[يزيد فاضلي]

...ومضة ٌقصصيةٌ خاطفة ٌ،هي هذه القطعة الصغيرة-أخي الكريم البديع الفرحان...-والتي أراكَ ببراعةٍ فنيةٍ وقدرةٍ دراماتيكيةٍ مَرنةٍ رُحْتَ تجتزئُ نسيجَها الإيحائي الرمزي من رَحِمِ الواقع الاجتماعي،ثم وفي إيجازٍ غير مُخِلٍّ وبعيداً عن الرَّهَق التعبيري-الحقيقي والمجازي-ذهبتَ توصِلُ إليْنا الفكرة الناقدة لذلك الواقع المزري في أخلاق الناس وتعاملاتهم،وقد أبدعتَ فأجدْتَ أخي البديع...

لا أدري لِمَ أستذكرتُ بيني وبين نفسي-وأنا أطوي على عجَلٍ معاني هذه الومضةِ الرائعة-استذكرتُ قصة الأديب الإسباني العالمي سيرفونتاس (( الدونكيشوت ديلاَمنشا ))...

الدونكيشوت...ذلك الفارس الحالم النبيل الطيب..الطيب جدا..الذي اصطدمتْ طيبتـُه تلك بواقع الناس المليئ مَكْراً ونفاقاً وخداعاً ودهاءً وخبثاً،فما استطاعتْ نفسيته أن تنسجمَ معه أو تتكيفَ مع إيقاعه الماكر،فما فتئ يرحلُ-فوق حماره الصغير اللطيف وبصحبة تابعه المضحِك سانشو-باحثاً عن عالمٍ مثاليٍّ كريستاليٍّ جميلٍ،خالٍ من لوثةِ الرعونة التي فتكتْ بطبائع الناس وأخلاقهم،وراح يبحث عن البطولة الخرافية ولو كانتْ في مقارعة طواحين الهواء التي توهمَ فيها الخصْمَ العنيد الشريف،وراح يبحث عن الحب المثالي النادر المفقود في محبوبته الخرافية الكونتيسا الدونسيليا..!!

لقد أصبَحَ دونكيشوت في عُرف الناس مجنوناً رسميا،لأنه تعذرَ على واقع المجتمع الرديئ أن يستوعبَ المثالية التي يرنو إليها..!!

استذكرتُ-أخي البديع-قصة هذا الفارس المظلوم حين راحت مقلتايَ تكتحلان بفحوى ومضتِكَ حول ذلك ( المعتوه المتفلسف ) الذي ضربتْ رعونة الواقع الأخلاقي والإنساني الأسيف الذي نعيشه،ضربتْ عنه الذكْرَ صفحاً،فما عادَ يستطيع التأقلم مع النشاز في لحون الطبائع والأمزجة،فلم يكن بُدٌّ من أن يغدو معتوهاً...!!!

أخال-سيدي-أنك هنا..وسيرفونتاس هناك..تدوران في محور واحدٍ،بل وتصدران من مشكاةٍ واحدةٍ وإن اختلفَ الزمان والمكان...

ربما أجد شاعرَ اللزوميات ورهين المحبسيْن أبا العلاء المَعري أفصحَ وأبلغ مني في توصيف قصتيْكما حين قال :

ولما رأيتُ الجهلَ في الناس فاشيا ** تجاهلتُ حتى ظـُنَّ أنيَ جاهــلُ..!!!

وحسبي من توصيف أبي العلاء هذا البيت...!!!

بوركَ فيكَ وبوركَ في عطاءاتِك الثرة..ودمتَ لنا قلماً قصصيا واعداً...