الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #21  
قديم 14-03-2013, 10:39 AM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

الجدة: لا تكترثي، وألزمي غرفتك، إني والله أقدر ظروفك، هذه الأعراض لا بد منها في هذه الحالة، الوحم يا بنيتي إبن الجنون.. وأي جنون... ضحكت وضمتها بقوة في حضنها.
- وحده هذا العالم عالمنا نحن معشر النساء، تذكريني لما كنت حاملا بأبيك، لا أقول لك أكثر، وأظن أنني على يقين.
تشم في صدر جدتها رائحة عقد القرنفل والخزامى ممزوجة برائحة البخور، أرجعتها إلى زمن طفولتها المدللة، حين كانت تأوي كل مساء إلى هذا الصدر الحنون الذي ترعرعت في حضنه، صدر كان منبع الحنان ومصدر الحنو، تذكرت أشياء كثيرة كاد الزمن أن يمحيها من ذاكرتها، أشياء بسيطة صنعت سعادتها، وغرست فيها الأمل، تذكرت حكايا الأميرات في ظلام الليل الجميل حول مدفأة الحطب، ولمسات الأنامل على الناصية، وهمسات الجدة والجد نائم والكون كله لهما، امتزج دمع الحسرة بشجون الماضي وقهقهة الصبا التي كانت تر
سمها البراءة على ثغرها، لترسم لها تلك الأحلام التي أفلت.
-إياك أن تفكري في الإنتحار يا بنيتي، إنه خلاص الجبناء وتحاسبك روحك.
-ومن قال لك أنني أريد أن أنتحر؟!
حولت وجهها إلى الباب، وقفت، ولما همت بالخروج قالت:
-هكذا... لا أعرف كيف قلت لك هذا.. المهم كوني بخير. ربما لأني أعرفك أفضل من أمك، هذا الحجر كان مهدك .. وأنت الآن في حضني، تذكرت كل شيء، كنت مشاغبة بامتياز...
إبتسمت، فأعادت لها الإبتسامة، خرجت وتركت الباب مفتوحا... هي الآن هناك في القرية لما كانت مجرد بيوت متفرقة، تفصل بينها الحقول، تذكرت فرن الطين ورائحة خبز الشعير بزيت الزيتون، غناء الديك ودندنة الدجاجات، رنات النحل ورقصة الفراشات، لهث الكلاب وصهيل الجياد، شخير القط وأنين المغلاة، هذه الأوركيسترا التي تجود بها الطبيعة، تتحرك على أنغامها كل النساء آنذاك، لما كانت الطيور على أشكالها تقع، وهي الآن لا تراها إلا رسومات متحركة يقوّلها البشر ما لم تقل، فقدت جمال الطبع وشوهت براءتها، حتى قال الثعلب والله ما أنا بماكر، فقط من الحكمة أن يعتبر المخلوق بكل أخطائه، يحصيها ولا يعيدها، من الغباوة أن تلذغ من جحر مرتين، لا تزال تذكر هذه المقولة التي كانت تسمعها من جدها الذي كانت تراه حكيم زمانه.. ولما انتصف الليل ونام الجميع، فتحت الباب بهدوء وخرجت، فتبعتها، دخلت إلى مكتب أبيها، أغلقت الباب، أوقدت المصباح وفتحت الخزانة، وبدأت تقلب الأدوية، أخذت ثلاث قارورات وانصرفت بهدوء، خبأتهم واستلقت على ظهرها، ووضعت راحتيها على بطنها تحاول أن تلمس شيئا، رأيتها تتمتم، أطفأت الضوء ونامت، أنا بطبعي لا أنام، وقفت على رأس سريرها أستعيد كل ما جرى، أشياء كثيرة ما فهمتها، فقط تأكدت أنها تنوي على فعل شيء، لعله الإنتحار الذي حذرتها منه جدتها، تمنيت لو عرفت معناه، لأنني بدأت أكره المفاجآت، أشعل الضوء في الرواق فخرجت، وجدت أختها الصغرى، دخلت غرفتها و أغلقت بابها ، وضعت شريط.. كنت دائما أراها ملفوفة في تلك القطعة من القماش، منعزلة، لا تتحرك إلا وفي يدها شريط أو كتاب، في صراع مستمر مع الفيلسوف، تلقبه دائما بالزنديق، الكل يناديها الأخت، لا تأكل معهم ولا تجالسهم، قالوا كادت تترك الدراسة بسبب المعاكسات، تشعر بحساسية اتجاه الرجال، فأخلصت نفسها للعبادة كما تقول...
نظام العائلة هنا، كما يقول الجميع ديموقراطي، كن من تشاء، فقط اتركني أكون من أشاء... كانت هي الليلة في حالة أخرى، لأول مرة أنظر إلى الإنسان كما خلق لأول مرة، وبدأت تمارس على إيقاع ذلك الشريط طقوسا غريبة، شطحات وحركات، كأنها راقصة في معبد من معابد الهنود، تفاعلت حد البكاء، انبطحت، رفعت رأسها وابتسمت... ثم قامت مباشرة إلى الكمبيوتر، نقرات فأعادت الحصة على الشاشة بعنوان رقصة الأمازونيات، سهم يتابعها ، يشير مع الشرح إلى هفوات وأخطاء حركاتها ... شكرها المعلق، أثنى عليها وقال:
واصلي لكي تصلي، سرك في أعماق بحرنا.
