عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 25-10-2009, 04:11 PM
الصورة الرمزية فيصل الزوايدي
فيصل الزوايدي فيصل الزوايدي غير متواجد حالياً
مشرف سابق
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
المشاركات: 453
افتراضي " اليد اليمنى " قصة لفيصل الزوايدي(تونس)



الــــــيَدُ اليُـــمــنـى ..

مضى الليلُ كَما مَضت ليالٍ و أُخرى عَلى عَزفِ نواحي، كَما مَضى العُمرُ، كما مَرَّ الساربونَ عَلَى نزفِ جِراحي .. أُغلِقُ دَهاليزي الـمُعتِمَةَ تـحتَ غِطاءٍ ثَقيلٍ مِنَ الصوفِ و الـخوفِ فتتبَدَّدَ سَحائِبُ الـخدَرِ و تتنادى شارِداتُ الأَفكارِ إلـى الانتِظامِ فـي فِكرَةٍ واحِدَةٍ : هذا يَومٌ لا مَثيلَ لَهُ .. لا يَومَ لَهُ مَثيلٌ .. أَقفِز مِنَ الـمضجَعِ و أُسرِعُ إلـى الـمغسَلِ ، لَكنّي أَتـجمد أمامَ الـمرآة فهذا الرجلُ ظلَّ ينظرُ إلـي بِـحَيْرَةٍ كأن الإنسانَ لغزٌ .. أَوَ لَيسَ كذلكَ قالَ لـي .. ؟ أَرفضُ أَنْ أجيبَه فما أظنُّ فـي العُمرِ مُتَّسعًا للسؤالِ ..

أَتـهَيَّأُ للاغتِسالِ كالعادَةِ فأَمُدُّ يدي اليُمنـى نـحوَ حَبلِ الـماءِ الـمُتدَفقِ كالسنين، لا تـهـدَأُ و لا تعبَأُ بالـمُتعَبينَ .. أَنظُرُ إلـى اليَدِ الـمُمتَدَّةِ و يتبادَرُ سُؤالٌ يَفجَؤنـي لِأَوِّل مَرَّةٍ : و لِمَ اليُمنـى ؟ أَلِأَنّـي تعوَّدتُ ذلكَ .. أَغسِلُ اليُمنـى ثـمَّ اليُـسرى و أَمسَحُ ظاهرَ الأجفانِ و أَسيرُ كالأَسيـرِ فَأَتَـحَدَّثُ لِأَقولَ باطِلا و أَطـــمَئِنَّ غافِلا و أَضحَكَ نِفاقًا ..أَرتَدي ثِيابًا داكنَةً أَلوانـها لَعَلَّها تَستُرُ عيوبًا لا يستُرُها إلا القَبـرُ مَتـى قُبِرتُ. أرسُـمُ على فَمي اِبتِسامَةً صفراءَ أو بيضاءَ ، سِيانَ فَما عادَ للألوانِ عِندي تَـمايُزٌ.. هُوَ لَونٌ واحدٌ قَاتِـمٌ حالِكٌ لَـن أُخبِرَكُم بِهِ .. وَ أَمُرُّ أمـامَ دُكانِ العـمِّ صالـح ، أُلقـي إلَيْهِ تَـحيَّةَ الصباحِ و أُصافِحُهُ بِيُمْنايَ بِتَوَدُّدٍ ظاهرٍ و أَلعنُهُ فـي سِرّي فَأنا مَدينٌ لَهُ بِـمالٍ أَقرضَنيهِ مُنذُ أَمَدٍ .. أَمضي فـي الطريقِ أَتَتَبَّعُ أعجازَ النساءِ و ما ظَهَرَ مِن زينَتِهن، أَقصِدُ الـمقهى فَما لـي مِن مَلهى غيرها لِأُجالِسَ صحبًا أُشارِكهم لَغوًا و بَغْيًا عَلى الآخرينَ.. أَتَتَبَّعُ على التلفازِ مُطرِبَةً هيفاءَ تكشِفُ ساقَيْها البَديعَتَيْنِ لِتُثبِتَ أنَّ صوتَـها جـميلٌ ، لَكنَّ ساقَيْها لا تُثيرانِ العَناكِبَ الـمُعَشِّشَةَ حولَ الـجهازِ الذي يَبُثُّ صورَتَـها و يَنسى صوتَـها البديعَ..هُـما تُثيـران عَناكِبَ أُخرى تَرتَـدي ثِيابًا أنيقَةً و لَكِنَّها داكنةٌ كَأَثوابـي و لا أدري لِـماذا .. أَقلِّبُ باليُمنى صفحاتِ صُحُفٍ فَأعثُرُ بَيْنَ العناوين على هَزائِم بِأسـماء اِنتِصاراتٍ و لَـمْ أَفهَم يَومًا كَيفَ يَقَعُ ذَلِكَ و لَـم تُفِدنـي دُروسُ اللسانياتِ بِشَيْءٍ. يُقبِلُ الغلامُ مُساعِدُ النادلِ عندَما يُناديهِ أَحَدُ عُقلائِنا بِكُنيَتِهِ التـي تُعَبِّـرُ عَن بَلاهَتِهِ يَسخَرُ مِنهُ بِكلِماتٍ تُثيرُهُ فَتُخرِجُهُ عَن طَورِهِ لِيَتَفوَّهَ بِكَلامٍ فاضِحٍ .. فَنَضحـَكُ لِعَقْلِ صديقِنا و بلاهةِ الآخر ..
هذا شطرُ يَوْمي ..ثُـمَّ أَمضي إلَيْها.. أُنثايَ ، عِندَ زاوِيَةٍ مُنعَزِلَـةٍ فـي حَـديقَةٍ أَو مُنتَزَهٍ تَقولُ لـي:" أُحبُّكَ "سَذاجةً و أَقولُ لَـها:" أُحِبُّكِ " اِشتِهاءً و نَبتَسِمُ لِبعضِنا مُصَدِّقَيْنِ فالـحياةُ تَـحتاجُ إلى التصابـي يومًا و إلـى التَّغابـي أيامًا..
تَزدادُ ابتِسامَتُها تَأَلُّقًا عندَما تَبدَأُ أَصابِعُ يَدي اليُمنى فـي العَبَثِ بِأَزرارِ قَميصِها.. ثُـمَّ نَنصَرِفُ إلـى فِعلٍ أكرَهُها بَعدَهُ .. أَعودُ مَكدودًا إلـى البَيتَِ و أَلعَُن العمَّ صالِـح مُـجَدَّدًا بَعدَ أَن تَكونَ يُـمنايَ قَد اِرتَفَعت لإلقاءِ تَـحِيَّةِ الـمساءِ عَلَيْهِ بِـحَميمِيَّةٍ بالغَةٍ ..
و دونَ أَن أُدرِكَ كَيفَ وَقَعَ ذَلِكَ الاتفاقُ : تَراجَعَت اليَدُ اليُمنى خَـجْلى مِن كُلِّ ذَلِكَ و اِندَفَعَت اليُسرى نَـحوَ الـماءِ ِاندِفاعاً عُنفُوَانِـيا غَريبًا لا عَهدَ لـي بِهِ ..

فـيصل الــزوايــ
ـــــــدي
رد مع اقتباس