الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #64  
قديم 31-05-2013, 02:48 AM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

تقوم بتمرينات و حركات عضوية، ترويضات نفسية، تمارس اليوقا، تحاول من حين إلى حين مخادعة حالتها لتقوم من سريرها فجأة ، فلا يتحرك فيها شيء، تقوي عزيمتها بتشديد الإرادة وقتل اليأس، يجب أن تقف لتنتقم وتستعيد هيبتها ومنزلتها، وقعت عدة مرات على الأرض، ونصحها الطبيب بالإبتعاد عن هذه الممارسات التي لن تفيدها في شيء، بالعكس ستأزم حالتها أكثر ، وأن حالتها تستدعي استعدادات نفسية تحت ضغط ظروف استثنائية تحدث صدمة مضادة حادة وقوية غير منتظرة... رغم هذا واصلت على نفس التمارين التي تختمها دائما بالبكاء و سب وشتم قدرها ، وهجرها الصبر وسكنها القلق والسخط...
في ذلك المساء أحست بشيء من الإسترخاء، أتعبها التفكير فاستسلمت لحلم اليقظة تأخذها السنة بعد السنة والغفوة بعد الغفوة حتى رأته يدخل غرفتها كالشبح، أغلق الباب، وانقض عليها يحاول خنقها، يشد عنقها بأصابعه الرهيبة ويضغط بكل قوة، وهي تدفعه بيديها وتحاول أن تصرخ، لما رفعته قليلا عن جسدها، إستعانت برجليها ودفعته مرة واحدة، فسقط وقامت، فتحت الباب وهربت، تبعها وهي تجري وتصرح... الغيث.. الغيث.. إني أمشي، إني أجري... جرى ورائها الأعوان ، إلا أنها كانت للموت أسرع، كالسهم تشق الريح لتصطدم أمام باب المركز بسيارة فألقتها على جذع شجرة فشخج رأسها وسال الدم من أنفها وفمها، عندما وصل الأعوان وجدوا الدمع قد اختلط بالدم ، فقالت في غصة:
- أراد أن يخنقني فهربت
- قال العون: من ؟
- قالت: الأعرابي النذل، زوجي، انظروا إنني أمشي
هلكت، ولم يبكها أحد.
حضر جنازتها الفيلسوف والأرملة وشيعها إلى القبر بعض الفضوليين من قاطني المركز، وقبل أن ينصرفوا قال الفيلسوف:
- هي طبيعة الحياة، دخلت كما خرجت أول مرة، مسكينة أمي، رحلت وتركت رمادا..
نظرت إليه الأرملة، همت بـ... أشاحت بوجهها وذهبت، ينظر إليها حتى التهمها امتداد الشارع، ولما وصلت كانت الأمازونية فوق الخشبة كالساحرة المخدرة تأخذ بالألباب، في جسدها شيء من أمها، وقفت أمامها وقالت:
- ماتت أمك.
إبتسمت وتحجر الدمع في عينيها، وواصلت تتلوى كالأفعى في طواعية النغم إلى آخر دقة، توقفت واختفت.
في نفس اليوم وفي نفس الوقت كانت امرأة واقفة أمام باب السجن، ترى الشارع لأول مرة بعد خمس سنوات، يا للعجب ومن كان يقول!!.. لم يتغير شيء، دخلت وكان السجن علبة صغيرة، فأصبح معتقلا كبيرا بأجنحة أضيق، خرجت ولا تزال المدينة على حالها، نفس الشوارع، نفس المحلات، نفس المقاهي، ونفس الوجوه، نفس الحركات، ونفس السكنات، ونفس الممارسات، رجال كثر ينتظرون على الأرصفة، ونساء كثيرات قادمات وأطفال تشردوا يتسولون ويتصعلكون، في طريقها إلى البيت كأنها نامت دهرا،لما وصلت كان الشارع خاليا والباب مغلقا كأنه لم يفتح منذ عشرات السنين، الجيران ينظرون إليها من فجوات النوافذ كأنها عائدة من وراء الزمن، يستعيدون الحدث بتأويلاتهم، ينظرون إليها بنفس العين