عرض مشاركة واحدة
  #37  
قديم 10-09-2013, 02:14 PM
الصورة الرمزية الملتقى الأدبي
الملتقى الأدبي الملتقى الأدبي غير متواجد حالياً
كاتب فعال
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 46
افتراضي

الثياب الململة
لـ : عبدالله العلوي

بدأت نبرات الصوت ترتفع شيئا فشيئا إلى أن اقترب الصوت من أذني، وكأن الصارخ يصرخ أمامي، اقتربتُ لأسمع من الصارخ؟ وماذا يقول؟ اقتربت أكثر فأكثر باتجاه الصوت، وفجأة تخرج في وجهي وهي تصرخ بأعلى صوتها: أين أنت يا أبي؟؟ رفعت رأسها، وعندما رأتني صرخت بصرخة مدوية: أبي أبي أبي، وارتفعت من مكانها، وتعلقت بي ممسكة بعنقي، وكأن ابنة لم تر أباها الذي تحبه منذ فترة من الزمن الغابر، حسبتها تلك الأفعى التي تلتف على بنت العجوز الطمّاعة –كما جاء في حكاية جدتي- حاولت أن أفلتها من جسدي الرث المهترئ، ولكن هيهات هيهات، كيف لك أن تزيل الحديد الملتحم إذا التحم بأخيه الحديد؟!، ومما زادني تيها وغيا أنها كانت تنتفض بقوة، حسبتني في مغزلة قماش عمي، وعمي يغزل بالمغزلة والخيوط تهتز اهزازا كبيرا.
كانت خائفة كثيرا، ذكرتني بأختي الكبيرة عندما كانت تخاف من الظلام، تتعلق بأمي أو بأي أحد بجانبها، عجبت من تعلقها بعنقي فلربما بعثها ملك الموت لتحكم علي بالفناء الأبدي، الفناء الذي تتماطر حوله الحياة الأبدية.
مسكتها بأصابعي الخمسة من وجهها –حسبت وجهها كرة لعبة الجل، وكأني أريد رميها- فانكشف وجهها، رأيت شراجا من الدموع تهطل بغزارة من عينيها العسليتين، مرت على ذاكرتي أحداث كنت فيها بهذا الحال من البكاء، ذكرتني بقساوة دموعي المنهمرة، تراء في مخيلتي ذلك الخد وهو يلاقي الأيدي الماردة العملاقة، لمع لي طيف سياط القسوة تقصف عليّ يمنة ويسرة، وما كانت حيلتي إلا نزول دموعي البريئة، أجبرها على الظهور وهي لا تريد الشهرة، وتبقى قابعة خلف مقلتي الصغيرتين.
عاودت التمسك مرة أخرى برقبتي، وأصبح رأسها خارجا من كتفي، وصدرها ملتصقا بصدري، وكأن مغناطيسا يجذبها إلى صدري، لأول مرة أحس بمرارة الفراق واللوعة، ومرارة الخوف والفزع والهلع.
صرخت في أذني بقوة: أنقذني أرجوك.
ارتبكت ماذا أفعل؟! الآن بدأ اختبار فريد من نوعه، اختبار يجب حله في ثانية واحد أو أقل من الثانية، هي الآن في حضني، وتصرخ أنقذني، ولا أعرف ما سبب تعلقها بي، ولما هي خائفة؟.
طمأنتها وهي في صدري، تذكرت أمي وهي تهدهد أختي الصغير؛ كي تسكتها وهي في سنيها الأولى، وأثناء هدهدتي لها على ظهرها بهدوء قاتل؛ عصفت في ذهني أسئلة كثيرة،
كيف تناديني أبي وأنا لا أعرفها؟؟ ولا أعرف سكنها؟؟
وما أرقني كثيرا، كيف تقول لي يا أبي وأنا ربما أصغرها أو أكبرها أو أننا متساويان في العمر؟؟؟!!!
وبعد أن هدأت تلك العواصف من الخوف والهلع، أنزلتها من حضني،
حاولت أن أمعن النظر فيها، وكأني أفتش على ألعابي أين خبأها أبي؟؟! فلربما التقيت بهذا الوجه من قبل، أو أنني لربما التقيت به في أزقة حارتي، وأنا لم أمعن فيها، أو أنها ابنة جارنا أو أو أو..
