الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #55  
قديم 16-05-2013, 02:02 AM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

كانت الساعة تشير إلى العاشرة و النصف لما رن جرس التليفون، رفعت السماعة.
- نعم، مرحبا سيدي الرئيس ...حاضر.
غريب، منذ مدة طويلة لم يطلبها القاضي، منذ حولت إلى هذ القسم ، حملت المرآة ، نظرة استطلاعية على هيئتها ،كحل العينين، أحمر الشفاه، تسريحة الشعر، بسرعة خللته بأناملها ، هزت رأسها يمينا و شمالا، استوى، و ذهبت، كانت فاتنة... دقت على الباب ، استأذنت و دخلت.
- أجلسي...أنت مستغربة ؟..، شيء طبيعي .
كانت ابتسامته متكلفة ، وراءها نوع من التشفي الممزوج بالتحذير. هزت رأسها و كتفيها، وابتسمت بتحفظ، تحاول إخفاء حيرتها ...
- استمعي إلي جيدا، الموضوع شائك جدا، و مسؤوليتك كبيرة، وأنت متورطة في قضية خطيرة جدا، يستحيل أن تفعليها اعتباطا أو عن جهل أو بغير قصد، أنت أعرف بخبايا النساء و أعرف بخبايا القانون، أعرف ماذا تدبر امرأة مثلك عندما تقدم على فعلة كهذه... سيصلك استدعاء من طرف الشرطة القضائية للإمتثال أمام وكيل الجمهورية، و الأدلة كلها ضدك، و الحقيقة في ملفك لا غبار عليها، أخف الحكم عليها السجن النافذ، هذا إذا لم تظهر نوايا خلفية أخرى، وكان دفاعك خبيرا و عارفا بخبايا القانون... ،القاضي يعرفه الجميع، من أقسى القضاة، و تعرفي الصرامة في أحكامه، لا يرحم في القضايا التي تثبت إدانة أصحابها بقصد...طلبتك لأخبرك حتى أجنبك المفاجأة..
كان هو يتكلم و هي تستمع و تنتظر ماذا لفق لها، ولماذا وهي التي جنبته الكثير من المتاعب، و لم تذكر إسمه رغم شكها في أن الولد منه، ولا يمكن لها الآن أن تتهمه و قد سجل الطفل باسم زوجها و انتهى الأمر، و لماذا هذا القاضي يطاردها وهو لا يريدها، بعد كل هذا ماذا يريد منها ؟.. أعطته كل شيء ، ذاتها ، شبابها ، جسدها، الزمن الجميل من عمرها، دنس شرفها و خذلها ... كل هذا مقابل منصب عمل..و ضاعت منها كيفية صياغة سؤال يروي ضمأها و يفرغه من محتواه ، تنتظره أن يفصح، كان هو قد أدرك أنه بهتها،فأطال الحديث عن خطورة القضية و عواقبها، و عقوبتها و آثارها، و أنها جريمة شنيعة في حق الإنسانية ، الجميع متفق على بشاعتها، و دناءة مرتكبيها، و أن القانون لا يتسامح في مثل هذا النوع من الجرائم، و أنه دائما يضرب بيد من حديد، و أن الجلسة ستكون مغلقة حفاظا على سمعة و كرامة الضحية و.. و..و
- أفصح ..أفصح ..يكفي ..يكفي..اقطع رأسي وارحمني ..
- احترمي نفسك .. و بدون تهور، أنت أمام القاضي، فلا ترغميني أن أعطي أوامر بالقبض عليك الآن، وإيداعك السجن على ذمة التحقيق..أنت قمت بجريمة تحرمها كل القوانين والشرائع السماوية و الأرضية ..