اختفت صورتها، وظهرت صورة رجل يمارس نفس الطقوس. تركتها في خشوع العابدين وانصرفت، ولما أذن للفجر كانت هي الوحيدة في الموعد، اغتسلت، أظنها صلت وعادت إلى النوم...
وقام الفيلسوف يرتدي بدلته الرياضية، ليقوم بتمارينه كالعادة، ذهب إلى الحديقة العمومية حيث يلتقي ببعض أصدقائه، سيلتحق به عمه ويعودان معا.
العم سياسي حتى النخاع، يعيش وأسرته في الطابق العلوي، في عزلة تامة، يدخل من الباب الخلفي ويخرج منه، يتابع من بعيد كل صغيرة وكبيرة تحدث في العائلة، كالقرش يشم رائحة الدم من بعيد، يلقبونه بثعلب القبور، هو كذلك، ثرثار بامتياز، يتنفس الكذب ، بصنع الحدث و زوجته الصحفية تترية، تكتب باسم مستعار أحيانا للتمويه، هي تجمع الفضائح وهو يساوم، عندهما وجوه للأعداء و أخرى للأصدقاء.
لا تظهر كثيرا هي وأطفالها الثلاث، يكاد البيت يظهر خاليا كل النهار، الأولاد في الروضة، هو حيث الحدث السياسي وحيث الهرج، وهي تلاحق الأخبار وتقوم بالتحقيقات، في المساء يجتمعون على وجبات خفيفة، وينامون باكرا ليقوموا مبكرين، تعودوا على هذا النمط من الحياة. كلهم في نظال من أجل مستقبل أفضل وحياة سعيدة، من أجل التحرر أكثر، من أجل خدمة الوطن، وخدمة الوطن فقط... هكذا يقولون.
العم أسوأ ما خلق الله خلقا وخلقا وأبشع، سأله ابن أخيه مازحا ، بالله عليك يا عم، كيف قبلت بك هذه الجميلة؟ فيرد قائلا: الحكمة في سحنون يا بني وليس في النون، أشياء كثيرة في عمك لا تراها إلا الأنوثة الصادقة، ويضحك حتى تظهر نواجدة...
- أنت الذي لا يتجاوز مستواك التعليمي الإعدادية، استطعت أن تتميز بهذا النفوذ وهذه السمعة، ليتني أعرف سر نجاحك.
- فيقول: إنها ناصية زوجتي المباركة، يوم تزوجتها كنت أبسط مخلوقات الله، بل من أراذلة القوم، أما اليوم كل المفاتيح هي بيدي، بسمتي لا تقدر بثمن... ويضحك، لا تحاول، لن تستطيع أن تدرك سر نجاحي لأنك من طينة أخرى... الدنيا يا بني هي المرأة الأولى، لا تستعبدها إلا بامرأة ثانية أجمل منها، وأنا جمع لي الحظ في هذه المرأة الكثير، لا أزيدك أكثر.
مهدت الأمنية مسلك الطموح بمخالب الغيرة في نفس الفيلسوف، ما ابتلع بعد أن امرأة خريجة جامعة، مثقفة
وجميلة، تبني مجدا لرجل أمي تافه مثل عمه، هو لا يؤمن بالحظ، إلا أن في هذه المرة كاد يصدق أن السعادة أحيانا هي حليفة لأرادلة المحظوظين، رغم أن الحظ لا يباع ولا يشترى، حزّ في نفسه هذا الأمر، وأقسم أن يصل إلى حل هذا اللغز عاجلا أم آجلا...
يتابعها من بعيد كالفرس الجموح، سريعة الحركة، دقيقة الملاحظة، تسمع وتنصت بذاكرة قوية جدا، ذكية جدا، لا تفوتها الحركات ولا السكنات. بدأ يقرأ لها كل ما تنشره ، يطريها ويثني عليها في كل مجلس، يكتب أحيانا في نفس الجريدة على نفس الخط، يحاول أن تتلاقح أفكاره بأفكارها لتزهر المقاصد خلف المعاني، يزورها من حين إلى حين في غياب عمه، تكبره بثلاث سنوات وتظهر أصغر، متكتمة كثيرا، المعلومة عندها تؤخذ ولا تعطى، تستغل قبل أن توظف، وكان ما يجود به الفيلسوف من أخبار وتحاليل مادة دسمة وتفتح شهية ما تقدمه هي من أخبار، وبدأ مفعول القلم الرهيب يفتح له الأبواب التي كانت موصدة في وجهه ومشرعة على الآخرين، واختلط الحبر بالحبر، يستدرجهما مس الكتابة إلى لعبة الصياد والسمكة، لأول مرة تشعر أنها ليست طعما كما كانت، وأن خطها في الجريدة قد تحول، وأن بريق زوجها بدأ يخفت، وطلع نجم آخر يجذب مركبتها بكل قوة، وأنها تقترب بحيث يجب أن تفكر من الآن كيف تنزل بسلام.ليست هي التي نجاريه بهذه السهولة، إلا أنها رأت أنه أذكى، والفلسفة رغم سذاجة أصحابها أحيانا لا تؤمن بالمستحيل، في هذه المرة تستطيع أن تفلت من بين يدي زوجها، وإذا عرفت كيف تنزل قمرها الجديد في منازله... يمكنها أن تتخلص منهما بحجر واحد ، فعزمت على المغامرة...

....يتبع....
رد مع اقتباس