الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #47  
قديم 21-04-2013, 09:48 AM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

بعده بقليل ودعت فارسها، طلبت طاكسي وعادت إلى البيت، دخلت إلى غرفتها ونامت، حلم بالشامبانيا كان أحلى ما وجدت في تلك الليلة، في الصباح تفقدوه، فلم يجدوه، وقبل أن يخرجوا جاءهم الخبر بأنه في المستشفى، خرج منه مع منتصف النهار، نقلوه إلى البيت، ماحصل له شيء متوقع مادام هو مصاب بالسكري ولا يقاوم الحلويات كما قالت زوجته… ينظر إليها بعين المقت والكره، وماذا عساه أن يفعل أو يقول خوفا من فضيحة تسقط هيبته في العائلة، بل عند جميع من يعرفه، أما هي فما فعلت إلا ما يفعل أغلبية الفرنسيات ...فاليمخره السكوت حتى يقتله أو يعوقه، و بعد..
فلزم الصمت واعتزل الجميع، يدخن بدون انقطاع، أدمن على القهوة وغار صوته في البيت نهائيا، واستراح منه الجميع... من حين إلى حين يعيد صورتها وهي كالفراشة في حضن ذلك الرجل، ليتأكد أنه رآها حقيقة، وتزيد حيرته من تصرفها معه بطريفة عادية، كأنها ليست هي، و أنه قد شبهها فقط، يريد في بعض الأحيان أن يصرخ في وجهها، لكنه يخشى أن تنفي ما فعلته أو تتهمه بالتأخر والسذاجة ،وما فعلته كان مجرد رقصة تقوم بها أي امرأة متحضرة مع أي رجل، بل أكثر من ذلك، له أن يفعلها هو إن شاء ولا تمانع، بالعكس ستسعد بذلك كثيرا... يراها دائما بنفس اللباس لما تأتي عنده لتودعه حين تريد أن تخرج، تقول له:
- لما تستعيد عافيتك نتعشى سويا في أفخر مطعم وعلى حسابي، سأعيد لك شبابك... سترى...
فلا يرد، تضحك هي وتختفي ولا تعود إلا في آخر الليل، يألمه اجترار محرك السيارة التي تأتي بها ويطعنه انصفاق الباب، فيتنهد، من حين إلى حين كان يدخل في غيبوبة واستفحل فيه المرض وأثر على كليتيه، وأصبحت حياته مرهونة بجهاز تصفية الكلى...
في ذلك اليوم قام مبكرا، جلس في الحديقة يشم وهيج أزهاره، وتنفس الصبح المنعش الجميل، فإذا بالفيلسوف يقف عند رأسه
- صباح الخير، إنك اليوم أحسن
لم يرد عليه، نظر إليه وتمنى أن يكون ما وراءه خيرا، فنظر إليه وهز رأسه يسأله..
- جئت لأخبرك أن تركة جدي كلها بيعت في المزاد العلني، باتفاق كل الورثاء، حتى المسكن هذا، وستبدأ عملية الإستلام في هذا الأسبوع على ما أظن، وكان من نصيبك أنت ونحن معك بالطبع، خمسة عشر مليون وسبعمائة ألف دينار، وهذا هو الشيك حرر باسمك بعثه الموثق، تفضل، إمضي هنا.
- -باعوا الأرض كذلك
- باعوا كل شيء، لأنه حصل سوء تفاهم على التقسيم، المبلغ هذا مهم جدا، نستطيع أن نشتري أجمل فيلا في أجمل وأرقى حي، ويبقى الكثير
- باعوا الأرض باتفاق كل أعمامك وعمتك
- نعم باعوا المزرعة كلها وقد سلموها بالأمس إلى صاحبها
- فعلوها أبناء الساحر، فعلها الأوغاد كما قالوا
- وبمباركتك وموافقتك أنت، هل نسيت؟
- أنا؟... متى؟
- الأسبوع الفائت، وأمضيت على العقد، لا تقل لي أنك نسيت !!
