الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #50  
قديم 24-04-2013, 01:26 AM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

هي تعرف بقدر ما كان يحبها، بقدر ما يروي ظمأه الإنتقام منها اليوم، في اليوم الموالي، حمل حقيبته ومحفظته وخرج باكرا، قلبوا الدنيا عليه، وبدأت تساورهم الشكوك، وظن الجميع أنه أخذ أمواله وهرب، أكالوا له كل الشتائم واللعنات، ولما عرف أن الليل قد جمعهم ، هتف لهم ليخبرهم أنه في مصحة لبعض الأيام، فتنفس الجميع الصعداء، وهدأت روعة أمه عليه وتوقفت عن البكاء، ولما ذهبوا لزيارته رفض أن يستقبلهم، فعادوا مدحورين، وبدأ أخطر الخيارات يفرض نفسه، وكانت الأم قد جمعت كل خيوط المؤامرة ، ورتبت للتمويه بطريقة شيطانية لا يستطيع أن يدركها إلا مارد، الأرملة هي الوحيدة التي كانت على علم بكل شيء، وبدأ العد التنازلي لوضع نهاية لهذه المسرحية التي حرقت أعصاب الجميع، لقد بنت مصيدة موته، وهي الآن تنتظر، أعدت له صدمة جهنمية وجمعتهم لتضع الجميع في الصورة، واقتنع الجميع أن هذا رجل مريض ومجنون، وهو بلا شك يبيت ما لا يبيته الشيطان، ويمكن أن يحرمهم من الميراث، ولهذا يجب أن يتداركوا الأمر قبل فوات الأوان، وقبل أن يتفرقوا رن جرس الباب وظن الجميع أنه هو، فتفرقوا وفتح الفيلسوف فوجد رجلا يحمل رسالة، يطلب أمه فجاءت، أمضت على السجل وسلمها الرسالة، فتحت فإذا به حكم طلاقها، فسقطت مغشى عليها، كان الإنهيار العصبي أحد وأسرع من خطتها، فأدخلت إلى مصحة الأمراض العصبية في حالة خطيرة جدا، ولما أخبروه قال لهم: هذه أولى الخطوات في ترتيب أموري والبقية ستأتي، فلا تستعجلوا الأحداث، وقطع المكالمة، وذهبت أمه لتزوه فأذن لها، لما دخلت عليه وجدته في صحة جيدة، المصحة مختصة في رعاية مرضى السكري المتطور، حسب برنامج طبي متطور جدا، يشرف عليه أساتذة مختصون وكفاءات تمريض عالية، فسرت لما رأته كذلك، رغم ذلك كان يبدو عليه بعض التحفظ، فقالت له:
- كنت أسرع منها وأذكى، أفتخر بك، وصيتي إليك، كن حذرا.
إبتسم وقال:
- لا تخشي علي، الشيطان الذي يأخذون منه، تعلم في مدرستي، كنت أجاريه فقط، وصدق من قال اللهم احفظني من أحبابي ، أما أعدائي فإني أعرفهم.. هذا مثل فرنسي جميل أحفظه وأعمل به دائما.
كتمتها في نفسها وقامت كالمطعون الذي لا يريد أن يقع فريسة أمام عدوه، أوقفتها حرارة النصل تقاوم بكل ما أوتيت من قوة حتى لا تنهار بالبكاء أمامه، اختفت وراء ابتسامة، قبلته على الجبين وخرجت، وكأنها كانت تنتظر هذه الطعنة بهذا العمق، فأعدت لها غضبها وسخطها، فاجتمعت كل ملامح البؤس على وجهها، إلا أن أعذار رحمة الأم وشفقتها بددت كل شيء، وفسحت الجو للدمع أن ينسكب أنهارا... حينها كان الجميع في مصحة الأمراض العصبية لزيارة الأم، إلا أن الطبيب رفض أي زيارة لسوء حالتها وقال:
- السيدة كأنها تحت صعقة كهربائية دمرت أماكن حساسة في الجهاز، يجب أن نبعدها عن كل ما يذكرها بالمحيط الذي كانت تعيش فيه أولا، حتى يتوقف الدمار ، ونعيدها إليه بعد مرور العاصفة، إنها أصعب مرحلة تمر بها، ولما نتأكد من اجتياز مرحلة الخطر سنأذن لكم بالزيارة، نظن أن الصدمة كانت أقوى مما كانت تنتظر.
