عرض مشاركة واحدة
  #40  
قديم 10-09-2013, 02:16 PM
الصورة الرمزية الملتقى الأدبي
الملتقى الأدبي الملتقى الأدبي غير متواجد حالياً
كاتب فعال
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 46
افتراضي

"حفلةُ مَوت"
لـ : حمد المخيني


" صديقاتي
طيور في مغانرها
تموت بغير أصوات"
نزار قباني


كل شيء أصبح ساكناً,
فجركِ بالكاد بلع ريقه, ليلكِ الجافُّ بالخطيئة ساح, السرير لم يعد يئن بإلحاح,
الأنفاس الكريهة تلاشت,
والمصباح المتدلي من أعلى الجدار, حسر ضوءه لأحزان أخرى.
كل شيء سكن , عدا غصة في قلبكِ,
ظلت تدوي.
جسدكِ مسجى على سرير لعنتكِ.يأتيك سعاله من دورة المياه, كهزيم رعد, يجتركِ إلى فجيعتكِ, تلتقطينَ أنفاسكِ فتخنقكِ رائحة العار. تولولينَ مرتجفة ضاربة كفيكِ على خديكِ, تلملمين ثيابك على عجل. يطل عليكِ "عقبى لكِ مائة عام". تبصقينَ عليه وجعك, وتهربين...
تتهادى إليكِ ضحكاتهِ الماكرة , وأنتِ تذرعين المسافة جرياً بعيدا عن شقته. تلاحقكِ , تحوم حولكِ كالذباب حول جيفة عفنة. تُضَّيعينَ الدروب, توقفين سيارة أجرة ...

***
مبتلة بالعرق والخوف.
تقفين بلا حراك أمام باب منزلكِ, توارين شحوب وجهكِ, تفرغين زجاجة العطر في ثيابكِ. بدوت قلقة , وحين هممتِ بالدخول, أسقطتكِ خطواتكِ , دفعتكِ الأرض. انتصبت قائمة تنفضين الغبار وتتحسفين. من أنت؟ إمرأة غبية في مأزق , لا يمكنها حتى اختلاق حكاية تطوي سيرة الليل. ماذا ستقولين لأخوتك حين يواجهونك؟ السواد أسفل عينك سيفضحك ونشيجك المخنوق لن يخبو أمام زئيرهم.
تعضِّين أصابعكِ ندما. تتمنين لو تعود بكِ الأيام إلي حيث كنتِ مصانة, تعاونين أمك، و تتفاخرين كلما امتدحتك و أوقفتكِ إلى جانبها؛ حتى إذا أقبلَ إخوتك , قبلّوا رأسَك.
تتمنين والألم يعتصرك , لو تعود عقارب الساعة , فتلسعُ لحظةَ ارتميتِ في حضن صديقتك, يوم شكوتِ لها مرارة الوحدة بعد وفاة أمك , انكساركِ على يد الأيام, وعمرك الذي يمضي دون أن تعيشينه.ظللت تشتكين وتشتكين, لم يهدأ بركانكِ الثائر في أعماقكِ حتى أفشت لكِ عن أمر سيغير حياتك:- "تزوجي, اظهري أمام الناس ليرونك.ستعنِّسين وتذبلين.عدة أشهر و يُطبقُ عليكِ الأربعين بشؤمهِ... خذي, هذا رقمُ هاتفِ ابن حلال , امنحيه الفرصة..."
تجاهلتها, فقد كبرتِ على مثل هذه التفاهات, انغمستِ في خدمة أخوتك , متناسية نفسكِ, و ظل صك خلاصكِ المزعوم مخبىء تحت السرير. لم يخطر على بالكِ أنك قد تفعلينها؛ حتى جَلبَتْ لك الصديقةُ ذات يومٍ تفاحة حمراء, مشدودة, تفوح رائحتها الزكية, وضَعَتها في يدك, طلبت منك لفّها بخرقة و تركها, فاستجبتِ لها. امتلئتْ الغرفة برائحة التفاحة الشهية المهملة على الطاولة منذ عدة أيام , لم تستطيعي المقاومة, سال لعابك , أزلتِ الخرقة, فوجدتِ التفاحة فاسدة ومترهلة, أرعبكِ منظرها, أشعلَ فيكِ فتيلاً من الهواجس, فـ لجأتِ إلى ابن الحلال...


