عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 08-03-2011, 08:08 AM
الصورة الرمزية حمود الحجري
حمود الحجري حمود الحجري غير متواجد حالياً
شاعر
 
تاريخ التسجيل: Nov 2010
الدولة: شق فجرك ظلامي وانجلت عتمتي 2012
المشاركات: 465

اوسمتي

افتراضي قراءة في قصيدة متى تكبر بعيني لعبد الناصر السديري

عبد الناصر السديري ..
واحد من القلة الهائلة ، الذين ينحازون إلى القصيدة ، إلى القصيدة فحسب ، ويؤسسون لتجربة مختلفة ، ومغايرة ، تجربة تتكئ على مخـزون قرائي ومعرفي واع .
ليس سوى شعراء من هذه الطينة النادرة بمقدورهم الذهاب بعيدا ، وبعيدا جدا ، في تخوم القصيدة ، والتأسيس لاسم جدير بالقراءة والمتابعة ، والبقاء ، بكل بهائه ، في دهاليز الذاكرة .
في قصيدته " متى تكبر بعيني ؟! " المنشورة بصفحة الشعر الشعبي بجريدة عمان الكثير من المغايرة و" الانعتاق من التقليدي ، والباهت ، والبسيط الذي لا يغامر إلا بمقدار ما تتاح له المسافة بين وزن وقافية "(1) .
يأتي صوت الشاعر ، من البعيد ، من الذاكرة ، متعبا ، مرهقا ، مبحوحا ، يخامره اليأس ، فهو لطالما رفع عقيرته مناديا الآخر ، فلا يأتيه سوى رجع الصدى :
صوتي استحى
وأنا أنادي لك تعال
شايب على باب البخيل
أضناه ذل الخبز
وأرعى الكلام لخاطرك
وعي وعتب
وانته ولا تسمع

الشاعر إذا يسترجع وجعه ، معاناته ، مكابدته ، ونداءه المُلـّح الذي تستحوذ عليه الريح ، ولا تصل ذبذباته ، وارتعا شاته إلى الأخر الذي يصر على وضع القطن في أذنيه .
استرجاعـًا ينفض الرماد عن الجمرة الكامنة في الأعماق
استرجاعـًا يمهد للسؤال الحارق :
وش رجعك تنقض من جروحي الصبر
وترش عذرك ملح

سؤال مكتوي بنار التجربة
سؤال لا يتوخى الإجابة من الآخر ، بل يحمل إجابته في ثنايا حرقته .
سؤال يحمل بصيرته وبصره
سؤال يقذف حممه ، وتندلع فوهته :
تاجرت بدموعي هناك
نخاس وأحلامي رقيق

ياااااااه ، ما أقسى حرقة هذه الصورة ، وما أشد وطأتها على القلب ، فعندما تصبح الدموع تجارة ، والأحلام رقيقا تداس كرامتها وتهان في سوق النخاسة ، وتباع بثمن بخس ، دراهم معدودة ، ماذا يمكن أن يقال ؟ ، وأي قلب بمقدوره أن يصفح وأن يتجاوز ؟ :
وش عاد لك يشفع
و

وتتموضع الواو وحيدة ، الا من غنائيتها الحزينة ، وترجيعها الموجع ، مُشرعَة على الصمت والبياض ، وممهدة للنقلة / الحكم القاطع الذي يستمد قسوته من غليان الجرح الذي أججته هذه العودة اللا مرغوبة ، التي نقضت خيوط الصبر وذرّت ( رشت ) الملح على الجرح :
اليوم تيهي شجر
ما هزته ريحك ولا
رفت لك طيور الحنين

ما أجمل هذه الصورة ، وهذه الالتقاطة
ما أجمل هذا التجانس ( شجر ، ريح ، طيور )
اليوم .. ليس بمقدور ريحك أن تحرك شجري وتهزه ، وليس ثمة طيور ترفرف لك حنينا ( لاحظ مدى توفق الشاعر في اختياره للفعل " رفت " ، لم يقل مثلا طارت أو حلقت ، أو ارتفعت )
لكن كذا من شافتك
مرت علي تسجع
تقووووول :
وش لك على باب الكرامة تلده
خيبت ظن الجرح من شر مسعاك
ايدك على يانع عذوقي ( تجده )
من هو دعاك وتدري الماي ما ماك ؟!!
أنصحك جنب عن طريقي وسده
مات الخفوق اللي بالأول تمناك

أجل ، أجل ..
وعلى العكس من ذلك ، بمجرد ما رأتك ، مرت ساجعة ، رامية في وجهك ، استنكارها ، وحنقها ، وامتعاضها الشديد والمر" من هو دعاك وتدري الماي ما ماك ؟!! " .
والشاعر هنا ، وهو يمزج أو يداخل بين التفعيلة والعمودي ، في محاولة شكلية ، ليست بالجديدة ، ولا بالغريبة ، على قصيدتنا الشعبية ، يعطي الرابط العضوي لهذا الانتقال الشكلي ، والمبرر المستساغ ، لدخول العمودي هنا ويقدم له بالفعل ( تقوووول ) ويجرية على لسان " طيور الحنين " التي لم تقل الحنين أبدا ( الماي ما ماك – أنصحك جنب – مات الخفوق اللي بالأول تمناك )
هنا اشتغال على التلوين الصوتي في القصيدة ، رغم أن صوت " طيور الحنين " ليس في النهاية سوى صوت الشاعر ، ولكنه اشتغال يخلص القصيدة من الوقوع في فخ الرتابة ، بـ هكذا تنويعات صوتية ، إذا ما لاحظنا أيضا انتقال الشاعر من حالة التذكر إلى وضعية السؤال المعجون بالمرارة إلى الزمن الحاضر ( اليوم ) .
وتأتي الواو مرة ثانية ، متبوعة ثلاث نقاط متتابعة على السطر ، لتترك المساحة للصمت المعبر والموحي ، " الصمت الدال حيث الشاعر لا يقول كل شيء خطيا " (2) ، ولتمهد للرجوع للتفعيلة ثانية :
و ...
أيقنت جرحك قضى
كلما تذكرتك ضحكت
أذكر سرير ...
ما تكبر أمثالك بعيني
أبد ..
إلا إذا
إلا إذا راحت ولا ترجع ..

القفلة ، قفلة النص ، تحيل إلى البداية ، فنحن بإزاء نص دائري ، نهايته تأخذك من يدك إلى بدايته ، فالكلام انتهى غير أن إلحاح الألم والوجع لما ينتهي بعد ، فهو لما يزل يلح على الشاعر ويؤرقه ويقض مضجعه ، ويعيد إنتاج نفسه باستمرار ، هذا عدا دائرية الزمن في النص والانتقال من الماضي إلى الحاضر وهكذا :
صوتي استحى
وأنا أنادي لك تعال

ثمة خصائص أسلوبية كثيرة نجدها في النص كاستخدام اللغة اليومية ولكن بحمولة شعرية ، والترابط العضوي في النص ، الذي أتى كقطعة فنية واحدة غير قابلة للتجزئة ، والتنويع الصوتي ، والتموضع البصري للنص على الصفحة ، فالنص الجديد نصا مقروءا أكثر منه مسموعا ، وبالتالي الحيز الذي يشغله على الورق يشي بشيئ من الدلالة ، وتدوير النص / الزمن / الوجع .


الهوامش :

(1) مسعود الحمداني
(2) فتحية كحلوش ، بلاغة المكان ، الانتشار العربي ، الطبعة الأولى ، 2008

التعديل الأخير تم بواسطة حمود الحجري ; 14-03-2011 الساعة 11:43 AM
رد مع اقتباس