيد لسيرةِ هذيْن الأسيريْن المشركيْن ولتاريخهما الأسود المشؤوم في حرب الإسلام والمسلمين-أيام الفترة المكية اللاهبة-ولفظاعةِ الحقد الدفين والكَيْدِ المُرِّ الذي صَدَرَ عنهما في حق الله تعالى ورسوله والمؤمنين الضعفاء،لن يتركَ لهما مجالاً في النفس المؤمنةِ أن تتصورَ في هذيْن الشيْطانيْن غيْرَ أنهما كانا كـ ( الجرادِ ) المفسِدِ الذي عناهُ الشاعرُ الحكيمُ في قوله :

أيُرَجَّى بالجرادِ صلاحُ أمْرٍ ** وقد جُبِلَ الجرادُ على الفسادِ..؟؟!!

وكانا كـ ( القحْط الجافِّ ) الذي نعَاهُ الشاعرُ الآخرُ غيْرَ مأسوفٍ عليهِ بقوله :

اللهُمَّ لا شمَــاتَ بمَــــيِّتٍ ** ولكنْ زوَالَ القحْطِ بُشرَى للوَرَى..!!

إن الأصلَ-أختي-في النفس المؤمنةِ أن يَلينَ الجانبُ فيها رحمة ًوعطفاً لعبادِ الله تعالى،وإن الأصلَ فيها أن تتنازلَ وتتنازلَ-تواضعاً وخفضاً للجناح-لله وفي سبيل الله تعالى،وأن لا تتدخرَ أيَّ وسْعٍ في هذا السبيل-ولأجله-فتغضي الطرْفَ بالصفح الجميل..والعفو الجميل على مَنْ ترجو فيه خيْرًا وبَرَكة ً..

لكنَّ هذه النفسَ المؤمنة خلقها اللهُ تعالى عزيزة ً،أبيَّة ً،لا تقبلُ أبداً بضيْم الكرامةِ وذلةِ الهَوان،فإذا ما استشعرتْ-بعد نفادِ كل خياراتِ المسامحةِ-أن اللؤمَ باقٍ على حالهِ في أخلاق اللئيم وتصرفاته وفي فكره ومشاعره،هنا لمْ يكنْ بُدٌّ من إظهار العِزةِ الإيمانيةِ والترفع بشيءٍ من الحزم،حتى تخِفَّ نزعة الغرور الجوفاء التي ركبتـْهُ أو تنكسرَ شوكتـُها اللاسعة نهائيًّا...

أخلاقنا الكريمة السمحة-أختي الكريمة-في مجال العفو والمسامحة لا تزيدُ أو تنقص عن أخلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أشارَ لها شوقي-طيبَ اللهُ ثرَاه-في ( نهج الهمزية ) بوضوحٍ حين قال :

وإذا عَفوتَ فقــــــــــادرٌ ومقدّرٌ ** لا يستهين بـــعــفوك الجُهَـلاءُ
وإذا غضبتَ،فإنــــــــما هـيَ ** غضبة للحق لا ظغنٌ ولا شحناءُ
وإذا سخوت بلغتَ بالجود المَـــدَى وفعلـــــتَ مالا تفعل الأنـــواءُ..!!
وإذا خطبت فللمنابر هِزةُ ** تعرُو الندِيَّ وللــــقلوب بُكـــــــــــــاءُ
وإذا أخذتَ العهد أو أعطيته ** فجميع عهدك ذِمــة ووفــــــــــــاءُ
وإذا رحمتَ فأنت أمٌّ أو أبٌ ** هذان فى الدنيا هما الرُّحَمَـــــــاءُ..!!


..وعلى هذه النظرة النبوية المتوازنة في التعامل تكونُ ردودُ أفعالي...وشكرَ اللهُ لكِ طرْحَ هذا الإشكال الأخلاقي التربوي الرفيع...والشكرُ موصولُ لمنْ أدلى وقالَ وكتبَ...
__________________
يَا رَبيعَ بَلـَـــــدِي الحبيب...
يا لوحة ًمزروعة ًفِي أقصَى الوريدِ جَمَـــالاً..!!

رد مع اقتباس