التي كانت تنظر إليها منذ خمس سنوات، كأنها كانت بالأمس فقط، فتحت، دخلت وتركت الباب ورائها مفتوحا، نشر الغبار غطاءه على كل شيء، لا يزال شال الجدة على المسند، وعلى المائدة قارورة ماء وكوب، الساعة توقفت وهي تشير إلى زمن يعيد نفسه حتى وهي متوقفة، رائحة الرطوبة العكرة تملأ المكان والعنكبوت بدأ ينسج خيوطه في كل مكان، لا تزال السجادة والنعل والعصا في محطة الموت... شعرت بقشعريرة تغزو جسدها، فأسرعت تفتح النوافذ وتزيح الستائر ليتجدد الهواء ويدخل الضوء، ويخرج الظلام ويتنفس البيت، فاستظهرت خبايا من الزمن الماضي ونفخت في شجونه قبس الحياة، هنا الكل يرد الصدى والوقع لا يرحم، حضر الزوج، وجاءت الجدة، واستيقظ الطفل، وبدأ العرض، أدارت وجهها إلى الحائط، انحنت، وأغلقت براحتيها أذنيها، وأغمظت عينيها، وخنقتها العبرات، في هذه المرة كان الصمت يتكلم، مرت إلى المطبخ، لا ماء ولا كهرباء ولا غاز، خبز يابس في الخزانة، بعض التوابل لا تزال في حافظاتها، أواني فوق المغسل، والمزهرية خاوية فوق الطاولة، تذكرت أن في الوجود ورود، تذكرت المزرعة والقرية وأشياء كثيرة كاد أن يلتهمها النسيان، جلست على الكرسي تنظر من النافذة إلى ما مر من زمن العمر، وضجيج الأيام التي خلت في هذا البيت، يملأ الفضاء، كأنها تحررت واستيقظت هي كذلك من جديد، زارت كل الغرف وتوقفت في غرفة الجدة، كأنها كانت هنا وخرجت، عجيب ! وحدها هذه الغرفة لا غبار فيها ولا عنكبوت، لعل بابها ونوافذها كانت محكمة الغلق، رائحة القرنفل والخزامى، والبخور، لا يزال عقدها معلق هناك، في درج طاولتها علبة كحل، وقشور شجرة الجوز كانت تمضغها فتظهر شفتيها غليظة وبنية اللون قاتمة كالكبد، مسبحتها الأخرى، وحزامها المطرز بالأصفر والأحمر، وبعض المناديل، من طبيعتها هذه الأشياء تضعها في متناولها بجانب المرآة الكبيرة، احتضنتها الغرفة، وحدها كانت تراها وفية... في غرفة النوم هاجمها العتاب والندم، السرير عش سعادة ووكر شقاء، ما أفظعه ! في الدولاب سر الأقنعة، الطاولة، الكرسي، الأريكة، المصباح، اللوحة، صورتها، التلفاز، المدفئة، الستائر، كل شيء على حاله، فتحت الدولاب، ملابسها كما تركتها، صندوق الزينة، قارورة عطرها، منذ دخلت لم تلمس شيئا، لكل شيء هنا حكاية، أسطورة، أو دراما، كأنها في متحف لا تريد أن تبعثر لمسات الزمن، وقفت أمام المرآة، نعم إنها هي، لكن بوجه آخر، كأنها غابت عن نفسها عشر سنوات، تقرأ على وجهها آثارا خلدتها أحداث مرت من هنا، ابتسمت، لم تجد الإبتسامة المكان المناسب، لبسط روعتها، مكفهرا كان الثغر يرفض كل دخيل... بدأت تسمع نبضات قلبها تحترف كلام الصمت الذي تغلغل في نفسها، واكتسح تلك الذات التي صنعت له في عمقها ذات يوم مأوى يجتر فيه أجمل الأحلام، كان في هذه المرة موحشا تسكنه الأشباح...
قضت ليلتها في غرفة الجدة، في ذلك الظلام الجميل الذي افتقدته كل مدة السجن، واستغربت لجمال الظلام، لأول مرة تكتشف روعة تعاقب الليل والنهار، وأن لباس الليل هو أحلى لباس يرتديه الكون بكل تناقضاته ليعيش كل واحد نفسه.