رأيت دمعها تنهمر بغزارة، مسحت دموعها من خدها، حاولت أن أمعن النظر في وجهها مرة أخرى، ولكن للأسف خانتني ذاكرتي كما هي عادتها في الخيانة، أريد أن أتذكر من هذه؟ وأين لاقيتها؟؟ وما هي الصلة التي تربطني بها حتى تناديني أبي؟؟ ثار في عقلي وابل من الأسئلة التي أردت أن أقتلها، نعم أقتلها، كيف لا وشابة في مقتبل العمر تناديني أبي؟؟!! هل أنا حقا أبوها؟؟!! هل أنا ربيبها؟؟!! أتعلمت معها أو علمتها ؟؟!! أم أنني لاقيتها في زقاق حارتنا، ولم أحدثها لخجلي الفاضح.
- يا سيدتي من أنت؟
نظرت إلي شزرا.. وقالت:
- أنا ابنتك يا أبي..
جاءتني دهشة بطريقة ردها الغريب، ونبرت صوتها المطمأنة.
- ولكن أنا لم أتزوج حتى تكوني ابنتي؟؟!!
- لا أنت متزوج أمي ورُزقت بابنة وهي أنا أنا زينب
زادت دهشتي من شدة صرامتها وثقتها بكلامها، وكأنها متأكدة تأكدا تاما، مما تقول، بل هي تثق بأن كلامها حقيقي لا غبار فيه، رجعت أتفحصها، فوجدت أن عينيها عسليتان، طويلة، متوسطة الجسم، مستطيلة الوجه، المملتى بياضا، وشعرها المسود، لكنها ليس طويلا وإنما قصيرا إلى حد كما.
- ألن تساعدني يا أبي؟؟!!
فاجأتني بسؤالها، أجبتها بعد مدة ليست قصيرة، أحسست وكأني في محكمة قضائية وحكم علي بالإعدام والقاضي يسألني هل لديك كلام أخير تريد قوله؟؟، تحشرجت في الكلام، ولم أستطع أن أجيبها، انطلقت كلامات في لساني.
- نعم حبيبتي سأساعدك.
لا أعلم كيف نطق لساني بتلك الكلمات الجميلة، مع أني لا أعلم من هي ؟؟!!، ولكن أثق أن القلب أجبرها على الخروج بدون إذن سابق.
أطرقت رأسي إلى الأرض، تراء في رأسي أبي وهو يلتهمني بصوته، وأنا مطرق رأسي إلى الأرض، خوفا من أن تلسعني يده وتلاصق خدي كما هو عادته.
رفعت رأسي إليها، فرأيتها تبتسم وثغرها مملوء بالحنين، نادى منادٍ في رأسي بأفكار كان سببها ابتسامة تمنيت لو أنها لم تخرج من فمي ولم أجبرها على الخروج.
وما إن حل المساء حيث النوم، حيث الحب، حيث العشق، قالت بكل حنيه، وبكل برود تام وهي تنام على ركبتي.
- أبي يا حبيبي أين أنت من زمان؟؟
التفت إليها بكل رؤم، نظرت إليها، فرأيت براءة الدنيا في وجهها
- أنا موجود يا حبيبتي، أنا موجود ولكنني كنت في موعد مع الموت..
- الموت؟؟!! وما الموت يا أبي؟!
التفت إليها رأيت طفلة وديعة على كبر سنها، تطلب الحنان من أبيها، تطلب الحب، تطلب كل شي جميل يمكن أن يقدم لها، كما كنت أتدلل على أمي، حاولت أن أجمع كل جمل الحب والحنان التي كانت أمي تجمعها في قلبها عندما يصيبني جرح طفيف، سآألت نفسي حينها، ما هي الطرق التي تستخدمها أمي لكي تجمع كل ذلك الحنان في قلبها في لحظة وجيزة؟!!، تمنيتها لو كانت الآن في جانبي تلقني درس الحب والحنان والعطف، تمنيتها تقول لي: افعل كذا ولا تفعل كذا.
- أبي أراك تحدث نفسك؟؟
صوتها ماء سلسبيل، ناعم الحس، يدخل في الأذن بدون إذن، فيتخلل إلى القلب بدون إذن، فيفعل فيه أفاعيل هوجاء، انتبهت لسؤالها، ارتبكت ولا مبرر لارتباكي، ظننتني متهم وأريد الهروب من جريمتي، وأبحث عن علة لجريمتي.
