عرض مشاركة واحدة
  #59  
قديم 02-01-2010, 01:46 PM
الصورة الرمزية كريمي
كريمي كريمي غير متواجد حالياً
كاتب فعال
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 31
افتراضي

السلام على أهل الشمال والجمال
لا توجد لدي أسئلة لـ أستاذي أحمد مسلّط
فقط .. أقتبس هذا المقال للجميل الآخر صالح العامري
والذي يتحدث فيه عن ضيف السلطنة الأدبية
راجياً أن تكون إضافة للمارين من هنا، والمتفيئين تحت ظلال مسلّط..


اقتباس:
أحمد مسلط: قرية المرح والغرباء

صالح العامري

على ساحل تلك القرية البحرية، دَرَج ثلاثة شعراء يكتبون شعراً جميلاً بالدارجة المحلية، شقوا طريقاً لهم داخل هذه اللغة، التي بدأ يتنفس مكتوبُها عن طريق التوثيق والنشر، بعد أن كانت نصوصها شفاهياتٍ ومروّياتٍ تذهب، بفعل الزمن، أدراج الرياح وطيّ النسيان. انخرط «أحمد الشحي» و«أحمد مسلط» و«أحمد السعدي» -هؤلاء الثلاثة المحظوظون بالصحبة والقرابة والشِّعر- في تقويل الخطاب الشعري بهواجس وانشغالات لم يعهدها السائد «النبطي». ومضى كلّ واحد على حدة منهم، يرسم طريقه، في انهماك واهتمام وصبر، كي لا يكرر تجربة الآخر أو يقلد أحد منهم منوال الآخر واكتشافه الشخصي، وإن كان متعذراً صدّه أحياناً.. وقد يبدو أنّ أحمد الشحي هو كاهنهم الأكبر الذي علّمهم السحر، وصعلوكهم الذي يعوّل عليه في المغامرة، ولا فكاك من تأثيره على رفيقيه الآخرين، لكن يبدو أيضاً أنّ كلّ واحد ينظر إلى جهة رفيقه بحذر، محاولاً أن يزيح عبء التشابه والتماثل والتقليد، وصولاً إلى نوع من التقارب الذي لا يُخجِل ولا يجرح الكتابة. لا أزعم ضلاعة أو فهماً دقيقاً لتجربة الشعر النبطيّ في عُمان والجزيرة العربية، ولا أدعي قدرتي على تقييمها ورصدها الرصينين، غير أنني أحدس بأهمية التجارب الثلاث على صعيد التجربة النبطية المحلية، وبأهمية مشروعها الواعي والمبعثر في ذات الوقت، عبر تجربة شفيفة تتعاطى حسّ الهواية والغواية والطريق السابح في قلب الحياة وطرافتها وينابيعها العذبة الماكرة… كان لا بدّ لي من تقديم طللي كهذا، وأنا أستدعي حضور أحمد مسلط، فكرة هذا البورتريه، ضمن مجمل البورتريهات التي أرسم فيها جانباً من أناي الناقصة وإعجاباتي الشخصية، مترصداً وجهي أنا، قبل أن أتورط في قراءة آخر أو أنفتح على ذات أخرى… وأظنّ أنّ وجهي كالح ويفتقد للمرح، لكنّ لمجرد أنّ هذا المساء سيعبر فيه وجه هذا الصديق، فذلك يعني انتقالة إلى عدواه السرية المفتوحة على مفارقات الناس والمخلوقات وعلى الصّـُدَف الساخرة وعلى الذكريات التي يقرأها بشغف واندهاش طفوليين… تنفض يد «أحمد مسلط» الشجرة المَرِحَة السعيدة، فتساقط فاكهة وفراشات وضحكاً، ولو كان له لحية طويلة كـ «والت ويتمان» لامتلأت بالفراشات والضحكات أيضاً…إنها السعادة التي هي تعويضٌ وفيرٌ عن شقاء النهارات وكوابيسها، وقفز على الألم واللوعة بمزاعم صغيرة مجدية ونفّاعة للداخل الإنساني. وعندما يحمل نفسه إلى تلك الحالة من التعتعات الضحكية، التي تصل حدّ الدموع ووجع المعدة، نذهب إلى عدواه المَرِحَة، تلك العدوى الصافية التي لم تلوثها بعد مدينة كاذبة، وأحقاد صغيرة أو كبيرة، وحروب ثقافية تافهة… تارة أتعرف على «أحمد مسلط» في «رحلة حنظلة» لسعد الله ونوس، المستوحاة من عمل «بيتر فايس»؛ فقد ذهب «أحمد مسلط» إلى الهند، مقرراً أن يدرس شيئاً يعينه على أمر الحياة ومرارتها، بعد أن أعياه البحث عن وظيفة.. وعندما عاد للتوّ من السفر، بعد رحلة التوابل والبهارات الحِرِّيفة، وجد نفسه متورطاً في تهمة الاصطدام بأحد الجِمال الضالة. وعبثاً حاول أن يدافع عن نفسه فهو لم يكن موجوداً هنا في تلك الفترة حتى يصطدم بجَمَل أو حَمَل أو نملة.. ولكن تكشّف فيما بعد أنّ أحد أقربائه الحميمين قد قاد سيارته المسجلة باسمه في غيابه واصطدم بذلك الجمل العجوز السائب، الذي