الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #66  
قديم 31-05-2013, 06:24 PM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

..........................................................................................................................................................................................................................................
في حقيقة الأمر القوانين السارية المفعول تتحفظ كثيرا في توظيف من كانت له سوابق عدلية ،وخاصة الذين تعرضوا إلى العقوبة بالسجن، وأنا لا أجرمك بالعكس، ما رأيت أشرف ولا أصدق منك، ولكن هي قوانين البلد وحكم المجتمع والمحيط الذي لا يرحم، و لا يعرف التوبة، ويبقى في نظرهم المجرم طول حياته مجرمأ، وهذا يا سيدتي يمس كثيرا بعلاقتنا وسمعة المؤسسة... أعتذر لك باسمي وباسم جميع زملائك، إننا مجبورون على توقيفك، لتعويض هذا الضرر قررت المؤسسة منحك مبلغا محترما من المال، وشهادة حسن السيرة والسلوك عرفانا منا وإكراما لك، المبلغ حول صباح اليوم إلى حسابك الخاص.
- أشكرك...هي لعنة يا سيدي لا تزال تطاردني ولا أظنها ستكتفي حتى تهلكني... أشكركم على ثقتكم وإحسانكم ودمتم بخير...
خرجت وقد ضاقت عليها الدنيا بأكملها، وتيقنت أنه لن يكون لها في الوظائف نصيب ما دامت ذات سوابق و دخلت السجن... شعرت بشيء من الضغط لا يخففه إلا المشي، تأبطت سفطها وراحت تجوب شوارع المدينة، في واجهة نهاية ذلك الشارع لافتة كبيرة مكتوب عليها الأمازونية، تحتها، المتعة في العودة إلى الأصل... دفعها الفضول فدخلت، جلست، فتحت سفطها، فإذا بامرأة تكاد تكون عارية تقف أمامها، تحمل وردة بيد وقدحا من كوكتال الفواكه الإستوائية باليد الأخرى، ابتسمت لها وأخذت الوردة، فوضعت المرأة القدح على الطاولة وهي تنظر إليها دون أن تكلمها، فجأة كأنها أرادت أن تتدارك شيئا فاتها، رفعت رأسها بسرعة، كانت المرأة قد أدبرت في اتجاه الباب الذي خرجت منه، واختفت، ساورها ظن أنها الأرملة، هكذا ظهر لها ولم تتبين ، كانت القاعة عبارة عن معرض للنباتات الإستوائية، وصور أشجار تزين منصة العرض، شربت، كان لذيذا جدا، شعرت بلذته وهي تخرج، أخذت إبنها من المدرسة وذهبت إلى بيتها، أحست بدوران في رأسها، شكت في المزيج الذي تناولته عند الأمازونية، وعادت تلك الصورة فنفتها من ذاكرتها.
كان لها ما يشغلها في تلك الليلة عن التفكير في الأرملة أو في غيرها، يجب أن تجد مخرجا لوضعها الحرج في العاجل، لأن سباقها مع الزمن لا يرحم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعود ثانية إلى المسكنة.... وصامت عن الكلام، وأحس الطفل بغربة قاتلة لم رآه من عصبية أمه، لا يزال يكتشف فيها غلظة وقساوة مربية ومديرة الملجأ، وبدأ يشعر أنه من الأسباب التي حولت أمه إلى هذا الوحش الذي لايرحم، لما تنبهت له وجدته قد نام قبل العشاء، أحست بشيء من الذنب، فذهبت تستسمحه إلا أنه كان قد تركب عنيدا، ولم يغفرها ، لها وأصر على المبيت طاويا، هي كذلك كانت تشعر أنه يناديها أمي بمشقة، وأحيانا يقول لها معلمة، ولم تستقر الصلة الحقيقية بينها وبينه، طفل ينام وحده، ويستيقظ وحده، ويخدم نفسه بنفسه كما علموه في دار الحضانة الإعتماد على النفس في كل شيء ، فأصبحت العاطفة