الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #63  
قديم 30-05-2013, 10:54 AM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

لا تزال الجدة تنتظر الأب الجديد على الرصيف ، لتسلمه إبنه على مضض، لقد تعلقت به كثيرا و لا تستطيع فراقه، تنتظر أن يحضنه و يقبله بحرارة الوالد الحنو، و يصنع بذلك لقاء من فيض العاطفة، يمزق قلوب الفضول، لقاءا مأثرا و مليئا بالحنان، أب يستعيد فلذة كبده بأعجوبة، حدث لا شك يهز القلوب، و يفتت المشاعر ، تقشعر له الأبدان، و تظرف له العيون الدمع الحار...
مرت ساعة أو أكثر و هي تتهيأ لتلك اللحظة التي ستتمزق فيها، و لما جاء تنتظره أن يطردها شر طردة، و ينتزعه منها انتزاعا، و يأخذه غصبا، فإذا به يقول لها
-الآن خذي إبنك واذهبي به إلى البيت، سأتصل بك لاحقا .
أدخل يده في جيبه، أعطاها ما أخرجته يده من أوراق نقذية و انصرف في عجالة من أمره، ركب سيارته و ذهب...
لقد فصلوه من العمل بقرار إداري ، و منعوه نهائيا من مزاولة أي عمل له علاقة بالقضاء.
عادت به فرحة، و لما دخلت إلى البيت وجدته موحشا، يرد الفراغ صدى الحركات كلها، جلست، وضعته في حجرها تنظر إليه، تنهدت و قالت
-بئس الحظ حظك، لا أظن أني أصل معك حيث تريد، إني أقرأ في عينيك يا ولدي عز الشقاء و هول النهايات، الهم ينصب عند الجميع و عندك يبني ..
كانت كلماتها تصلني منهزمة منكسرة، أما أنا فكنت بارد المشاعر، غنيا عن حضور الجميع بتواجد هذه الجدة الحنون، أراها تبكي شفقة علي و رحمة بي ، و أنا حزين رحمة بها و لا حيلة لي ، لأنها وحدها مؤنستي وحضن الدفء الذي كان يحتويني ، عندما تقول لي أمك ،أبحث عنها في كل قواميس لغات الألسنة و الأجساد فلا أجد إلا أما كالسلحفاة تلدهم بيضا و تهجرهم، تسلحفوا أو موتوا، أتجول ببصري أينما كنت، أكتشف أشياء كثيرة تصنع في ذاتي السؤال المحير و أحيانا جوابها يكون أغرب، لا أميز بين الثابت و المتغير، أبكي أضحك عندي سواسية، لأنهما مجرد وسيلة، أنام و أستيقظ، أصبح شيئا عاديا أن أبكي لما تتأخر عني الجدة بالحليب، و لا يهمها بكائي، أعرف هذا، فقط لما أكون مريضا تنشغل و يظهر عليها القلق، أسمعه لما يكلمها، يسألها عن كل شيء إلا عني، و بدأ يبعد بين المكالمة و المكالمة، و الزيارة و الزيارة، و لا يراني إلا نادرا، و لا حملني يوما في حضنه أبدا، و لا قبلني، كنت أبكي لما أراه و أندس في حضن الجدة، هكذا حتى اختفى نهائيا، بحثت عنه الجدة في كل مكان، و أخيرا بلغت النيابة و عادت إلى البيت، استنجدت في الأول ببعض الجيران، و كلما حاولت إستعطاف حفيذها الفيلسوف أو إبنها، رهنا احتضانها بالتخلص مني فترفض، احترفت المسألة في الخفاء، ثم عادت إلى قراءة الكف و الفنجان، وتقول بحول الله ستكون كذلك، تضحك على أذقان المغفلات، و أصبحت قبلة الكثير من النساء الثريات، تكذب عليهن فيتعافين و يصدقونها، واستطاعت أن توفر لنا الأكل و الشرب و اللباس، عندما تتضايق تجلسني أمامها و تحكي لي جميع همومها، و معاناتها، تعاتبني برفق أحيانا تقول، لم أتيت إلى هذه الدنيا المليئة بالشر؟.. لم...لم.. ؟..
