عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 11-11-2011, 06:06 PM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي



نسي أنه رأى هذه الصورة بالذات ، على اليمين طاولة من خشب اللوز منقوشة ، أمامها مقعد خشبي بني ، فوقها مرآة كبيرة جميلة ، على يساره سرير ، فوقه صورة صياد بكلابه وبندقيته ينظر الى سرب من الطيور ، ثورية من نحاس ، دولاب كبير يملأ الجدار نقش على الطراز القديم ، هذه الأثاث كلها ، لا يزال يذكرها ، جمعتها العمة نونة في هذه الغرفة ،تركها المعمر الآسباني و كانت في غرفة جده ، صندوق عرائس من الطرازالعربي القديم قيل أنه للجدة يرحمها الله ، متحف يطيل عمر الذاكرة ، جلس على الكرسي ، نظر اليها ويبتسم ..
كريم : لا تزال عمتي تعيش على الزمن الماضي دنيا زمان ، لا شك أن جدي كان يحبك كثيرا ، فأنت الآن تعيشين على ذكراه ، يقول المثل .. عز البنت الا مع أبيها وعندما تفقده عيشها يمرار ... منذ عرفتك وأنت في عزلة كم أتمنى أن أعرف وصية جدي لك ، قال أبي أنك على هذه الحال منذ قتل جدي ، قتله أعراب من أولاد جرجر أمامك من أجل الجزية لفرنسا ، قاتله هجر الى المغرب ولم يعد .. لا زلت تحتفظين بآخر كلماته.. لا يشبهه منا أحد ، اني لأستحي لما أتذكر أن جدي كان عميلا لفرنسا ، خائن أمته ...
قامت ، وقفت أمام الباب وأشارت اليه بالخروج ، ولما قام أدارت وجهها ، خرج وترك الباب مفتوحا ، أحس أنه وضع أصبعه على الجرح .. وقف أمام السلم قليلا ، لم تغلق الباب بعد ... نزل ولا شك أنها لا تزال واقفة في مكانها ، هل هي بداية تدفق الذاكرة ؟! ومن يدري ؟!
عاد الى الصالون وجلس ، أحس بالتعب ، استوى ... ارتخى ، يستمع الى نبضات جسمه ، أغمض عينيه ، فنام .. فتح عينيه ... وجدها قادمة
ثورة: تنام نوم النملة ، أجهدت نفسك يا أخي ولا تزال ، العرق دساس كما يقولون ، والعار عيب على الوجه، يتحدى أيام العمر كلها ، فماذا تريد من دخيلة السوء ، ألا تدري من أي معدن صنعت ، هذه أشياء لا يتسامح فيها الناس ، بهذا تثبت أنك ناقص مروءة
كريم: هل هي التي اختارت أن تكون كذلك ؟
ثورة : وأين ذنبنا نحن ؟
كريم : مادامت هكذا لماذا جاءت بها أمك ؟
ثورة:قال أبي كانت ظروفها قاهرة ، وكادت أمك تفقد صوابها عندما منعوها من رؤية ما أنجبت ، فكانت خضراء الحل الأسرع والأنسب
كريم: فسروا لها التشوه بالسواد
ثورة: هكذا قال أبي ، رغم هذا تأسفت و أصابها احباط ، عاشت مرحلة خطيرة جدا ،رامتها
بصعوبة، و من الفاجعة ما وجدت في ثديها حليب ، لأن الصدمة كانت كبيرة ولم تصدق ، وبعد أن صارحوها كانت خضراء كابوسا ولعنة تطاردها في النوم واليقظة ، زادت حدتها مع مرور الزمن .
كريم: اختلط عندها الحب بالكره ، هكذا كانت تقول دائما ، حسبي الله في المفروك ، تريد المبروك ،كأنه هو من نصح بها ، ثم كانت أمك عنصرية يا ثورة ، هل تعرفين السبب ؟ لأن أجدادك الأوائل كانت خادماتهم سودوات ، كانوا يعاملوهن بقساوة ، انه تواصل الباطل بين الأجيال ...
ثورة : أبدا ، ليس في الوجود أرحم من أمي ، تبكي لأتفه الأسباب ، طيبة تحاصرها الشفقة من كل جهة ، ولولا تسامحها وطيبتها ما كانت تحملت خضراء الى هذا الحد
كريم: أين العيب في خضراء ؟
ثورة : أمي تعرفها أكثر منا جميعا ، هي أقرب الناس اليها ، لا يمكن أن تكرهها بدون ذنب ، مستحيل ، وهل كل شيء يقال ؟
كريم : أكاد أكره كل النساء بما فيهن أمي ، فقد بدأ الشك يساورني حتى في نزاهتها وصون شرفها ، ألا يمكن يا ثورة أن تكون خضراء ...