آخر مطلب، وإذا جفت النوق فمن يحنو على أولادها... كما يقول المثل، وتعود على الذهاب إلى المدرسة وحده ويعود وحده ويتدبر أموره من أكل وشرب وحده، وساعدها هذا السلوك فانشغلت أكثر فأكثر بنفسها، وتخلص شيئا فشيئا من وصايتها، ومع مر الزمن كان يعمل بالليل وفي أيام العطل ويدرس في النهار، واتخذ أصدقاء من كل أصناف المجتمع بسرعة اندماجه، وتعدت طموحاته سنه، وما عاد يهمه إلا الإعتناء بنفسه، لا تهمه رائحة الكسب ولا لونه، نضج بسرعة و تميز، كان يظهر أكبر من سنه، ذكي حتى أبهر، داهية حتى أدهش، وماكر حتى أفجع، كالريح يدخل من جميع الفجوات ويخرج من جميع الفجوات، وأصبح لا يلتقي مع أمه إلا نادرا، متى تدخل إلى البيت تجد ما تشتهيه النفس وما لذ من مأكولات، ومشروبات، تذهب إلى غرفته تجد أفخر الملابس وأجملها، أشرطة، أجهزة، نقود... تأكل، وتشرب وتأخذ ما تحتاج إليه من نقود... كانت هي تعمل في فرن يصنع حلويات الأعراس والمناسبات، أغلب دوامها في الليل وتعود إلى البيت مرهقة يغالبها النعاس والتعب، فتنام ولا تستيقظ حتى منتصف النهار، تتغذى على الجاهز الذي تركه إبنها، وقبل العصر تلتحق بعملها، تعيش في دائرة مغلقة لا يعرف أحد ما يدور حولها و لا ما بداخلها... فقدت الثقة في الجميع، أغلقت كل منافذ المشاعر، وأصبحت آلية في كل شيء، لا تريد أن تفكر، ومسحت الذاكرة، وتقوقعت، تعيش بجسدها الصقيع مغلقة، عبوسة كانت لا تستبشر ولا تبتسم كالقلعة المهجورة موصدة الأبواب...
انتظرها أمام الباب حتى خرجت، لم تنتبه إليه، ووقفت على الرصيف تنتظر قدوم طاكسي، فتقدم ووقف بجانبها، إدعى الفضول وسألها:
- إلى أين يا سيدتي؟
- إلتفتت، لم تصدق، لعله الشبح، ابتعدت فتبعها
- أنت؟ ماذا تريد؟.. هيا انصرف لحالك، لو يراك إبني لن يرحمك
- كنت في السجن وخرجت اليوم فقط
- ما عاد يهمني أمرك
- لقد ألقوا عليه القبض و هو الآن يدفع ثمن جرائمه
- من؟
- القاضي، واعترف بكل شيء، سيستدعوك في الجلسة القادمة... تعالي معي وأحكي لك تفاصيل قضية هذا الشيطان.
- لا أصدق، كيف حصل هذا؟
- تعالي معي نذهب إلى مكان هادئ ونتحدث
كأنها تلقت حقنة هدوء وسكون، فطاوعته وذهبت معه رغم التعب والنعاس، تحاول أن تصلح ذلك الخلل الذي أحدثته مايسميه الناس بلعبة الأيام، تقذفها وتقذف لها وتقذف بها، عطاء بيد وأخذ باليد الأخرى، تتساءل لماذا تأتيها الأشياء دائما بهذا الوجه المقنع، وتختفي لتعود بقناع آخر، حقيقة يمكن للإنسان أن يتسبب بسذاجته، وبكل ما يحمل من سوء الطوية في كثير من المصائب التي تحطم كيانه، ولكن لم تصدق أنها قضاء كله شر... هنا في واجهة البحر، جو جميل، نسمة منعشة، حيث نختلي الأرواح الرومانسية التي تلاطف المشاعر، وتحول الأحاديث إلى شجون حالمة، ويصدق الإنسان أن جمال الدنيا كله في دمعة شوق فوق بسمة حنو، وأن الأمل هو البلسم الوحيد الذي يصنع السعادة بعد الألم، لهذا نجد دائما راحتنا بعد البكاء رغم أن الأشياء لا تزال جاثمة على صدورنا... هل كان عبقريا إلى حد التحكم في مواقع الحديث، التي تدفع بالرفق أشرعته في عمقها إلى ما يشتهي الوصول إليه؟ ! أم هي الأقدار لما تريد أن تحدث تتموقع وتسوق الإنسان إلى حيث تريد لتفعل به ما تشاء.. وقفت تنظر إلى البحر، وشعرت بانتعاش غريب واستعداد لسماعه من أول كلمة إلى آخر حرف.