- لا بنيتي، أفكر في الموت.
نظرت إلي نظرة مفرحة
- إذا فأخبرني عنه..
ذهب خيالي بعيدًا، تريدني أن أحكي لها قصة الموت، القصة التي دائما أحكيها لذاكرتي البلهاء، القصة التي تذكرني بجدتي عندما مرضت ذاك المرض العضال، وجاء الموت فاخططف مني جدتي، جدتي التي كانت تحكي لي الحكايات الجميلة تحت (الشندرما)، تحيها لي قبل النوم بدقائق، حكايات عن ليلى وعن الذيب، وعن تلك المرآة الجشعة، القصص الكثيرة.
القصة التي تذكرني بجدي، حيث كان يحثني على مسابقة أصحابي لحضور مدارس الكتاتيب، القصة التي تذكرني بعمي لأنه المومول الأول لي ولإخوتي.
كم أكره الموت، أكره حماقاته، أكره سذاجته، أكره كل صفة تقربني إليه، لأنه سرق طفولتي، سرق لعبتي الصغيرة، سرق يتمي، سرق كل شي جميل فيني، حتى الشوكلاته التي كنت أشتريها من دكان العم سعود سرقها، كيف لي لا أكره الموت، وهو الذي فعل ما فعل بي؟؟!!
- أبي؟؟
وأنزلت رأسها إلى الأرض دلالا..
لأول مرة أحادث فتاة بهذا الجمال، وتحدثني بكل دلال وحنية، أحسست أن الكون امتلى حنانا وحبا، ماذا حل بي هكذا فجأة دن سابق إنذار.
ابتسمت عندها ابتسامة المسترضي الذي يريد الرضا من حبيبته، لا أريدها أن تزعل مني ولو ثانية من الزمن، أحس بأن الدنيا تتزين لي، مع أنني قد عاهدت نفسي لا أراجعها بتاتا، لأنها حمقاء بطبيعتها.
سرحت قليلا، تفكرت في نفسي وهذه البنت..
نادتني مرة أخرى: أبي؟؟
أجبرتها بصوت مرتفع بعض الشي، لأني كنت سرحانا، ولم أتوقع أن تسألني، تمنيت لو أن لساني انقطع قطعة قطعة، تمنيت لو أن الموت زارني قبل أن أنطق بكلمة نعم، ارتفع صوتي عليها، وما حسبت أني سأرفع صوتي على دلال الدنيا،
عندها طأطأت برأسها إلى الأرض دلالا مرة أخرى، -وما أجمل دلال الأنثى عندما تكون جميلة-، وفوق كل هذا تتدلل، ومع ذلك أتوقع أنها لا تربطني بها علاقة بتاتا إلا أنها هي تناديني أبي وأنا أناديها بحبيبتي، وكأن رابطا بين قلبها وقلبي، وبين حبها لي ومنادتها بأبي، وبين حبي لها.
أحببتها بكل ما فيها، حتى لو لم تكن ابنتي، حتى لو لم يربطني بها أي علاقة كان نوعها، فسهم الحب دخل في قلبي بل وتغلغل في شراييني وأصبح الهواء الذي أتنفسه.
قبلتها على جبينها لأسترضيها، وما أسرع رضاها، عرفت أنها لم تزعل وتتدلل لأنها تريد الزعل بل زعلت لأنها تريد هذه القبلة مني، وكأنها تنتظرها من ساعات كثيرة.
شارف الليل على أن ينسدل، ويقترب نصفه، نامت بسرعة خاطفة، فالنوم كان واقفا من فترة من الزمن على رأسها، ولكن لم تأذن له، فتعب من الانتظار فدخل بدون إذن مسبق، ولم أنم خوفا من أن يصيبها شوكة في جسمها فيؤثر على نومها الطبيبعي، وفرت لها كل سبل الراحة وكأنها في فندق بسبعة نجوم، حيث جعلت ركبتي وسادة لها، وفرشت عمامتي لتنام فيها، وجعلت ردائي لحافا لها خوفا من أن يصيبها برد فتمرض، عندما أيقنت على راحتها التامة، قررت أن أزيل من رأسي النعاس فنمت جالسا متكئا خوفا من أن أسبب لها إزعاجا أثناء نومها.
رد مع اقتباس