***
بلا هدى تسيرين, تدركين أنْ لا مفر ولا ملجأ, تتأهبين للشقاء والموت, لأول مرة في حديقة المنزل تلمحين غرابا يقف على غصن النرجس, ينعق حظكِ البائس. تقذفينه بحصاة؛ يطير مواصلا نعيقه,وفي سواده الحالك, تتراءى لكِ الذكريات كالصفعات المتوالية.
يوم حادثته أول مرة, كنت تلهثين وكأنك قد خضتِ الأقدار جريا , تنفستهِ كالنسمة, أحيا رغبتك في الحياة. انتشلك من حضيض الوحدة إلى نعيم العاطفة. كتب أحلامك قدرا محتوما. فالتفَتِّ إلى الأنثى المنسية بداخلكِ اتسعت حياتك للحب, ورفرفتِ بجناحيك الصغيرين خارج العش الضيق إلى الأفق الرحب , تحلمين بحضنٍ يكنس سنين حرمانك عن الذاكرة.
لم تستمري طويلا حتى رضيت أن ترينه خاطفا بسيارته. قال لك يومها, أنك تبدين كمراهقة صغيرة بضة, رددتِ عليه مازحةً , أن المراهقة هذه تكمل الأربعين قريبا, وهي تقف كسلعة مهملة أمام زبون لا تعتقد أنه يحب اقتناء الأشياء العتيقة. لم يضحك لمزحتك, بل ناشدك باسم الحب أن تقابلينه. استجبت لطلبه ؛ خوفا أن يتركك تصارعين الوحدة مجددا. و ازدادت لقاءاتك معه في الأماكن العامة مدعية زيارة صديقتك , متخفية خلف نقابك. و بقي هو يدس لك الطعم , وبقيت أنت تهنئين بحبه.
حين اقترب يوم ميلادك, دعاك إلى حفلتك بين أمه وأخواته. وكفأرة جائعة , قادك النزق نحو الفخ مغمضة العينين لا تفكرين سوى فيما ينتظرك من سعادة و هناء...

***
أيتها المرمية في وحل الخديعة, وعدك بحفلة ميلاد فأهداك حفلة موت. أينَ ستخبئين حسرتكِ اليوم و أنتِ تسيرين على طينةٍ ملتهبة ؟ تحدقين في جدران البيت أمامكِ؛ فيتراءى لكِ خيال أخوتكِ من خلفها كالأشباح , يلفظون صبرهم الأخير. يطوفون حولك أشواطا, يتطاير الشرر من حمرة أعينهم.عين تصرخ من أعماق الغضب:وحده الموت يغسلك.عين تنقب عن خطيئة في تقاسيم وجهكِ المفضوح , دو أخرى ترميكِ سهاما من اللوم.وأنت موبوءة بالذنبِ تتوقين للفرار نحو حضن أمك التي تتوشح البياض , و تطل عليك من السماء باكية.
تصعدين الدرجات واحدة تلو الأخرى مستسلمة, يوقفكِ الباب الخشبي, يحذركِ صريره. كل شيء بدا ساكنا عدا غصة في قلبكِ ظلت تدوي وتدوي.تحثين الخطى, تستشعرين من القدر خلاصا ينجيكِ اليوم ببدنك , كلما خطوتِ نحو غرفتك سالمة, خالجتكِ مشاعر الإنتصار على خيباتكِ المتلاحقة ,كلما اقتربتِ أكثر, إلتئم جرح من حكايةٍ بائسة, وانعقدت مسبحةُ عمرٍ كادت أن تنفرط على دم العار...
و كنتِ لا تزالين تدفعين باب الغرفةِ حين تعالت أصوات الأبواق وغمرتك قصاصات عيد الميلاد المزركشة والملونة بألوان براقة. أخوتك يحتفلون بك، أحدهم يغني أغنية عيد الميلاد, آخر يؤدي حركاته البهلوانية التي لطالما أضحكتك, وثالثٌ اقترب ليحملك نحو كعكتك المزينة بالشموع, وأنت تقلِّبين بصرك حولهم , تستحثين منهم ردة فعلٍ , فلا تلمحين في لمعة أعينهم سوى ثقة عمياء. صفقوا لك لتباشري قص الكعكة. و في لحظة, غرستِ السكينَ في أعماقكِ, انتفضتِ.
رد مع اقتباس