خرج الجميع وبقيت الأرملة، تريد معرفة النتائج المتوقعة، ولما أصرت قال لها الطبيب:
-للحظ هنا يا سيدتي دور كبير، وبقدراتها واستعدادها، يمكن أن تمر بسلام وتستعيد عافيتها ببعض التوابع الخفيفة، ولكن يبقى الشلل وارد في أغلب هذه الحالات، وخاصة إذا تدخل اليأس والإحباط، سنعتمد على قوة إرادتها ومقاومتها واستعداداتها لمواجهة حالتها.. نتمنى خيرا...
فعادت إلى البيت تنتظر عودته بفارغ الصبر وتتوعده، كانت الضربة قاضية وأصابت في الصميم، تنظر أمي إلى أمها بشماتة وتضحك، وسرها وهي ترى برج طموح أمها الذي صنعه الكبرياء والغرور والطمع يتفجر ويتطاير شذرات...
وانتهت الكوميديا التي كانت تمثل فيها حبها لأبيها ضد أمها، وزال التكلف الذي كان جاثما على صدرها وعادت للمثل القائل، سأل أحدهم، هل صعود الجبل أفضل أم نزوله؟ فقال أحدهم اللعنة عليهما أينما التقيا وأين تفرقا...
واختلطت حسابات الجميع، ينتظرون على من يأتي الدور في هذه المرة، وما هي الخطوة القادمة، وحذروا الأرملة من أن تقوم بأي عمل من دون علمهم، وتكهرب الجو وتسممت الثقة وساد الحذر، وبدأ كل واحد يعمل لشاكلته، الشيء الذي يتفق عليه الجميع هو أن الأب مهما عمل وضعيته الصحية لن ترحمه، ونهايته لا تحتاج إلى أكثر من كلمة جارحة لكرامته الكاذبة، أو وعكة في منتصف الليل ولا يجد من يأخذ بيده إلى المصحة، المهم أنه ليس بعيدا من الموت الذي يقنصه... وبدأت عقول الشياطين تشتغل ليلا ونهارا، العيون شاخصة والآذان صاغية، والقلوب لدى الحناجر...في تلك الليلة شعرت أمي باضطراب في بطنها وكأن الدنيا التي بداخلها بدأتها القيامة، وشعرت بشيء يدفعني إلى الأسفل، وعرفت أن سجني في هذا القبو قد انتهى ،وحان وقت خروجي إلى عالم أضيق، فعزمت أن أخرج واقفا، فانقلبت وقدمت رجلي، وكم كان خروجي مؤلما، كلما أرادوا وضع رأسي إلى الأسفل، إنقلت واقفا، صرخت أمي وصرخت أنا، كانت صرخة أمي كأنها جلدت، وكانت صرختي أول صرخة رفض، فضحك الآخرون وبكيت أنا كثيرا في تلك الليلة وتمنيت أن لا أتوقف، وحرمتني أمي من صدرها حفاظا على جماله، ولم تحضني لأشم رائحتها، وضعتني في مهد من حديد بجانبها، لقد تخلصت مني، سمعتها تتنفس الصعداء، وشعرت بالغربة ووحشة كوحشة القبر، أبحث بأنفي عن جرعة حنان في ذلك القماش الذي لفوني فيه، وأنا أتقيأ من حين لآخر سائل نتن، وفي آخر الليل جاءت امرأة أخرى، حملتني ووضعت في فمي قطعة من مطاط، أمصها فيتدفق في فمي حليب أشم فيه رائحة غريبة، وذوق لا يحمل تركيبة أي عنصر بشري، رفضته في بادئ الأمر، وازدادت غربتي، وأرغمت عليه شيئا فشيئا فرمته.ونسيت أمي، وتعلقت بقطعة المطاط، وفي الصباح جاء أبي، حملني، قبلني على الجبين وقال لأمي:
- إنه صورة طبق الأصل لك
فضحك وضحكت أمي وقالت:
- كاد يقتلني، وضعته بصعوبة كبيرة، ونال مني المقص ما نال
- لقد أمر الطبيب ببقائك تحت المراقبة أسبوعا كاملا
- هل أخبروا أبي؟، أبي مجنون يمكن أن يفعل أي شيء
- لا أعرف، لا زلت بعيدا عنهم، الوضع في بيتكم مكهرب، أكره المكوث في مكان لا يأمن الإنسان فيه على أذنه ولسانه.