في الصباح، قامت باكرا تنفض الغبار، تنظف وترتب البيت من جديد، وقبل أن تخرج طرق الباب طارق، فتحت، إنه شرطي، ارتعدت، كادت تسقط، طمأنها، تأكد من هويتها، وسلمها استدعاء عاجل إلى محافظة الشرطة المركزية، لم يحدد السبب، يحمل عبارة "لأمر يهمك"، ذهبت تجر جسدها جرا، دخلت إلى المحافظة كرها، طرقت ودخلت، سلمت له الإستدعاء، نظر إليها، باديا على وجهها القلق والإرهاق
- تفضلي، إجلسي
أخرج من الدرج ملفا، وبعد إطلالة قصيرة قال لها:
- ولدك في الحضانة، أهمله أبوه وهو حتى الآن محل بحث، أمرتنا النيابة بإرجاعه لك فور خروجك من السجن، هذا الإجراء يراعي فيه القانون مصلحة الطفل.. هل عندك مانع؟
هزت رأسها وقالت:
- وأين الذي ادعى أنه أبوه؟
- باع كل ممتلكات إبنه واختفى، عندما نلقي عليه القبض نستدعيك، والآن هيا بنا إلى دار الحضانة، نسلمه لك وتمضي على محضر الإستلام، الملف الصحي والتربوي جاهز
- لم تشعر بأي شيء عندها، ولما دخلت دار الحضانة ورأت أولائك الأطفال الضحايا، أحست بغربة ووحشة أكثر من تلك التي كانت تحس بها في السجن، تنتظر أن ترى إبنها بشيء من الفضول، وهو أمامها في مكتب المديرة برفقة المربية، كان وسيما جدا وفي عينيه تقرأ مكر البراءة بحيله، يظهر ذكيا هذا الطفل ومشاغبا، تنفر منه النفس من فرط جرأته، إنتظر الجميع أن تحضنه بمجرد أن تراه، ولكن لم يحصل شيء من هذا، وأولها الجميع بتأثيرات السجن، فبادرتها المديرة قائلة:
- - إنه إبنك
اعتمدت على ركبتيها أمامه، تشده من منكبيه، وتنظر إليه بعمق في عينيه وهو يصرف نظره يمينا وشمالا، يخشى أن تكتشف فيه شيء لا يعجبها، يتساءل من تكون هذه المرأة وماذا تريد منه، تنكر لها وتمنى أن لا تكون تلك المرأة التي يرسمها من حين إلى حين لما يفتقد أما.
فقالت المديرة:
- إنه يشبهك كثيرا
ضحكت، وابتسم الجميع، وبدأ ينظر إليها، لم ير ذلك الشبه... ولا يريد أن يكون إبن هذه المرأة ولا يعرف السبب...
ابتسمت له وقالت:
- لقد أصبحت رجلا، أستطيع أن أعتمد عليك لتكون رب البيت
- لماذا؟ أنت ما عندك بابا؟ أم ذهب وتركك كما تركني أبي؟
- أنا ماما يا حبيبي
- أنا لا أعرفك، ستبقي هنا معنا، نحن كلنا هنا ليس لنا مامات، كلهن سافرن ولن يعدن، هكذا قالت طاطا المعلمة
- ها أنا عدت من السفر وجئت لآخذك معي إلى البيت
- وأين ماماة جوهرة وفؤاد، وحنان؟
- لم يكن معي لقد سافرن بعيدا
- لماذا سافرت أنت وتركتني؟ ماذا فعلت لك؟
- أنا تركتك عند بابا يا حبيبي
تنظر إلى المربية وإلى المديرة، تتنهد، تهز رأسها
- في البيت عندك بابا، وأختي الصغيرة والدادة والدبدوبة؟
- من قال لك هذا؟
- في الرسوم المتحركة كلهم كذلك
- في البيت أنا وأنت فقط، وسنكون أحلى الأصدقاء، سترى، والدبدوب البطل...
- يعني يغلبهم جميعا، هو عنيف ومشاغب مثلي
تنظر إلى المعلمة... تهز رأسها إيجابا وتبتسم
- كل الأطفال هنا مثله؟
- تقريبا وبتفاوت، أول شيء نعلمه لهم هو الجرأة حتى نكسر الحاجز الذي بينهم وبيننا، أولا لنعيش معا في نفس العالم والذي بينهم وبين المجتمع حتى لا يعيشوا العزلة والإنطواء والكبت، لا تهمنا طبيعتهم بقدر ما يهمنا ما ينطوون عليه، عندما نحدد مجال تفكيرهم نعرف أين يتحرك الطفل فندخل في المكان والوقت المناسب، إننا نرعاهم من بعيد ونتفاعل مع ظاهرهم أكثر من باطنهم الذي يتكفل به مختصون في علم النفس، لأن مهمتنا تربوية أكثر
- أشكركم، سأحاول أن أتواصل معه بنفس الطريقة
- هيا بنا يا رجل
أخذته من يده وخرجت
- لماذا أنت وحدك في البيت؟ هل عاقبك أبوك؟ عندنا عندما نفعل شيئا يعزلونا ولا يكلمنا أحد..
