عرض مشاركة واحدة
  #32  
قديم 10-09-2013, 02:09 PM
الصورة الرمزية الملتقى الأدبي
الملتقى الأدبي الملتقى الأدبي غير متواجد حالياً
كاتب فعال
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 46
افتراضي

" حُ ــــقْنَةْ "
لـ : أحمد الكلباني

أشعة الضوء الساطعة لا زالت تسكب ظل القضبان على أرضية الزنزانة .
" في هذا المكان لا زالت تنمو أفكاري السمينة " ابتسم وهو يفكر لوحده، " الفرار ؟ ..هه لم يعد في العمر بقية كافية لمحاولة أخيرة حتى ، ربما سيمنح غيري هذا الشرف العظيم ! ". يقف بثقل بالغ متمسكا بعمودين حديديين باتجاه الضوء :" ترى كم الساعة الآن ؟ " يصغي مليا " الهدوء العذب هذا واللذعة اللذيذة الّتي تحك جسدي لا يأتي بها إلا .."‘ قرر أنها ربما تكون الساعة السابعة صباحا ، الوقت المناسب لأن يقوم بما اعتاد عليه ، ولم يبقى له إلاه حتى ! ، كي يمارسه دائما - على الأقل - من أجل إطالة أمد هذا الجسد العجوز .
الجري ، " لا يهم .. ركضت سريعا أو بطيئا .. لا يهم ، المهم أن تركض " قال لنفسه "أركض .."
".. أركض .."
صدى الكلمة المتكررة يدفع به في دوامة مغرقة التفكير ،و المسافة اللامنتهية من الركض كانت دائما بداية هذه الدوامة ..
***
أُركض ..
الأسرة كانت دائما همَّا جميلا ، إرث العائلة العملاقة وتقاليدها العظيمة أيضا ..
أُركض..
العمل المستمر والدؤوب ، أزقة المدينة المخيفة ، المألوفة! ، رائحة الماضي .
أُركض..
الهجرة الجماعية ، الترهيب .
أركض ..
أُركض..
أُركض..
الأصوات المتداخلة أكثر صخبا هنا ..الإبر هنا أشد وخزا من أي شيءٍ آخر .
****
لا تنفك تنهكه هذه الإغماءة البسيطة .. المثقلة بالذكريات ،
" قلت لك توقف عن الجري .." قال لنفسه ، ونهض متثاقلا ليستند بالقضبان " الصمت المغدق يجب أن يتبدد ولو بـ ... ، لا توجد أشياءٌ كثيرة لنفعلها هنا ، فقط نجري ونهرب .. منَّا إلينا ، دون توقف !! " يلتفت إلى زاوية أخرى "هه.. نأكل ونشرب ما يُريد الغير أن نأكلْ . كم هي مملة!".
ينهض مديرا ظهره للزنزانة ، مستقبلا العالم الخارجي ، ينظر إلى نقطة ما باتجاه الضوء القادم ، ظلال القضبان تلون وجهه العجوز ،عيناه المتسعتان أكثر من اللازم تقرآن شيئا ما في البعيد!.
كان فتيا متزنا بشدة عندما هاجر مع بقية العائلة إلى جزءٍ موحشٍ آخر من مدينة أخرى ، بعد الموجة العارمة من المداهمات القانونية ، كانت أعداد ضحايا العائلة كبيرة جدا ولكن تبقى الكثير - كما هو حال الأفكار العظيمة لا تنتهي أبدا – الكثير الذي قرر الهرب من أجل بداية جديدة ، الطمأنينة المنزوعة كانت تعود بين الحين والاخر كبقية الأرق والندم الّذَين يراودان الجماعة الّتي فقدت الكثير من إرث العائلة بيد الغير !.
" إرث العائلة ؟؟!" قال لنفسه وضيق ما يعبر عينيه ، استغرقت الهجرة زمناً طويلا ، فالتنقل في الخفاء يحتاج لأكثر من أن تكون حذرا . فمسؤوليةٌ كبيرةٌ هي الملقاة على عاتقه مع الصغار الذين لم يكبروا بعد ! ،
المكان الجديد كان أكثر قذارة من سابقه ولكنه كان خفيا أكثر . قرر الجميع بأنه المكان المناسب لإتمام مشيئة الحياة ونسيان ما حدث ، هكذا هي الحياة كما اعتقد الأب .
الساعة الثامنة صباحا موعد المداهمة الجديدة الذي لم يعرفه أحدٌ غيرهم بل يستحيل ذلك ، فالعائلة لا تملك لغتهم حتى لتتجسس عليهم !!! ... آخر ما كان يذكره هو هالات الدخان العملاقة الّتي كانت تلتهم الجميع ، الصغار والكبار على حدٍّ سواء دون أدنى قدرة على القتال ، فقط الهرب .. والهرب لا غير! .حتى أخذته هو الآخر إلى دوامة ضبابية .
الصحوُ المشؤوم هو أن تستيقظ قسرا على أضواءٍ بالغة القوة ، كان يشعر بذلك بشدة لا سيما وأنه اعتاد على الظلمة أكثر من أي شي آخر ، كما لم يعتد الوجوه الأكبر حجما !. والقيد أيضا .. القيد الذي كان يملؤه شللاً على بياضٍ ما . كان وخز الإبرة الأولى مؤلماً جدا .
بين القيد والزنزانة مسافة بين الضوء والظلمة وبين الضوضاء والصمت في كل توقيت جديد كانوا يأخذونه للقيد والبياض مجددا من أجل حقنة جديدة .
الحقنة الأخيرة لم يعد يرى بعدها إلا الظلام الدائم ! .
" اللعنة على تلك الحقنة !" قالها وهو يطبق برأسه على الزنزانة بشدة . ثم فكر في أمرٍ آخر " مر زمنٌ طويل منذ تقاعدت من الخدمة .. ترى هل مرَّ الجميع بذلك ؟ هل تقاعدوا هم أيضاً ؟! هل أصبح الجميع أعمى مثلي أم أني الفأر الوحيد المتبقي الآن ؟!!".
أغلق عينيه البيضاويتين وتنفس بعمق " لا يهم " قال لنفسه .
ورغم أنه كان يكره الضوء إلا أنه لم يعد يكترث فلونه المفضل بات يسكنه ، استرخى جسده وهو يعانق القضبان متلذذا بلذعة الشمس اللذيذة " كل شيء سيتبخر .. المهم أن تشعر بهذا الدفئ ، فالزنزانة لم تعد تمنح إلا الظلمة والبرد !!." قال لنفسه.
صوتٌ قاسٍ يغلق النافذة!!!!!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تمت ــــــ
رد مع اقتباس