عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 01-11-2011, 12:37 AM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

التفتت ، عبوسا كان الشارع ، تتقدم وسط لسعات البرد القارص ، و زخات المطر اللاذعة ، شارع معظم مصابيحه احترقت و من يصلحها ؟.. ، برك الماء على الرصيف تتلألأ ، تعكس أشعة الضوء الشاحب ، غمامات من الضباب تسوقها ريح القر نحوها ، قالت في قرارة نفسها ..حتى أنت ؟..عندما تأتي أيها الشقاء تأتي بالكل ..
تحاول خضراء اختراق مخازن الذاكرة و ملامسة ما وراءها ، لعلها تسترجع ذلك اليوم الذي صنع بؤسها مقابل لحظات متعة ، ربما بثمن بخس ، أو بدافع حب غموس ، يوم النزوة التي قذفتها في رحم عاق ، جعلها الرقم المجهول في معادلة خبيثة و دنيئة ...و لكن ..
تودع بعيون همعة تلك القرية الهاجعة التي كانت تحتضنها فيها الجدران برفق انبجاس الحجر ، امام اجحاف البشر .. هنا كانت تأوي حينما تكتسحها رغبة البكاء ، أو تعاقب لآتفه الأسباب ، هنا كانت تخفي دميتها لما كانت صغيرة خشية عليها منهم ، هنا دفنت قطتها لما سمموها لأنها سرقت عظما سقط من المائدة ، في هذه الحديقة أشياء كثيرة لا تزال تتذكرها ...و هذه دار عمي المبروك الأسود ، يلقبونه ببامبرا ، ذلك الرجل الرحيم ، آآآه ، عمي بامبرا و هذا السواد الحاني الذي كان يجمعنا ، وكلبه ركس صديقي الوفي ، كلما دخلت عليهم يصعد معي و يلعقني ، يلعب معي كأنه طفل مشاغب ، من هنا كنت أمر الى المدرسة ، زجاجها مكسر و بدون مدفأة يعلمنا جلاد لا يرحم ...المدللة الوحيدة كانت بنت رئيس البلدية ، الحاج قادة ، لا يعرف حتى المكان الذي يجب ان يمضي فية على الوثائق الادارية ... تذكرت عامر، كانوا ينادونه بابن السوداء ، تضحك ، آآآه منه كان هو كذلك ماكر و شيطان ، مغامراته مع المعلم لا تعد و لاتحصى ، صديقاتها البدويات كن يقضين أوقات الفراغ أمام المدرسة ،يأكلن الخبز و اللبن البارد، كانت تتمنى أن تأخذهن معها الى البيت ولكن ...في بعض المرات تفقد شهيتها و تخنقها الرحمة بهم
هذا دكان السنوسي مغلق بخمسة أقفال ، مسكين عمي السنوسي رغم كل هذا الحرص و اليقظة و سرقوه عدة مرات ، دائما أبناء الشافي ، حياتهم كلها سجون ، يقودون جماعة أشرار ، و يا ويح من يبلغ عنهم ، و حتى اذا دخلوا السجن ، هم أول من يخرج..فقدت قدرة مقاومة البرد ، و جرى في جسدها دم بارد ، و بدأت ترتعش من الخوف ، تلتفت يمينا و شمالا ، راودتها فكرة الرجوع الى البيت ، لكن الجرح كان أعمق من معالجته بالعودة ، بالعكس المجهول أرحم ، و من يدري ... تذكرت و هي التي أفنت عمرها في خدمتهم ، تطبخ ، تغسل ، و تنظف ..حملت شقاء البيت منذ طفولتها ، هكذا نشأت ، يحبونها أفرادا و يمقتونها جماعات ، تعرف كل شيء عنهم و لا تعرف عن نفسها شيئا ، يلقبونها باليابسة و هي أخصبهم بدنا و أجملهم رسما ، تضحك غير مبالية بهم ، يكرمهم الأهالي خوفا من أذاهم و لنفوذهم ، يأتونهم بالسمن و الصوف و اللبن و الخضر و الفواكه و خرفان المناسبات ، يتوسطونهم للرشاوي و قضاء حوائجهم ، كان أبوها بالتبني رئيس قسمة الحزب الحاكم ، وحده في القرية تصحو على يديه و تمطر ، انه من قبيلة اولاد سيدي ساد ، التي تمثل الأغلبية في هذه المنطقة ، تعصب الآباء و تشيع الأبناء بالشيوعية الحمراء التي لا ترحم حتى من يخالفهم في اللباس ، أسسوا لعقلية فرنسية بمراس أعرابي ، ظاهره رحمة و باطنه عذاب ، و طال عليهم المثل القائل ..فارس من ركب اليوم ..
انها الآن في بوابة القرية تنتظر القدر الآتي متحدية كل الأعراف ، تتصور مغامرتها مشاهد مختلفة من فصول هذا المجتمع المعوق ، حين يمثل مسرحية اختفائها، و هي كذلك حتى أيقظها ضجيج محرك شاحنة لشركة سوناطراك، شركة البترول الذي يراه الجميع والغاز الذي لا تراه العين المجردة ، أشارت الى السائق فتوقف ، فأسرعت تتسلق السلم ...ألقت نظرة أخيرة على قرية القسوة...
السائق : الى أين أيتها الجميلة ؟
خضراء : الى مدينة أروان .. وتوقفت تنتظر الاذن ..
السائق : أدخلي ، وأغلقي الباب جيدا .. مرحبا بك في عالم الطريق
خضراء : شكرا
كان السائق ضخما ، يتجاوز الأربعين من العمر ، أبيض بشنب أسود كثيف ،و شعر طويل ، عريض الوجه صغير الأنف بمناخر الثعلب و دقيق الشفتين ، يرتدي معطفا أسود من الجلد الخالص ، تحته قميص أزرق بمربعات سوداء ..