وفهم اللعبة، ولكن لا تزال كل الخيوط بيده ولن يفلت من يده أحد.. أخذ الشيك، كان محررا بخط جميل وكأن الأرقام رسمت بريشة فنان، وحدها بهذه الأسفار تسيل لعاب أقنع الناس وأزهدهم. وضعه في محفظته وسكت
- ماذا أنت فاعل الآن؟
- هذا أمر لا يخص أحد، فما دخلك أنت؟ إنتهت مهمتك تفضل
- أنت مريض لا تستطيع أن تتصرف وحدك، وأنا إبنك الوحيد، إذا وضعت هذا الشيك في يد أمي ستكون نهايتك، أنصحك، إنها ورقتك الوحيدة التي تستمد بها سيطرتك على الوضع
- قلت لك تفضل، خلاص
وجد في كلامه كثيرا من الصدق ولكنه صدق وراءه فخ، وفرض عليه الموقف أن يتحفظ أكثر ومع الجميع، إستعاد بهذه الثروة شيئا من قوته وتوازنه، ولكنه في وضع أسوأ من أن يحسد عليه، وأي هفوة ستكلفه الأتعاب التي تصنع نهايته قبل آجالها، الجميع ينتظر سقوطه، ينظر إليهم كأبناء العقرب على عاتقه، أو كغربان تحوم حول صائدة أهلكها الدهر بنوائبه فوقعت تفتك بها الوحوش...
ذهب إلى البنك، حول المبلغ إلى حسابه، إتصل بمحام ليقوم بكل الإجراءات التي أرادها، واتصل بوكالة عقارية تبحث له عن مسكن متواضع في حي هادئ قريب من مركز تجاري.
في غيابه اجتمعت الأسرة برئاسة الأم تنظر في وقوع كل الإحتمالات ، تعد التدابير اللازمة لمواجهة أي موقف يتخذه، أو يحاول من خلاله أن يحرمهم من حقوقهم في الميراث.
رتب أموره، وعاد إلى البيت مطمئن، فوجد إبنته تنتظره، دخلت معه إلى غرفته، تعب كثيرا في هذا اليوم، استلقى على سريره يتنفس بعمق ليستعيد راحته ووتيرة نبضاته العادية، تركته حتى رأته قد استقر حاله ، تأخذه السنة بعد السنة...
فبادرته قائلة:
- في هذا الأسبوع سيأتي الأمر بإخلاء المنزل على حد ما سمعت ، وأعرف أنه من غير الممكن أنك تستطيع أن تشتري بيتا في هذا الظرف الوجيز، ولهذا جئت أطلب منك أن تأتي معي إلى بيتي مع جدتي، سأوفر لك كل الظروف المناسبة للإقامة عندي إلى حين ، فما رأيك؟
بدأ ينظر إليها والشك يمخر براءة العرض، وبدأ الغضب يكتسح ذاته المتعبة.. إستوى جالسا وقال:
- سأفكر في الأمر جيدا وأرد عليك في الوقت المناسب
- فكر في نفسك قبل الجميع، أنت مريض تحتاج إلى رعاية خاصة، وحدي أنا أستطيع أن أخدمك سواء في بيتك أو في بيتي.
- إنها حمى المال يا بنيتي، حتى أنت أصابتك وحولتك إلى ملاك بامتياز، أعرف أنكم كلكم أبناء الدينار، عليه تجتمعون وعليه تتفرقون، نصيحتي لك أن تذهبي ولا تعودي إلى مثل هذا الكلام أبدا، أنا الآن لست بحاجة لأحد، وكلامك هذا سيجر إليك متاعبا كثيرة، تعرضك إلى أشياء لا تحمد عقباها، هيا ابتعدي عني ، لا أريد أن أرى وجهك بعد اليوم..
- تطردني؟
- خير لك، هيا لا تجعليني أصرخ فيسمع الجميع، هيا.. هيا.. هيا...
وأسرع الجميع، فوجدوها واقفة تنظر إليه، لا تعرف ماذا تقول ولا ما ستفعل... أخرجوها.. طردهم جميعا وأغلق الباب.