- لا شك أنه سيفرح، كان ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، ممكن تغير..
- ممكن... الظروف غير ما كانت عليه، والأمور في بيتكم تعقدت أكثر فأكثر، الكل يعيش على الأعصاب، أنصحك بالعودة إلى بيتنا عندما تخرجي من هنا.
- أعود إلى البيت؟ ! أبدا، حضوري يضمن حقوقي في الميراث، أبي على حافة الموت وكلهم ينتظرون، صدقني إنهم قادرون على فعل أي شيء لاستعجال موته، وأنا في أشد الحاجة إلى هذه الأموال، لست آمنة على منصبي من ذلك القاضي الخبيث، وأخشى مكرهم.
- ودخلت الجدة وجاءت معها بتمر، حملتني، ضمتني إلى صدرها، وشعرت لأول مرة بالدفء، كانت أول رائحة حنو أشمها، كان التمر لذيذا جدا، وكأني منه خلقت، شعرت لأول مرة بالراحة وخلدت إلى عالم آخر أعرفه لأول مرة، صور أبتسم لها، وصور تحاول أن تبكيني، وفي اليوم الموالي شعرت بألم المصل في ساعدي، وبدأت علاقتي حميمية مع قطعة المطاط... أي امرأة تحملني، فتلك هي أمي، وقبل نهاية الأسبوع أخذوا عينة من دمي بحضور طبيبة وممرضة وضابطة شرطة بالزي المدني، أفزع هذا التصرف أمي، فطمأنوها أنه بأمر من النيابة التي طلبت بتحاليل خاصة، وهذا شيء طبيعي يحصل من حين إلى حين، هالها الأمر ودخلت في دوامة جعلتها تكرهني أكثر فأكثر...
- ولما جاء أبي أخبرته فطلب توضيحات فقالوا له أن هناك وباء وأرادوا أن يتأكدوا من سلامتي، وقد كانت التحاليل سليمة، باركوا له وخرجنا من مصلحة الأمومة إلى بيت جدي، وجدته قد بعث لي بأجمل الهدايا، ومبلغا من المال إلى أمي، فزاد تصرفه في خلط أوراق الجميع، و وضع أمي محل شبهة، فاعتزلها الجميع، وزاد كرهها ومقتها لي، ومنذ ذلك اليوم تكفلت بي الجدة وهجرتني أمي وذهبت إلى بيت زوجها، لا تأتي إلي إلا مرة واحدة في الأسبوع رغم معارضة أبي...
- الجميع كانوا ينتظرون تنفيذ الأمر بالإخلاء، ومرت المدة ولم يتقدم أحد، وزادت حيرتهم، وعاد الأب إلى البيت تصحبه ممرضة، أعطاها تعليمات صارمة، فكانت تقوم بمهمتها في حدود النطاق الذي كلفت به، مبرمجة، لا تكلم أحدا، إمرأة شابة، سوداء، أنيقة، ممشوقة القد، ببنية قوية، لطيفة معه ولينة، تتكلم الفرنسية بطلاقة ونطق سليم، أسالت لعاب الفيلسوف.
وحتى يبدد حيرتهم أخبرهم بأنه استأجر المسكن من شاريه لمدة ثلاثة أشهر، فلزم كل واحد حده، يتابعون من بعيد تحركاته، تحسنت صحته شيئا ما، وكأنه يمتثل إلى الشفاء، فاستعاد هيبته وفرض وجوده، يمرون عليه كل صباح وكل مساء يشترون محبته ورضاه، فيبتسم...