أنطلقت الشاحنة تنتفض من عالم السكون و قيود المكان ، كأنها وحش يهاجم الزمن ، مقارنة بالذات البشرية بدت لها الشاحنة كبيرة جدا و مدبر أمرها صغير جدا ..كانت رائحة التبغ الممزوجة برائحة المازوت تعكر الجو الداخلي ، ففتحت خضراء الزجاج دون اذن ، و فتح السائق الراديو..
السائق : القرآن ..صح نومكم في المحطة..
أطفأه ، و أشعل سيجارة ، كثرت حركاته و نظراته و فهمت خضراء أنه يبحث عن رأس حبل للثرثرة ، فبادرته قائلة
خضراء : هل عندك أولاد ؟..
السائق : لست متزوجا ، أفضل حياة العزوبية ، لأنني وجدت في تنقلي هذا عبر هذه المسافات الطويلة متعة ما بعدها متعة ، و الزواج مسؤولية والتزام كبير ، و قيود لا أتحملها ، الحرية عندي أغلى من أن أتقيد برابطة لست واثقا من نجاحها ..
في هذه الأثناء كانت خضراء قد غادرت الشاحنة ، متحدية سرعتها ، تحوم تلك النفس كاليرقاء في عمق التفكير الذي يحاول عبثا اختراق الماضي ، لم تتوصل الى شيء ، سراب و ضبابية ، و لا نهاية تمتد من كل جهة ، تدفع الى الضياع .. و بدت للسائق على تقاسيم وجهها تغيرات الصراع الذي تعيشه فقال
السائق :هل أنت مريضة ؟..
الا أن تناسق اجترار المحرك الذي كان يأكل بعضه بعضا ، و احتكاك الأفكار المتصارعة في نفسها حال دون وصول السؤال الى مداه.. فهمزها..
السائق : هل عندك مشاكل ؟..
خضراء : لا ، لا شيء ، مجرد غفوة من حزن الفراق ..
و حتى تبعد الحديث عن نفسها ، تابعت تقول
خضراء: ما هي الأماكن التي تعجبك في وطننا الحبيب ؟
السائق : تعجبني زيتونة سيق ، و وردة البليدة ، و مياه سعيدة ، و ملأة قسنطينة ، و سروال العاصمة ، و جلباب تلمسان ، و حايك وهران ، و وشم الصحراء ، انني وطني محافظ حتى النخاع ...أهوى كل شيء يربطني بالماضي بالأصل ، بالتاريخ ، حتى الأسطورة أعشقها ...
خضراء : الماضي ؟.. الأصل ؟.. التاريخ ؟.. هذه كلمات عجزت معاجم العالم عن شرحها ،و اثبات حقيقتها و شرعيتها ، أنا لا أومن بها ، لأنها مزورة ، مفبركة ...الحياة هي المستقبل و الماضي هو متعة الحلم عند الأقوياء والكابوس المزعج عند الضعفاء ، المزعج ، نعم المزعج و المفزع .
السائق : رغم هذا أنت تسأليني عن الماضي ، و كل حاضر وليد ماض معين ، و حاضرنا تاريخ المستقبل ، هكذا علمتني مدرسة الحياة ، مدرسة السفر ، مدرسة الطريق الطويل الذي يصل الزمان بالمكان ..
خضراء : الطريق ؟.. الطريق مدرسة المشردين ، و المنبوذين ، و بقايا هذا المجتمع الذي لا يرحم ..
السائق : أظن أن النكران و الجحود قد أصاب منك حظه و أصابك في الصميم ، لا يتعفن الماء الا في البرك ، أما المياه الجارية تمخر الأرض و تشق طريقها في الصخر و منثنى الرابية ،تبقى دائما أطهر و أنقى ..
خضراء : يذكرني كلامك بسبخة وهران و واد الحراش ، انها فضلات أهلها لا غير ، انهما التاريخ الحقيقي لمخلفات البشر ، لأمة تبلع دون هضم ، أمة متنكرة لأفعالها و أقوالها ، هكذا التاريخ الذي تمجده أنت أيها المحافظ ، لا تحاول، لن يصلك صافيا نقيا ، التاريخ يا سيدي فضلات الأمم الحية ، تقتات منها الأجيال الميتة ، و صدق من قال ، ان صدق التاريخ فأنا أكذوبته الكبرى ... خيم الصمت من جديد و انقطع تيار الكلام ، وانفرد كل منهما باجترار كلام صاحبه ..
و قال السائق في نفسه ...ان هذه القلعة السوداء شرسة في النقاش ، لا أظن أنها تفتح أبوابها الحقيقية لأحد ، ذكرته بزنوج أمريكا ، يقال أنهن يتميزن بالأنفة و الزهو ، و الافراط في الكبرياء ...لا شك أنها في حالة متوترة ، أو أنها تعاني من عقدة نفسية ..
السائق: موظفة أنت أو طالبة ؟..هل لي أن أعرف أسمك ؟
خضراء : اسمي بنية ، أعمل ممرضة
السائق: عمل انساني مشرف
خضراء : في وسط الوحوش ، بل أفظع من ذلك ، انها انسانية آلية تطورت فيها آليات الظلم و الجحود ، و..
فقاطعها قائلا
السائق : كفى ، كفى ..توقفي قليلا ، ما هذا التشاؤم يا سوداء الباطن ، انك تعانين من عقد كثيرة ، و كأني بك في عهد النخاسة و العبودية...ألست كالريح المرسلة ، حرة طليقة ، لا يقيدك مكان ولا .....

يتبع

التعديل الأخير تم بواسطة مختار أحمد سعيدي ; 01-11-2011 الساعة 12:40 AM
رد مع اقتباس