وهاجمتني في بطنها الأحقاد، والضغينة والكره والبغض حد الإنتقام، وعرفت كيف تكتسب هذه الأشياء ومن أين تأتي . خرجت أمي وهي تتوعد جدي بموقف أشد، والكيل بضعفيه، حفظت الدرس وقلت لها سأرد لك الدين مضاعفا إذا تشابهت المواقف يوما ما ، قرأتها بسرعة ونسيت أن للمستقبل أوراق أحفظها لها أنا ، وأن أحكام القضاء مسجلة الآن في صفيحتي بإمضاء أفعالها وأقوالها في السر والعلانية، والشيء الذي لا تعرفيه يا أمي ، هو أنني أعرف الآن من سأكون يوما، آه لو تسمعيني اليوم وتنصتي ليجنبك القضاء متاعب كثيرة سجلها في صفيحتي، ويمحيها من أم الكتاب، ولكن هي فضلات أنانيتكم تصنع منا وجوها تشوه هذا الوجود الجميل، هي بقايا الظلام الذي يسكنكم ورواسب الشر تتشكل منها الكوابيس التي تغتال أحلامكم النرجسية فينا، هي الخطيئة يا أمي ، تلد الخطيئة، فاسمعيني... كانت صرختي تضيع في فضاء جسدها الذي ما كان فيه مانعا يرد الصدى، ولا سياجا يحمي العاقل من الجنون...
ذهبت أمي إلى غرفتها تجتر غيظها لتغذيني منه...
دفعت أمه الباب ودخلت، وجدته يبتسم، فاستغربت، وظنت أن به مس، جلست على حافة سريره، خيم الصمت بينهما، وضع يده على خده وأسند مرفقه على ساعده، ينظر أمامه إلى لوحة شارع الشان اليزي للفنان الفرنسي جان أنطوان واطو، ينتظر أمه أن تفصح عما في نفسها.. أما هي كانت تعرف الهواجس التي يعيشها إبنها، فاكتفت بالنظر إليه جسدا ينهشه المرض من كل جهة، بين يديه ثروة كبيرة كهذه، وطموحا يمزقه الخوف في كل منعطف، تبحث عن كلمات من عمق الحنو تعبر بها عن تأثرها بحاله بصدق يجعله يتأكد أن مال الدنيا كله عندها في كفة وهو في كفتها الراجحة.. وهو كان ينظر إليها بعين أخرى ويتعجب من هذه العجوز التي تبني على حافة موتها طموحا جردها من كل مشاعر الأمومة، وما أصبح يهمها إلا المال الذي في يده فأتت تساومه...
قامت قبلته، وانصرفت دون أي كلمة... وأصبحت الرقم المجهول في معادلته، يتسائل ماذا تبيت هذه الساحرة؟.. ولماذا ذهبت كما جاءت؟.. فسكنته حيرة أخرى...
وجاء الأمر بالإخلاء بمهلة شهر إبتداءا من تاريخ التبليغ، فكان لا بد من جمع العائلة ومعرفة الرأي الذي استقر عليه الأب، وقامت الأم بالمبادرة، جمعتهم في الصالون وذهب الفيلسوف يدعوه لحضور الجلسة العائلية الوحيدة التي لم يتخلف عنها أحد إلا الجدة. فجاء، جلس على أريكته كالعادة وقال:
- أمهلوني، إني أرتب أموري بهدوء، وإذا كان هناك من يريد أن يرثني وأنا حي، فهذا هو الجنون المفتعل الذي لا يقبله حتى عقل صاحبه.
كان كلامه كالعاصفة الهوجاء، فتناثروا وتفرقوا، ولما دخل إلى غرفته اجتمعوا ثانية في غرفة الأم، وبعد الأخذ والرد تركوا الأمر للأم هي التي ستتصرف، وواعدتهم أنها ستجد حلا يرضي الجميع، وأقسمت على ذلك بأغلظ الإيمان، فليس هذا الأعرابي هو الذي سيتلاعب بها ويضيع عليها فرصة العمر.
كان لهب حمى المال قد تمكن منها روحا وجسدا، يتآكل فيها كل شيء والطمع يأكل في ذاتها بعضه بعضا، وما هذه إلا بداية جنون الحلم بالثروة، والخوف الذي نفثه فيها ما فعلت فيه ليلة الرقص
...يتبع...
رد مع اقتباس