وبدأ يروي لها كيف أفلس القاضي، و كيف تورط في قضايا فساد...رشاوي وتحويلات ومخادعات، وكيف ألقي عليه القبض، واعترف أن الطفل ليس إبنه، وأنه زور التحاليل، واستعمل نفوذه ليجعله يختفي... وأن القضية بدأت منذ أن أخبره إبنه المحامي أن الطفل إبن أمينة الضبط ، يعني بها هي، قد كتب باسمه جده ثروة هائلة، فتذكر أنها أخبرته بحملها وأنه ردعها وأبعدها... فوجد أن الصدف قد أعدت له فرصة العمر، ولو بقي قاضيا مائة سنة لن يستطيع أن يجمع مبلغا كهذا، ففضل التضحية بمنصبه وسمعته والظفر بهذا المال الذي كان يظهر له مهدورالأنه إرث لقيط...لم يكن يعلم أننا تزوجنا زواج عرف، وأتممتا أركانه بالولي لما تهيأت الظروف بموافقة أبيك رغم أنه كان مكرها، سترا للعار، عملا المثل الشعبي القائل"الهم دواه الغم، والسترة ليه مليحة رد الجلفة على العظم تبرأ وتولي صحيحة" وبارك زواجنا.... كان حينها يضع ذراعه فوق كتفيها، أحست بالدفء فالتسقت به أكثر، وكان ولدها ينظر إليها من نافذة المقهى التي تطل على البحر، فقال له صاحبه:
- كأنها أمك، يا لروعة العشق عندما يستولي على العجائز، وضحك حتى بانت نواجده،
فأدخله بهذه الكلمات إلى زنزانة مظلمة باردة، وقهره الموقف، وشعر بغربة عزلته عنها أكثر فأكثر، يفكر كيف يهجر المدينة أو يطرد هذه المدينة من ذاكرته إلى الأبد، تلك المدينة التي لا تهتز لأحد.
ولما انصرفا، ذهب إلى مكانهما، وقف أمام البحر، نظر إلى الأسفل كان سحيقا، وعميقا، فوق أعالي الجرف استوت هذه الشرفة وتزينت لمن يريد الإنتحار، هكذا قال في نفسه، حرمه هذا الرجل من حقه في أمه، تلك الأم التي لم تحضنه مرة واحدة في عمرها، كانت تختزن كل هذا الحب والحنان لرجل لا يعرف من أين أتى، تعمق الجرح وازداد النزيف، لما رأى أنه كبر كتلك النبتة الطفيلية ، واجتث لأتفه الأسباب، بعد ثمانية عشر سنة يستيقظ من نوم على كابوس يطارده وربما إلى الأبد، فحز في نفسه ذلك حد الإحباط و تلبسته لحظة غياب...رجع إلى البيت وليس من عادته، لما دخل سمع قهقهة أمه وصوت رجل ، عرف بأنهما هنا، فعاد أدراجه، خرج مسرعا، إشترى خنجرا وعاد، دخل بكل هدوء إلى غرفته، ينتظر اللحظة المناسبة، كان الرجل يداعبها وهما كطفلين صغيرين، أكلا وشربا، وجاء وقت القيلولة فسكنا إلى الراحة، فدفع الباب ودخل عليهما في سريرهما فجأة، وتعطلت مداركه كلها، طعن الرجل طعنة واحدة، وطعن أمه ، فقالت وهي تشهق آخر الشهقات:
- أقسم أنه أبوك، إنه أبوك، أسامحك فهل تسامحني؟ حاولت أن تعانقه ولكن يأبي القدر ذلك ،ويسقط ذراعها وينهار هو عليها بالبكاء، تذكر فعاد إلى أبيه فوجده قد لفظ أنفاسه... فطعن نفسه وأراد أن يهرب، فخرج من البيت يجري، لا يعرف إلى أين، ، حتى وصل إلى المكان الذي حجز فيه لحظة غياب ، نظر إلى المدينة، إبتسم، ورمى بنفسه... لم تهتز المدينة كما توقع ، وكأن شيئا لم يكن..
تمت


التعديل الأخير تم بواسطة مختار أحمد سعيدي ; 31-05-2013 الساعة 06:28 PM
رد مع اقتباس