و زاد اسنغرابها أكثر فأكثر ، واختلطت عليها الإفتراضات، و بقدر ما اقترب من صلب الموضوع، بقدر ما ابتعدت عن صميمه، و ضاعت في متاهات لا حد لها، و هي التي تعرف مقالب ظلم المحاكم التي يمكن أن تتعرض لها، تتساءل كيف عرف أني بزقت في وجه أبي، و ربما كنت أنا السبب في موته حسرة، هل يمكن لإخوتي أن يبلغوا عني لتجريدي من حقي في إبني من الوصية؟..، هم قادرون على ذلك، و بدأ هذا الشك يتحول بمبرراته يقينا ، ورأت أنه إذا كانت هذه الحقيقة التي يقصدها، فهي حقيقة تستحق أكثر من هذه العقوبة، ربما أخذت السماء حقها، و هو تخفيف من عذاب الضمير ...و أعطى القاضي للصمت حقه، وتركها تجتر تفاعلات الشكوك، ولما رآها بدأت تستقر بالرضى على القضاء قال :
-الموضوع يخص إبني الذي سجلتيه باسم خليلك الذي كنت تخونيني معه، و بعد التحاليل تبين أنه من لحمي و دمي، الوثائق كلها في ملف العدالة، لن أغفرها لك، سأجعلك تتجرعين مرارة التزوير بغصة الندم القاتل ، دنيئة أنت إلى هذا الحد؟.. أعمتك جشاعة الطمع في الميراث إلى حد التلاعب بهوية براءة الأطفال، ماذا كنت تنوي فعله أنت و عشيقك بأموال إبني التي ورثها من جده ؟.. ستدفعين الثمن غاليا، لقد تم إثبات زواجي بك بحضور الشهود، نسخة من العقد في الملف... هيا تفضلي وسنلتقي في الجلسة... هيا.. تفضلي، وأنت موقوفة عن العمل، في انتظار الحكم.
قامت، وقد شلت ذاكرتها، وضاع صوابها، تجر ذيل الفاجعة، أغلقت باب مكتبها ووقفت دونه، إنها تختنق، تحاول أن تتنفس الصعداء بصعوبة، إمتلأ صدرها، وتكدس الضغط، اشتدت نبضات رأسها وتراخت وتيرتها، كأنها تصعد في السماء، حملت سفطها وخرجت تجري، أوقفت أول طاكسي، في بيتها كانت الجدة لا تزال بغيضها تجتر بصعوبة تصرف حفيدتها وتنتظر انتقام السماء وتتمنى أن لا تأتي الضربة موجعة، ولما رأتها أسرعت إليها وقالت:
- ما وراءك؟ أخشى عليك من لعنة أبيك
- موجعة يا جدتي، موجعة، لقد خسرت كل شيء، أبي، إبني والميراث، وخسرت حتى نفسي.. سأموت يا جدتي، سأموت..
ودخلت الجدة معها في دوامة لا تعرف بدايتها ولا نهايتها، لا تريد أن تسأل خوفا من بشاعة الجواب، كانت تعرف أن ضربة السماء ستكون القاضية... لأول مرة لم تحضنها ولم تعرف لماذا، أمسكتها من يدها وأجلستها..
- تجلدي يا بنيتي، ليس لك إلا الصبر، ماذا حصل؟
- غريبة يا جدتي، بل أغرب من الخيال.. أشياء لا أكاد أصدقها ولا نراها إلا في الأفلام، تحاليل تلك الليلة في مصلحة الأمومة كانت بأمر من النيابة بعد شكوى قدمها القاضي ضدي، وقد اتهم زوجي بالتزوير وخيره بين توريطه في القضية أو يطلقني، وقد فعل بعد أن أخبره بكل التفاصيل وأثبت له ذلك بالتحاليل، أشياء كثيرة ركبها هذا الشيطان بإحكام واستغل نفوذه وتعسف سلطته، أنا الآن تحت رحمته وطائلة القانون، قبضني قبضة شديدة ، لقد خسرت كل شيء حتى وظيفتي، نعم يا جدتي إنه القاضي الذي أحبني عندما أراد، وتنصل مني لما أراد، واغتالني لما أراد، كل هذا بنفس القانون الذي يحمله ضميره الميت، سيجردني من كل شيء، يدخلني السجن، ويأخذ إبني، ويستحوذ على الميراث، ولا أدري ماذا بعد... ربما يتهمني بقتل أبي.
وجاء أجل الإخلاء، فدخل الفيلسوف على أمه، قبلها على جبينها ثم قال:
- أمي العزيزة، أنا أعرف أنه مهما كنت، لن تكوني أرحم ولا أحسن من زوجك، هكذا أنت مثله ممكن أفظع وأشر، ما كان يهمك إلا نفسك، ولهذا ما أخذنا منك شيئا بالأمس نرده إليك اليوم...
وداعا...