تعبت كثيرا في هذا اليوم، خرجت متأخرة من العمل، نظرت يمينا ثم شمالا، لعله يمازحها، وقفت وهي تبتسم تنتظره أن يظهر لها فجأة كعادته، بقيت أكثر من ربع ساعة، لا أحد، فعادت إلى البيت من نفس الطريق، وصلت، دخلت، نادته، لم يجبها أحد، ذهبت إلى غرفة النوم فوجدت الدولاب مفتوحا، وقد أخذ ملابسه وحاجياته، لم تصدق وظنت أنه مجرد مقلب، فتشت البيت كله، لم يترك أي شيء يخصه، عادت إلى غرفة النوم، وعلى الطاولة كانت ورقة مكتوب عليها " أنت طالق، وداعا "، فجلست تقلب الورقة، حاولت الإتصال به، نقاله خارج مجال التغطية... فقالت:
- طريق السد تأخذ ولا ترد... كفى.. كفى !... كفى.. لماذا أنا فقط؟؟ لماذا؟.. يا حظ ماذا فعلت للقضاء والقدر؟ !! نقرت الهاتف فإذا بالجدة ترد بكل حنو:
- طاب مساؤك يا حبيبتي، كيف حالك !.. مابك؟.. تكلمي ! .. مابك؟ قطعتي قلبي تكلمي..
- لقد ذهب يا جدتي، ذهب، أخذ كل حاجياته ورحل..
- مجنون، والله مجنون، انتظريني أنا قادمة، لا تخرجي ولا تخبري أحدا
وما هي إلا نصف ساعة حتى رن جرس الباب، فتحت ودخلت الجدة تحمل الطفل، وضعته على الأريكة، عانقتها، تحضنها بكل قوة، وبلل الدمع صدر العجوز من جديد، وهي تداعب خصلات حفيدتها وتنظر إلى السماء... أجلستها في الصالون، مسحت دموعها بكفها، ورسمت بسمة حنان وتجلد على ثغرها، تهون عليها لأن الحدث في نظرها لا يستحق كل هذا التهويل، دون أن تمنعها من البكاء، وهي التي تقول أن دموع المرأة أرحم من الغيث، لأنها تغسل قلبها من الشر، بعكس المرأة التي لا تبكي، إنها شر الخلق، قاسية القلب مثل أمها، لا تظن أنها بكت مرة واحدة في حياتها...
كانت تلك أتعس ليلة في حياتها، وأدركت أن ذلك الرجل كان يعيش معها شبح صورة لإمرأة ماتت ولا تزال في ذاته حية تسعى، ولعله استيقظ واستيقن وعرف الحقيقة فرحل، رجل كانت هي مجرد كذبة تصورها وصدقها إلى حين، رجل مسكون بحب طيف لا يؤمن بالنهايات، وحز في نفسها أنها كانت مجرد أيقونة على خشبة مسرح راويه امرأة من صنع الخيال، حز في نفسها أنها كانت مجرد كلمات تأبين، مجرد رثاء، مجرد أغنية عزف الجنون لحنها على شواهد القبور لرجل متيم بحب امرأة من رميم... كانت أمامه امرأة عائدة من ما وراء العقل والظنون، من وراء الموت واليقين.. ألهذا كان يجن جنونه عندما يراها تلبس البياض، لا زالت تذكر كيف كان يداعبها، كأنه الساحر عندما ينفخ من خياله في طيف امرأة الأساطير وحكايا الرواحين، كان يحملها دائما إلى عالم تحطم فيه الأجساد قيود العقل والنقل، وتتنصل من رشدها وترتدي هواها وتتبع غواية المجانين.. هكذا كانت، استيقظت ووجدت نفسها عاشت حلما من هواجس اللاعقل الكاذبة، صدقت أنها كانت من وحي ما وراء السعادة في عالم الحالمين... ألهذا الحد كانت ساذجة؟؟... وهاجمتها الشكوك، هناك حلقة مفقودة في تخمينها، مرسوم في مكانها علامة استفهام يختفي وراءها سؤال الحيرة...
تتساءل هل هي الحقيقة التي تنتقم ممن يريد اغتيالها؟ ومن يدري !؟
...يتبع...
رد مع اقتباس