عرض مشاركة واحدة
  #12  
قديم 24-07-2011, 05:16 PM
الصورة الرمزية أحمد الهديفي
أحمد الهديفي أحمد الهديفي غير متواجد حالياً
اللجنة الإعلامية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 123
افتراضي

الأعمى

القصه الفائزة بالمركز الرابع


في السوق يجلس الأعمى في أحد الزوايا المطلة على سوق الغنم ، حيث هناك تساق البهائم وتباع في لوحة تقليدية توارثتها الأجيال من حقب مديدة كما يحكي الأعمى ذلك.
يفضل الأعمى هذا المكان على غيره لكثير من الأسباب ، حيث كل صباح يلتقي بأصحابه ويشاطرهم حديثه ويستمع لأخبارهم بحلوها ومرها ، فهو لا يميز بين وجوه الناس ، لذلك يضحك لضحكهم ويحزن لمصائبهم .. هكذا فقط يجلس وينشد الأشعار ويقرأ عادة آيات من القرآن يضيف بها لونا دينيا على جلسته ..
يحلو لأقرانه من كبار السن أن يشاطروه جلسته ، بل يطيب لهم ما يقدم هناك من أخبارعن الولاية وأهلها ، وحتى عادة شتم أحدهم كان يرقى لهم وعلى إثرها يتبادلون ضحكاتهم ..
اليوم يقال له "الهبطة"(1) ، لذلك كان الأعمى حريص أن ينزل إلى السوق مبكرا حتى لا يفقد مكانه المطل والأستراتيجي الذي يحسبه كذلك ، ففي الهبطة تتوافد الوفود من كل حدب وصوب في الولاية ليتخيروا أضاحيهم للعيد، لهذا تجد أنه تساق الأغنام والأبقار وحتى الجمال لهذا السوق . فيزحم السوق ، وتتقلص الأماكن والمسافات بأبدان البشر ويرسم السوق بأصواته غوغائية عذبة في أذن الأعمى ..
بدأت "الهبطة" ، وعلى أثرها بدأ صوت "الدلالين"(2) يعلو ، ولم تسكت البهائم من عويلها، والناس من لغوها ، والأعمى يقبع في زاويته مستمتعا بذلك ، يراوح بين محدثيه وحديث "البهائم" وهي تقاد للبيع ، يضحك تارة من شتيمة أحدهم للآخر ، وينصت لصياح نعز لتوه قد دخل مسار البيع مفترقا عن أمه ومودعا عشها .. وبينما المشهد يضج بهالة من أمواج الدلالين وصياح البهائم قطع فجأة صوت نقع شديد في وسط الميدان .!!! فلاذ كل صوت بالفرار .. وسكت الجميع ..!
فجأة تبددت الأصوات وبقي الأعمى يحاول أن ينصت لكل ما يدور حوله ، ففي ثوان معدودة لم تلتقط أذناه إلا أصوات انفاسه وحده فقط ، حاول جاهدا أن يسمع ، وكأن به يحاول أن يرى بسمعه، يتقفى أثر تلك النقعة الشديدة التي ببدت متعته ..ولكنه لم يستطع فعل شيء.
لحضات بسيطة مضت ، وبدأ اللغو يعود ، لكن هذه المرة بصراخ أحدهم ، ألتفتت الوجوه إلى ذلك الصراخ وتدافع الناس إلى مصدره ، والأعمى بدوره لم يبرح مكانه بل غير من وضعيته فقام بعدما كان جالسا ، وحاول أن يستقطب بيده أحدهم ، واضعا أذناه في أتم تركيزها ، حاول أن يمسك أحد من حوله ليرى من حديثهم ماذا يدور حوله ..