كان صاحبه يرى فيه بأنه «جمل سباق»، طالباً تعويضاً هائلاً، قبل أن يلقى حتفه بسبب الشيخوخة.. وتارة أخرى أتعرف على «أحمد مسلط» في قهقهات «موتسارت» الطفولية الخارقة التي ترنح تحت وطأتها موسيقار البلاط «سالييري».. وتارة أجد في روحه نموذج الطفل الذي لا يكبر ولا يشيخ، رغم وطأة الحياة وقسوة الانسياق لمتطلباتها وأعبائها الممضة.. وكثيراً ما أرى أنه قد حمل نفسه إلى ليلة ماطرة غارقة في الحنانات وعاد لا يعرف البيت أو الشارع، وقد انبهر به الوسن أو اتخذه الليل دليلاً على الغرباء «في جناز المحبّة»، وعكازاً ذاهباً به إلى الفجر الشارد.. وحيث بدأت الصلعة تدب وتزحف في رأسه كان يطمئن إلى الحديث عن إمكانية انضمامه إلى «جمعية الصُلع»، التي يحوز عضويتها ثلة من الأصدقاء، مخففاً قلقه المشاكس بعبارة الكاتب الأورغوائيّ «إدواردو غاليانو» التي تقول لو أنّ الشَعر ذا أهمية لنبت داخل الرأس وليس خارجه!.. في إحدى المرات القديمة، جاء «أحمد مسلط» إلى مسقط، قادماً من قريته الصغيرة، إثر قراءة إعلان لإحدى السفارات الأجنبية، تطلب فيها حراس أمن لها، في خضم بحثه عن عمل، بعد أن كان جندياً بوخـْـنـَرِياً (نسبة إلى الكاتب المسرحيّ الألمانيّ جورج بوخـْـنـَـر) وقد تمّ الاستغناء عن خدماته في إقالة جماعية. كان قلقاً من لغته الإنجليزية ومن الأسئلة التي قد تطرح عليه في منافسة الوظيفة. ومن باب الدعابة والهزل المازحين نصحته بأن لا يدور إلى اليمين إذا قالوا له أن يدور إلى اليمين، ولا إلى الشمال إذا قالوا له أن يدور إلى الشمال. بل أكثر من ذلك عليه أن لا يدور إلى اليمين حين يأمرونه بأن يدور إلى الشمال، ولا إلى الشمال حين يأمرونه بالدوران جهة اليمين. وفي ضحكه الهستيريّ المستغرب، الذي يشبه سنجاباً يجمع به كستناء الضحكات، قال لي: وماذا عليَّ أن أفعل إذن؟. – عليك يا عزيزي بأن لا تلتفت أبداً وأن لا تدور إلى أية جهة، وأن تبقى تمثالاً طاعناً في البـَلـَم والطاعة المكنونة. لا إلى يمين ولا إلى شمال، بل خذ وضعية (أحدب نوتردام) بقليل من اللعاب وبيدٍ تكاد أن تبلغ الجَرَس دون أن تمسّه. وقد مضى أحمد، رامياً بالطبع بنصيحتي عرض الحائط، ولم يكتب له التوفيق في تلك الوظيفة، ربمّا لأنهم عرفوا أن الشعر غوايته، والشاعر من ذوي القلوب الضعيفة. (تلك النصيحة استدعتها الذاكرة من إحدى الصحف العربية، في تهكمها على القبضة الهراوية لرجل الأمن المركزيّ وتوصيف جاهزيته لتلقي الأمر). وفي مرّة أخرى جاءنا أحمد بشجرة سَمُر كثة يابسة بكاملها، تهرول مثل يمامة بيضاء مطوقة تحت ضوء القمر، يسحبها وراء سيارته؛ كي نوقد نار الليل الشهيّة… وفي مرّة أخرى أطلق العنان لنفسه أن يكتب أغنية، ليغنيها صديقه عازف العود «عبدالله سعيد»، للدخول بها مهرجان الأغنية العُمانية. لكنها لم تدخل المهرجان لأنها أقلّ من الوقت المطلوب ببضع ثوان!.. غير أنّ الأغنية مازالت تتردّد في السيوح والفضاءات الطلقة، بادئة بمطلعها الرحّال:»مشينا، مشينا..». يأتينا أحمد مسلط بغليونه الصغير الذي لا يشبه قطعاً غليون «ماجريت»، معبأ بتبغ القرية وأمانيها الضائعة والمستعادة…ناثراً حولنا بضع حكايات مجنونة وأباريق سهرة لا تتوقف شهرزادها عن الكلام المباح… لا الشِّعرُ الذي يراوده أحمد مسلط في الصحف والملتقيات والأماسي والمهرجانات، ولا التنظير النقدي عن شعراء النبط والقصيدة النبطية ونماذجها ولغتها: هي التي تشكل روعة حضوره وتزرع ألفته وصحبته وإنسانه الخفيف على الروح، بل هو الكائن المسافر في داخله، أسياناً لكنه لا يتيح للأسى أن يبتلعه ويقضي عليه، ومصغياً إلى شجو الليل وشجنه لكنه يتحفز في صداقة النجوم وفي الضحك الصافي الذي ينبني على ما ينهار ويتداعى ويشفّ ويتطاير وتبقى روحه….
سلاما على سيد الشعر.. مسلط سلاماً عليك
__________________

علي الأنصاري