عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 10-09-2013, 02:05 PM
الصورة الرمزية الملتقى الأدبي
الملتقى الأدبي الملتقى الأدبي غير متواجد حالياً
كاتب فعال
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 46
افتراضي

النصوص المشاركة في الملتقى الأدبي الـ ١٩ مجال القصة القصيرة :
نقطة
لـ : حسام المسكري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"حاذوا المناكبَ بالمناكبِ والأقدامَ بالأقدام، أتمّوا الصفَّ الـ..." يقاطعُهُ صوتٌ عالٍ من آخرِ المسجد: " الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر".
يلتفتُ الصغارُ إلى الخلفِ كاتمينَ ضِحْكَاتِهم، يرونَهُ يتقدمُ نحوهم بدشداشته المغبرّة وهو يهزُّ رأسَه يمينًا وشمالاً، وشعرُه الطويلُ يتحرَّكُ بعكسِ اتجاهِ حركتِه، ولا يتوقف عن الترديد: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر" إلى أن يصطفّ معهم. يتجاهله الإمام ويكمل الصلاة.

قبل عشر سنوات وفي نفس المسجد
التَفَّ الصبيةُ حولَ الإمامِ في حلقةٍ لختمِ القرآن. "محمد دورك .. اقرأ". بدأ الفتى الصغيرُ بقراءةِ سورةِ الإخلاص.
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ
كرّرَ السورةَ وهو يهتزّ للأمامِ والخلف:
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ
صرخ به المعلم "محمد! محمد! محمد!" لم يبدي أيّ ردةَ فعلٍ. كان وكأنّهُ في عالمٍ آخر. أكملَ للمرِة الثالثةِ وصوتُهُ يعلو ويرتعشُ أكثرَ فأكثر:
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ
رفعَ المعلّم عصاهُ ليوقظهُ ممّا هو فيه، وقبل أن تهوي على الجسدِ الصغير، يقفزُ محمد من مكانِه ويدورُ مردداً: "اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ أَحَدٌ أَحَدٌ أَحَدٌ أَحَدٌ أَحَدٌ"، ويسقطُ في مكانه دونَ حراكٍ.
"السلام عليكم ورحمة الله" سلم الإمام، وقبل أن يبدأ بالدعاء، يصرخ محمد من آخر الصّف: "لا تصلوا للجدران لا تصلوا للجدران لا تصلو للجدران...."
"أبو محمد شل ولدك من هنا! موه شايفنا كفار ولا يهود يقولنا نصلي حال الجدران" صرخَ أحدُ المصلين بغضب. يذهب أبو محمد إلى ابنه منكسراً : "قوم يا ولدي خلا البيت".
ينهضُ محمد ويكشفُ ثوبُه القصيرُ عن ساقٍ مليئةٍ بالحروقِ والوسوم. يرددُ وهو خارجٌ مع أبيه: "صلوا للواحد كلنا واحد صلوا للواحد كلنا الواحد".
مضت ستةُ أيامٍ منذ سقوطِ محمد في المسجد، قضاها في الفراشِ دون حراك، وفي اليوم السابع فتح عينيه واستوى في مكانه.
"يعقوب يعقوب محمد قام محمد قام!" صرخت أم محمد بفرح. ضمته لصدرها وأخذت تسنشق رائحته بشوق وتغسل وجهه بدموعها: "يا الله يا حبيبي يا محمد لا تودرني ما عندي غيرك!". دخل أبو محمد ورأى زوجته تحتضن ابنها بقوة وتبكي ومحمد ينظر بدهشة لكل ما حوله. "قومي عن الولد بتقتليه خليه ينتفس شوي!"، أبعد أبو محمد زوجته عن ابنها "محمد ولدي كيفك أهون باه تبا تاكل شي؟" بقي محمد على صمته وذهوله.
- محمد محمد ولدي تسمعني؟
- هو.
- أنا أبوك محمد ما عرفتني؟
- هو.
- لا حول ولا قوة إلا بالله ضاع الولد!
ما إن سمع محمد لفظة "الله" حتى فاضت عيناه بالدموع وبدأ بالصّراخ: "هو هو هو هو !"
احتضنتهُ أمّه، وأخذتْ تمسحُ على رأسِه وتقرأُ سورةَ الفلق.
"هذا أكيد جني متلبسنه! شله عند المعلم مبارك".
يُخرج محمد رأسَهُ من بابِ البيتِ بهُدوء، يلتفتُ يميناً وشمالا، يخرجُ من البيتِ راكضاً باتجاهِ البقالةِ الملاصقةِ للمسجد، وقبلَ أن يدخل، يصرخُ أحدُ الصبيةِ المتجمّعين أمام المسجدِ ويلوّحُ له: "محمد محمد تعال معنا". ينظرُ محمد إليهم. يلوح بكلتا يديه ويصرُخُ بفرح: "أصدقائي أصدقائي!". يصافحُ كلَّ واحدٍ منهم بحرارةٍ وفرح ويقول له: "أحبّك".
تتعالى ضِحْكاتُهم فيضحكُ محمد معَهم. ينهضُ أحدُهم من مكانه ويأخذ علبةً من أمامه ويبدأُ بالضربِ عليها. يغلقُ محمد عينيهِ ويتمايلُ يميناً وشمالاً ويبدأُ بالغناء:
مليان قلبي مليان
ويسيل مثل الوديان
أرجوك لا تعذبني
وتروح عني زعلان
يهتز يميناً وشمالاً، والفتيةُ يصفقون له ويضحكون.
هذا الهوى ماحني وباقية رسومه
مقدر أشيل للاسواق واسومه
مليان قلبي مليان
ويسيل مثل الوديان

" يالسفل يا قليلين الأدب! خلو ولدي بحاله! صبروا كان ما خبرت عليكم أمهاتكم!"، تصرخُ أم محمد غاضبة، وتأخذ ابنها من بين الفتية.
"يا معلم مبارك الولد يله أسبوعين من يوم ما طاح وما عارفين موه فيه!".
أنزلَ المعلم رأسَهُ للأرض وتنهد بحزن: "يا يعقوب يا أخوي الّي جاه من حكمة ربك".
صرخ أبو محمد بحزن: "يا معلم راس مالي في الدنيا هذا الولد، ربك ما عطاني غيره! يرضيك يجلس كذا؟!! حتى كلام ما يتكلم ما يقول هُو هُو".
هز المعلم رأسه بأسى وهمس لنفسه : لو تعرف الـ هو !
"جيبه باكر وبوسمه وبإذن الله بيرد يتكلم".

يهيمُ محمد في السّوق. يعبرُ بين الناسِ دونَ أن يُبصروه. يمشي ويضحك، يمشي ويبكي، وكلٌّ في دنياه. تقوده قدماه للسوق القديم. يتوقفُ أمامَ جدارٍ في منتصفهِ نقطةٌ صغيرة. تتسارع أنفاسه. يصرخُ بشوق: "هُوَ هُوَ!". يذهل الناس لهذه الصرخة المفاجئة. يركض محمد متجهاً للجدار. يصطدم به ويسقط. يتهافت الناس ليروا ما الذي جرى: " محمد محمد أنت بخير؟"
ينهض محمد من مكانه كأن شيء لم يكن. ويجيبهم "وهْم وهْم" !
"محمد راسك كله دم!!!"
يبتعد عنهم وهو يردد: "وهْم وهْم" !


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
رد مع اقتباس