وكانت كلمة فرضت عليها ظروفها أن تستمع إليها لأول مرة في حياتها وتنصت ولا تقول شيئا... قالها بكل جرأة، ترك الباب مفتوحا وخرج، ذهب عند عمه فارغ اليدين لا يعرف كيف تكون ردة فعله، رغم حرص زوجته على بقائه معهم، يبقى الجشع فيهم مفسدة الكثير من الأشياء، وهو الذي تعلق بزوجة عمه وبادلته المشاعر الملتهبة، لا يريد أن يخسر صفقة غرام مجانية وثمينة كهذه، يفكر كيف يتصرف لفرض وجوده في هذه الأسرة، فاعتمد عليها واستطاعت بمكرها ودهائها أن تؤثر في زوجها حتى جعلته يتخذه ولدا، فاستقر عنده يظهر له الولاء ويدس له الوباء، وكأن عمه في غيبوبة، يتساءل أحيانا، أيمكن لهذه المرأة اللعوب أن تخدع رجلا جانبه ذئب والجانب الآخر ثعلب؟ سؤال لا تجيب عنه إلا الأيام... بمقارنة أمه مع أبيه ينظر إليها تلميذة رغم تفوقها ظاهريا...
واستأجرت الأم شقة في حي شعبي ولزمت السرير، مع تقدمها في السن أصاب منها المرض غرضه بسرعة، وظهرت آثار الزمن التي كانت تختفي وراء المساحيق، ارتخت الحيوية التي كانت تزين حركات الإغراء في جسد غرر بصاحبته، وظهرت الترهلات تتحدى ما كان يتبجح به اللسان، أصاب الوهن كل شيء، وحدها بقيت العين بصيرة...
كانت الغرفة ضيقة جدا، بنافذة صغيرة، تطل على ساحة جرداء، فيها بعض الشجيرات اليابسة، وكشك فيه شيخ هرم، يبيع الحلويات للأطفال، والأعشاب والتوابل للعجائز...في غياب الأطفال إلى المدارس تشعر بسكون الموت، وعند خروجهم كأنها سوق الشياطين، دولاب جميل لم يتسع لفساتينها وبذلاتها وملابسها وأحذيتها التي كانت تقتنها بتميز ورقة نادرة، لا تزال تحمل ذكريات مغامراتها الأنثوية الجريئة، لكل فستان حكاية لقاء، تستعيدها على وشوشة المكيف الأنيس الوحيد الذي لا يزال وفيا لها، لا تجد أحيانا حتى من يناولها الدواء، ويعتقها بشربة ماء، وتناساها الأحباب والأصحاب والأهل والأولاد، والحياة بدونها لم تتوقف كما كانت تظن، لا زالت مستمرة بنفس الوتيرة أو أفضل، هي وحدها التي سقطت... وبدأت تفكر بالذهاب إلى مركز ما، لعلها تجد رفقة تبدد معها غشاء الصمت الذي يحيط بها، وحدها الأرملة تدخل في آخر الليل تتفقدها وهي في حالة يرثى لها، فكرت في الإنتحار عدة مرات، وخانتها الشجاعة، ما كانت تظن أنها جبانة إلى هذا الحد، واجهت الجميع وعجزت عن مواجهة الموت، لأنه كما تقول، النهاية التي لا تعترف بالأمل ...
أشياء كثيرة كانت تحلم بها لتخلد بها جمال ما وراء العقل، وحال دونها القضاء لما هدم جسر الوصل الذي شيدته الأمنيات، لم تندم، وهي مصرة على ذلك، ينبعث دائما من عمقها صوت المغنية الفرنسية الهالكة " إديت بياف"، لا أندم على شيء....بصوتها ونبرتها المارسيلية، يتحدى يقظة ضميرها كلما هزه منطق سليم، تنظر إلى الأرملة كيف تبتذل الأنوثة وتباع في سوق النخاسة بأبخس ثمن، ترى فيها عزها المهدور، وترى فيها كيف تداس الكرامة بأرجل الإهانة، عندما تفقد المرأة الطموح وتكتفي بفتات الرجال وتلبس رداء الإستكانة، وتنسى حقيقة مبررات الوجود، لا تؤمن بالتكامل، ولا تزال مصرة على أن شموخ المرأة لا يكتسب ولا يلقن، بل هو جريحة في الذات الأنثوية، يولد معها، يشتد ساقه كلما اشتد ساقها، وهو مرهون بعنادها وتحديها لكل القيم والأعراف التي تريد أن تبتذلها، وعلى المرأة أن تكون سلطة متسلطة، لأن بدونها لا وجود للوجود، لا يجب أن ترضى بأقل من هذا، تنظر إلى نفسها كذلك الغصن الذي تأكله النار يتحول شيئا فشيئا إلى رماد تذروه الرياح ولن يذكرها أحد، فقط لأنها كانت في نظرهم مجرد امرأة عاشت لنفسها...
...يتبع...

رد مع اقتباس