فقاطعته ثورة : اياك ، واياك ، لا تحاول ، أمك أشرف من كل نساء العالم
كريم: لا ، لا ، أنا أقصد ، بل أريد أن أقول أن وراء خضراء هذه سر كبير ، اني أحاول أن أجمع الشتات والمعلومات حولها ، الا أن لبنات القصة تتنافر وتتناثر قبل بلوغ المراد ، كلما اكتشفت شيئا تعمق معناه والسر لا يزال يخفي السر فأين الحقيقة ؟
ثورة: لا تحاول يا أخي ، هذه طفلة معقدة الأطوار والماضي ، انها لغز منذ ولادتها وستبقى كذلك ، لا تحاول ، لقد عقدها القدر ، من الأفضل لك أن تهتم بما يستحق منك الاهتمام ، انك تضيع وقتا ثمينا من حياتك
كريم: لن أرتاح حتى أصل الى حل عقدة هذا اللغز
ثورة: أنت وشأنك ، لكن ما هو مؤكد أنك لن تجد ما يسرك ، ان مزبلة الماضي انتن مما تتوقع
كريم: هل أنت خائفة ؟
ثورة: ولماذا أخاف ؟ يكفي أني متيقنة أنها ليست أختي
ضحك كريم وقال : تخافين على الميراث ، ذهب أمك ومجوهراتها ، والأرض والمحلات و ...
ثورة : لم أكن أتصور أنك تافه الى هذا الحد ، وبتصرفك هذا ستدفعني الى اغتيالك في نفسي ... أنت .. أنت ..
كانت الشرارات تتطاير من عينيها ، وتصلبت أطرافها وظهرت أسنانها كأنها تشد بها على رقبته ...
فقام ، نظر اليها جيدا وكـأنها تحمل كل عيوب الدنيا ، ثم عاد باشمئزاز الى مكانه وقال لها :
هيا ، اذهبي ...
ثورة: وبعد ، لا أريد أن تشاركني في أمي وأبي لقيطة سوداء
كريم: قولي ، في مال أبي و أمي ، هيا انصرفي خير لي ولك ....
فذهبت بغصتها ، تذكر جده والسوط في يده ، انها لا تشبهه الا في الخلق ، الشيء الذي هو متأكد منه أنه رأى شبيه جده ، ولكن أين ، لا يذكره ، كان جميلا جدا حتى تقول أن أمه من جميلات فرنسا ، يقال عنه أنه كان زير نساء ، يمكن أن يكونوا قد قتلوه من أجل امرأة ، ولم لا ، ماضي عائلتنا مليء بالتناقضات وأول ضحية هي الحقيقة ، ومن كانت ترد طلب القائد آنذاك ، وأي قائد ...
شغلته قصة خضراء عن التحضيرات لفتح مكتبه الجديد ، لقد أدى القسم الأسبوع الماضي وتم تعيينه محاميا لدى المحكمة ، انه الآن الأستاذ كريم .. العباءة السوداء والمحفظة ، انه الآن من المدافعين عن الحق ، المنقبين عن الحقيقة ... يبتسم ، ما أعظمها مهمة لو لم يشوهوها ... كان كريم طويلا لا يعاب وعريضا حد البسطة ، ليس بالجميل الذي يفتن ، ولا بالغليظ الذي ينفر ، اجتمعت في شخصيته الهيبة والطيبة وحسن السلوك ، يعرف كيف يقول الحق وكيف يزهق الباطل بعيدا عن التكلف والتلفيق ، جديته في الدراسة ساعدته على التحكم في سير النقاش ، أبهراللجنة يوم ناقش رسالته ، يتميز بثقة كبيرة في نفسه ، وقرر أن يذهب بعيدا ربما الى منظمة حقوق الانسان العالمية ، ولم لا ... انه العلم والطموح ... هل خضراء هي الباب الأول الذي سيدخل منه الى عالم التحريات ومطاردة الحقيقة ؟ ربما .. انه الآن وسط الدوامة وهو عامل فعال من عواملها ، الى أن يصل اليه أول موكل ، وهذا ليس غدا فسيتفرغ كليا لذلك ، والسؤال المحوري الذي لم يجد له جواب ، لماذا تريد أمه التخلص من خضراء ؟ ولا تريد أن يتذكرها أحد ، نشر صورتها في الجرائد وتبليغ الشرطة عنها هي فضيحة لكل العائلة في وسط هذا المجتمع الذي لا يرحم ، انه شرف العائلة الذي ولا شك ان انتهك ستقتل العصبية العمياء الأب الذي يعاني من عدة أمراض ، السكري ، والقلب ، انها الصفعة التي تضع النهاية له ، وسيقول الجميع وخاصة الأعراب من قبيلتهم ، ذل الحاج ، وقتله ابنه بكلام المدارس ، فماذا أنت فاعل يا كريم ؟ قال الأب ، خضراء سافرت ، هكذا يجب أن يطوى الملف نهائيا ، انها أعظم جريمة يفتتح بها مسيرته القانونية ، ويخون قسمه ، فأين الضمير يا كريم .. ذلك هو الحق يجب أن نضحي من أجله بالباطل حتى ولو كان النفس والنفيس ، مثله مثل الحرية لا يقبل الشريك ولا يحتمل التزوير ... أصبحت خضراء همه الوحيد ، يهيم بها شوقا ، يدخل الى غرفتها كل ليلة ، يجلس ، يستمع الى حديث أشيائها ،ويحمله معه حيثما أرتحل وحل ، وبدأت غمامات الحزن والأسى تغمر البيت ، وكيف لا وكريم هو الولد الوحيد ، ولي عهد الحاج وحامل اسمه والمحافظ على بقائه وخلود ذكره ، وبدأ يعتزل ، ويغيب عن مواعيد الطعام وموائد والسهرات ، مقيد لا يستطيع أن يفعل شيئا ... غارت ابتساماته يقاوم تدفق العبرات وتصلبت عضلات وجهه ، لأن البكاء في عرفهم للنساء ، ونحيب الرجال آهات وتأوهات ، الشيء الوحيد الذي كان يشغله هو تفانيه في عمله ودفاعه عن المظلومين ، أولئك الذين وكلوه للدفاع عنهم ، فكان يرافع ليرفع عنهم ما استطاع من جور وظلم وهضم الحقوق ، يجد راحته في ذلك ، ويتدمر عندما يخسر قضية وراءها رشوة ،أحيل عدة مرات أمام لجنة التأديب لانتفاضه أمامي القاضي عندما تنتهك حرمة القانون ، وتمر بعض الأحكام تحت ابتسامات القضاة ، لحماس هذا الشاب وايمانه بقداسة القانون ، يعجبون به كثيرا ويتمنون له مستقبلا زاهرا ، وذاع صيته واشتد القيد على معصميه أكثر وعندما تعاوده الذكرى ، يذهب الى عمي المبروك لعله ينتزع منه بعض الخفايا ، الا أن المبروك يعرف ذلك ، فكان يتحفظ كثيرا ويحول دائما مجرى الحديث ...
كان في غرفة المكتب دائما كعادته يسهر الى ساعة متأخرة من الليل ، وقبل أن ينام ، يمر على غرفتها تنتعش الذكريات ويتجدد الحدث في ذاته ...
دخلت دون اذن ، جلست أمامه ، لم يرفع رأسه ، لا يزال منهمكا في ترتيب ملفاته ، قال:
مرحبا أمي ، لم تنامي بعد ؟
الأم: وكيف لي أن أنام وأنت في هذه الحالة ؟ هجرتنا ، وجردتنا من الفرحة بك وافتخارنا بك ، وألزمتنا الحزن والآه ، أبوك يئن تحت وطأة تصرفاتك ، يخشى عليك ويخشى أن تتهور وتكشف المستور ، فتضيع هيبتنا ويزدرينا الناس ونتحول أحاديث دنايا القوم وأراذلة القبائل وصعاليكها ، واليوم أنت في العلا يحسب لنا بك ألف حساب ، ما وجدت من وسيلة أواسيك بها سوى أن أعرض عليك فكرة الزواج ، يمكن أن تجد فيها البديل ، بل الأفضل ، ألا تظن أن خضراء انتهى أمرها وأصبحت ذكرى وأثرا لشبح مر من هنا ؟ .. ارحم نفسك يا بني ، أنت لأفضل منها أفضل ، لماذا تريد أن تنزل بالسلالة الى هذا الحضيض ، ما ركع جدك ولا أبوك أبدا ولا ركب الدنايا ، قتل جدك لتصلبه وأنفته وعزته وتحديه الجميع ، وأنت اليوم أكبر ، فأعرض عن هذا واترك الزمن كفيل بتغيير مجاري الحياة ، ان ما نحن عليه اليوم ما توقعناه من قبل أبدا ، كنا نراك وأنت صغير سيد القوم وحكيم الديار ونافذا في السلطة وابن النظام ، فاذا أنت اليوم محام تملأ القضاء همة ، حتى قالوا ، عندما يتكلم الأستاذ كريم وكأن الطير على رؤوس الجميع ، وهذه الهيبة ماصنعتها لك دراستك فقط ، بل هي ميراث وتواصل الأجيال ، كلهم يعرفون ابن من أنت يا كريم ، وما فائدة هذه القراية التي لا تعرفك بنفسك وتنزلك منزلتك ، هؤلاء كلهم أكلوا وشربوا من خيراتنا ، أكرمنا الجميع وساعدنا الجميع ، أينما يدخل أبوك يرفع في الباب وتفتح له الصدور ، يقضي حوائجه ويخرج معززا مكرما ... هناك في البادية لا يتحرك الأعراب الا باشارته ، كل القبيلة تدين له بالولاء ، هو الذي لم يجلس يوما على مقعد ، باستثناء ما قرأه من قرآن في الكتاب وحفظ بعض الأحزاب ، وكان يرافق جدك لكتابة بعض تقارير الأهالي ، فتعلم الكثير ، انها العزة التي نشأت فيها ، فكن في المستوى ...
كان كريم يستمع الى أمه وهي تعيد للمرة الألف مغامرات زوجها ومآثره
كريم: يا أمي ، يا أمي ، كل شيء تغير الا أنت وأبي ، الناس يطيعونكم لأنكم اشتريتم ذممهم ، واكتشفتم أسرارهم ، وتعرفون عنهم مالا يعرفه غيركم ، انه ولاء الخوف يا أمي ، الخوف من الفضيحة ، الخوف من السجن ، الخوف من تصفية الحسابات ، ان نفوذ أبي هو الذي صنع له هذا المجد المزيف وسيزول يوما ونظهر جميعا على حقيقتنا .. المهم لقد تأخر الوقت يا حبيبتي ، غدا نتكلم في الأمر ، أما الآن فهيا بنا الى النوم ، أرافقك الى غرفتك ، ادخلي بهدوء حتى لا يستيقظ أبي
الأم: لا .. أبدا ، لن أخرج من هنا الا بكلمة فصل ! .. يا بني ، يا بني ، أحرقت كبدي والقلب ينزف جرحك ، غير ممكن يا كريم أرتاح وأنت في هذه الحالة ! وكأنك لا تعرفنا ولا نعرفك ، أغيرتك السوداء الى هذا الحد ؟ ، حتى أصبحت تكرهنا !! ، أمن أجل امرأة يا كريم تعاقب والديك وتنتقم منهما ؟ عيب يا كريم ، انها خوارم المروءة وابتذال الشهامة ، أم أنت تمثل علينا لنرحم زلتها ؟ أبدا يا كريم لا تحاول ، خضراء هجرتنا هجر السوء ، لا نريد أن نجاهر به حتى لا نفضحها ونفضح أنفسنا ، وأقول لك أحسن ما فعلت ، و أكيد أنها لن تعود حتى لو وجدناها وحاولنا ذلك .. فابحث عن غيرها ..
كريم: سأفكر يا أمي ، ارتاحي الآن ، زواج الدوام يجب التفكير فيه عام ، كما يقول المثل ..
قامت ، دارت حول المكتب ، وضعت يدها على كتفيه تعانقه ، وفاضت العبرات تتكركب كحبات البرد وهي تقول :
أرجوك يا كبدي ، لا تخذلني ، أتمنى أن أرى ولدك قبل أن أرحل ، انني أقاوم للبقاء والمرض هتك حرمة صحتي ، اني أعاني .. نعم أعاني .. سأموت يا كريم ، وستذكر هذه اللحظة بالذات ...
استوت واقفة ، نظرت اليه ،أراد أن يقوم فأشارت اليه فرجع ، انصرفت ، وغلقت الباب وراءها
أحس كريم بقشعريرة في كامل جسده ، سأموت يا كريم .. سأموت يا كريم ... فزعت كل المدارك ونفخ شعور غريب في نفسه .. فداك نفسي يا أمي ، فداك نفسي ...



















الفصل الثالث

رد مع اقتباس