كالظل يطاردها بأسئلة تحرجها أحيانا وأحيانا أخرى تضحكها، وفي اليوم الموالي حملت شهاداتها وذهبت لتسجل إسمها في مكتب التوجيه والتوظيف، وهي على يقين أن مؤهلاتها وخبرتها تعطيها الأسبقية والحق في العمل كمستشارة قانونية مثلا، في أي شركة سواء عمومية أو خاصة...
في الإستقبال كانت شابة جميلة وأنيقة، عارفة بإدارة الحوار في مجال التوظيف، وحقيقة أعجبت بمستواها ومسارها العلمي والمهني، ورشد سنها وخبرتها فوجهتها إلى شركة خاصة تتميز بسمعة مرموقة، فاستقبلوها أحسن إستقبال ووظفت كمستشارة قانونية، كلفت بمتابعة كل الملفات ذات الطابع القانوني، كان المكتب جميلا جدا ومجهزا بكل ما تحتاج إليه لمزاولة مهامها على أحسن وجه، بأجرة مميزة، جلست، إسترخت في عمق الكرسي وبدأ الحلم من جديد.. جاءتها الكاتبة بكل الملفات، حينها، وضعتهم فوق مكتبها وانصرفت، رتبتهم حسب الأولويات، قدمت عملا متقنا أظهرت فيه حنكتها ومهارتها وكفاءتها، فأعجب بها رب العمل كثيرا، قدم لها تشكراته، وأكد لها حرصه على الإحتفاظ بها وترقيتها في الوقت المناسب، أدخلت إبنها إلى مدرسة تحضيرية يقضي فيها يومه كله، وفي المساء تمر عليه تأخذه وتذهب إلى البيت، لا يجمعها به إلا الليل والعطلة الأسبوعية، واستعادت ثقتها بنفسها، وتميزت المؤسسة في تسييرها لشؤونها القانونية بفضل تفانيها وسهرها على القيام بكل الإجراءات المطلوبة في كل علاقاتها وصفقاتها، وجنبتها متاعب كثيرة كانت تقع فيها من حين إلا حين وخاصة مع مصلحة الضرائب... وبعد ثلاثة أشهر، قرر صاحب العمل ترقيتها ومنحها أجرة تحفيزية وتشجيعية جزاءا بما قدمته من خدمة راقية ومميزة للمؤسسة، ولكن هي الرياح لا تهب دائما بما تشتهيه السفن، فاستدعاها إلى مكتبه إلى جلسة خاصة، فتعطرت، إبتسمت للمرآة، وذهبت وفي يدها بعض الملفات التي تحتاج إلى استفسارات منه، ولما جلست، قرأت على وجهه لونا من الأسى والأسف، ابتسمت، تنتظر أن يتكلم أو يأذن لها بالكلام، إلا أن في هذه المرة وكأن الصمت هذا العدو الذي اختفى وظهر من جديد ولكن بطريقة أشد، وخالطه الحرج، وحتى تكسره بادرته قائلة:
- هل من جديد؟ أننا الآن نتحكم في جميع أمورنا، لقد تداركنا كل الملفات التي كانت معلقة، وما علينا الآن إلا المتابعة... وبدأت تشرح له بإسهاب تفاصيل ما قامت به خلال كل هذه الفترة، ولاحظت أن اهتمامه كان أقل مما كان عليه سابقا، وأنه منشغل بأمر لا يزال يخفيه عنها، وشكت أن الأمور بدأت تأخذ منعرجا آخر، فسكتت وأخذت تنظر إليه، فأجبرته على الكلام فقال:
- - أشكرك على هذا الجهد الكبير والخدمات القيمة التي قدمتيها إلى الشركة بإخلاص وتفان ومهارة، وقد كنت في مستوى تطلعاتنا، وكم تمنيت أن أحتفظ بك مددا وسندا ولكن هي الظروف في بعض الأحيان تحول بيننا وبين ما نشتهي وما نريد... ولا شك أن مثلك أدرى بالآليات والفلك الذي تدور فيه المؤسسات وحرصها على غلق كل الثغرات التي يمكن أن تمس بالسمعة التي أريد لها أن تكون عليها، وليس لنا الخيار لأننا ملزمون، بل محكوم علينا أن نتشكل وفق تقاليد القطاع الذي ننتمي إليه، ونظرا لحساسية مشاريعنا والعلاقات التي تربطنا بهذا المحيط فإننا مجبرون على التحفظ في بعض الأمور، والإبتعاد عن كل الشبهات...
...يتبع...
رد مع اقتباس