(1): الهبطة : يوم قبل أيام الأعياد في عمان يباع فيه الأغنام والسلع الخاصة بالعيد.
(2): الدلالين (جمع مفرده دلال): وهو رجل في السوق يقوم بالإشراف على عملية البيع ، وهو من سيوق للسلع بصوته الجهوري. ويدير المزاد العلني للبضاعة أو الماشية.
لم يكن أحد بجانبه ، لم يبقى أحد حوله ، لم يستمع أحد لهذيانه .. بقي مجهولا في وسط المعركة لا يعرف إلى أي الفريقين سيمضي ، هل سيترك مكانه وينقاد لهم أم يبقى فيجهل ما يدور حوله .. ففي نفسه الأثنين ويخاف من خطر الأثنين ، بدأت معركة داخلية داخله ، وبدت أفكاره تتصارع فيما بينها ، فضاق صدره بما آلت أليه الأمور ..إلا أنه قرر البقاء في مكانه ..
قرر الأعمى وكله أمل أن يأتي أحدهم ليخبره ماذا يدور حوله ..،ولكن طال أنتظاره، رثى لحاله إلى ما وصل بعدما كان مجلسه يألفه الكثير ، لم تكن تلك الدقائق من يومه إلا كسنوات تمر عليه، خاب ضنه إلا أن من حوله بدأت ترتفع أصواتا أخرى ، بدأ حوار بجانبه يدخل إلى مسامعه :
ماذا حدث ..؟؟
لا أعرف ..
أنظر إلى ذلك الرجل الذي يحملونه أنه ملطخ بالدم ؟؟
اللهم أسألك الرحمة ... ماذا جرى هناك .. أيه ماذا يجري ..ما..
وبدأت أصوات أقدامهم تبتعد شيئا فشيئا إلى أن أختفت من مسامعه .. وجالت في الأعمى صورة للحدث الذي دار في "الهبطة" بل أرتسمت فكرة وضمها بين جنبات ذاكرته .. ضمها وهو غاضب لما حدث من دقائق معدودة من حاله ..
لم يزل الأعمى في مكانه يجلس منصتا لكل حديث عابر يمر من حوله ، ولكن "الهبطة" وغواغائيتها ألغيت اليوم ، وبقى صياح البهائم يغطي المكان ..
لحضات أخرى مرت وسُمع صوت سيارة الشرطة تقترب ، كانت الشرطة في هذا اليوم على أهبة أستعدادها ، ف"الهبطة" يوم طوارئ للشرطة ويوم فرح للناس كما يراه آخرون .. ترجل الشرطي من سيارته وأخذ يبعد الأفواج المتحلقة حول المكان، وأقتاد أحدهم للسيارة ، فيما دور الشرطي الآخر بشريط أصفر حول المكان كتب عليه " ممنوع الأقتراب ..مكان جريمة"..
كانت تلك نقعة لأحد الأسلحة التقليدية أطلقها أحدهم على رجل كان واقفا حذوه ، مما أدى إلى مصرعه ، كان هذا حديث أحدهم من أعوان الأعمى ، بل يمكن أن نطلق عليه مجمع الأحاديث كلها التي بدأت تتراجع شيئا فشيئا إلى مجلس الأعمى ساعتها .. لكن صوتا آخر علق قائلا :
يقال أنه لم يكن متعمدا ..بل كان يجرب ذلك السلاح ..
رد عليه آخر بنبرة حادة :
كيف يجربه في وسط السوق ؟ ألم يرى الناس حوله ؟
ولماذا نعيب عليه ، مادام ذلك المحل لبيع تلك الأسلحة؟ وفي ذلك المكان ..
ولو كان ذلك.. العيب عليه ..
....
...
بقي الجدال بين الأثنان ، وتعددت وجهات النظر حول الحادثة ، لكن الأعمى ترسخت في خلده فكرة الرجل المجرم التي سمعها ساعة الحادثة من ذلك الحوار .. تبنى تلك الفكرة ودافع عنها بشدة ..أنتقاما لأقرانه الذين خذلوه ساعتها.
في اليوم التالي خرج الأعمى مرة أخرى مبكرا ، لكن اليوم ليس بيوم "الهبطة" ، بل توافد الحشود لذلك المكان لرؤية مكان الجريمة قد يسرق عليه مكانه ومجلسه ، وصل الأعمى إلى مكانه وجلس يتمتم بأشعاره كعادته ينتظر محدثيه ليستقي منهم آخر الأخبار حول جريمة "الهبطة" كما سميت لاحقا ..
لم يطل به الأمد إلا وأحدهم يخاطبه :
صباح الخير
لم يستطع الأعمى تمييز الصوت ، فهو لم يكن صوت أحد محدثيه السابقين ..
صباح النور ,, من أنت؟؟
أنا أحد المحققين بالجريمة (جريمة الأمس) .
أرتبك الأعمى قليلا ، فضيفه هذه المرة رفيع المستوى ولم يسبق أن زاره أحد من قبل كذلك ، رد بسرعة قائلا بعدما غير جلسته :
تفضل .. ماذا تريد ؟؟
قيل لي بأنك كل يوم تجلس في هذا المكان ، وأنك على علم بكل شيء بما ما يدور حولك ..
نعم , فأنا منذ سنوات أجلس في هذا المكان ... ماذا هناك ؟؟
هل لك أن تحكي لنا ماذا حدث بالأمس ؟؟
بدأ الأعمى يسرد حكايته مدعما أقواله بكل الأحاديث التي سمعها من أقرانه بالأمس ، وكان المحقق يكتب التفاصيل حسب ما يريد من معلومات ..تحدث الأعمى طويلا وشرح الحادثة بتفاصيل عديدة إلا أنه تحاشى رأي من قال أن المجرم ليس متعمدا ، وحاول أن يثبت على فكرته التي بنى عليها حكمه ..
أيام وأحداث مضت على الحادثة والأعمى متشبث بمكانه ، ولم يغير قناعاته حول القضية، جاء بعدها رجل من أقرانه وفي يده مذياع صغير يحكي تفاصيل جريمة الهبطة ، وكأن الأعمى يروي ذلك ..
فرح الأعمى بما سمع من أخبار يومها ، وقرر بعدم تغيير مكانه مهما كلفه الأمر ..فرأيه أصبح يذاع في المذياع !!

علي بن سعيد البيماني
رد مع اقتباس