كنت أراها كشمعة في آخر لحظاتها، تقاوم الذوبان لتضيء أطول مسافة من عمري، تضيء عتمة وجودي بذلك البصيص من الأمل الذي كانت تنظر به إلي، أطعمتني كل أعشاب الدنيا لأكبر كما قالت بسرعة ....و في آخر السنة الثالثة من عمري شعرت بشيء غريب يريد أن يسلبني شيئا من ذاتي، ودخلت في صراع مع هذا الشيء الخفي الذي أراد أن يمسح كل هذه الأشياء التي جمعتها ذاكرتي ، و عزمت أن أكون الإستثناء، و أحتفظ بكل هذه التفاصيل، أحتج بها أمام كل تحول في حياتي يسوقني إلى غير وجهتي، واستطعت أن أتحدى و أحتفظ بذاكرتي، و تجاوزت تلك المرحلة بعناء كبير، و في الرابعة من عمري جاءت الفاجعة، لا زلت أذكر تلك الليلة، رأيتها تصلي فهرولت لأركب فوق ظهرها كالعادة، و أتخذها فرسا، و تبقى هي ساجدة ما بقيت أنا فوقها، ولما أنزل ترفع و أجدها تبتسم، لكن في هذه المرة لم ترفع، و بقيت على حالها، دفعتها بيدي فمالت على يمينها، كانت تنظر إلي و هي تبتسم، وضعت يدي الصغيرتين على رأسها أهزها..دادة..دادة..دادة.. ركبت فوقها أضربها لتقوم ،لم تتحرك، ولا تزال تبتسم إلي، ناديتها مرة أخرى..دادة..دادة..و بدأت أبكي و هي تبتسم لي، لم تستجيب، فخرجت أمام الباب لتتبعني كعادتها، رأتني الجارة و قد طال بكائي فأسرعت إلي، حملتني و دخلت و هي تناديها ، فوجدتها على سجادتها نائمة و تبتسم، هزتها فلم تجب، نظرت إلي بعيون همعة،حضنتني بكل قوة، حملتني و أسرعت بي إلى بيتها، ما رأيت أطيب من تلك المرأة أبدا، و جاء زوجها و هو يحولل و يقولل، طلب الشرطة و الإسعاف ، و أدخلني ثانية إلى بيته، أذكر قد بكاها الجميع رغم أنهم كانوا كلهم يكرهونها، و شعرت بشيء في تلك العائلة، شيء كالدفء و الأمان، كانت تلك المرأة الشابة لا تشيه أمي،و ضعتني بين أولادها، و بقيت عند رأسي حتى نمت، و في الصباح قام الجميع، تناولنا الفطور، و بدأنا نلعب، حضرت لنا الغذاء، ثم وضعت الصغيرة في حجرها تطعمها كالعصفورة، مثل ما كانت تفعل معي الجدة، و هي تراقبنا و نحن نأكل، فتذكرت العجوز و بكيت، وضعت إبنتها جانبا و حملتني في حضتها، أقسمت لي أنها سافرت، و سنلتحق بها في يوم من الأيام، و أنها تنتظرنا هناك في أجمل حديقة في العالم، فيها كل الأشياء الجميلة التي نتمناها هذه الحديقة لا يدخلها إلا الطيب، و لهذا إذا أردت أن أذهب عندها يجب أن لا أبكي، و أبتسم، و أكون طفلا مؤدبا و طيبا، كنت أنظر إلى تلك المرأة الطيبة وكأنها ملاك رحمة جاء في وقته، فصدقتها، و هي تتحدث معي عانقتها، و نمت في حجرها، وذهبت عند الجدة، وجدتها في الحديقة كما قالت تلك المرأة الطيبة، و سررت كثيرا.... لما استيقظت وجدت نفسي في حضن امرأة أخرى في سيارة، صرخت و حاولت أن أهرب، فمسكتني بقوة، ضربتني و سكنني الخوف، فانطويت و سكت، توقفت السيارة و دخلنا إلى ساحة فسيحة و حديقة ليست كحديقة الجدة، أدخلوني إلى قاعة كبيرة فيها أطفال كثر، أحسبهم كلهم مثلي، سافرت داداهم...و نساء بمآزر بيضاء كأنهن دجاجات، بكيت في أول الأمر، ثم سكت، رأيت طفلة صغيرة كبنت تللك المرأة الطيبة، تجلس وحدها ، فذهبت إليها كأني أعرفها، جلست بجانبها وهي تنظر إلي بغرابة، أردت أن ألمسها ضربتني فضربتها، وعاقبتني تلك المرأة التي ترتدي المئزر الأبيض و فرقت بيننا، و هكذا بدأت أندمج شيئا فشيئا، حتى أصبحت مثل جميع الأطفال أكره المئزر الأبيض، وأنتظر أن أكبر بسرعة لأنتقم لنفسي، سمعت المديرة تقول أنهم يبحثون عن أبي الذي هرب، فقلت لعلى كل هؤلاء الأطفال هرب أباؤهم، ما رأيت أجمل منهم، ولكن لماذا يهرب الأباء من الأبناء، سألت المعلمة يوما فقالت ، لأنكم مشاغبون...
مقابل مركز الأطفال ، هناك مركز آخر للمسنين يحتضن الكثير من أمثالها الذين فقدوا أو إفتقدوا الصدور الحانية و الأهل و الأقارب، جاءوا من جميع أحياء المدينة، و من بعض القرى المجاورة، بقدر ما تقاربوا في السن و الثقافة، بقدر ما اختلفوا في المزاج و الشخصية، الساخطون على أولادهم و ذويهم و المجتمع الذي لفظهم ،يحاولون عبثا استرجاع الزمن الفائت لينتقموا هم كذلك... وجدت نفسها في وسط لا يحسن الإستماع، و لا يقبل من يخالفه، و لا يرضى بالتفاوت مهما كان، كلهم يعيشون على الماضي، و يصارعون بوادر الموت البطيء، يحاربون اليأس بردود فعل واهية وانطبق عليها المثل القائل، يا داخل مصر منك الألوف، واشتد عليها الخناق، تقضي يومها كله في صمت، واعتزلها الجميع و أصبحت تعيش في زنزانة نفسية تتحين لحظة الهروب من هذا السجن الذي وضعت نفسها فيه، و أصرت أن تخرج من هنا تمشي على قدميها .
...يتبع...

التعديل الأخير تم بواسطة مختار أحمد سعيدي ; 31-05-2013 الساعة 02:31 AM
رد مع اقتباس