الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #22  
قديم 21-03-2013, 01:16 AM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

لم يتفقدها أحد، خرج الجميع باكرا،وحدها الجدة تلاحظهم جميعا ، وليست من عادتها أن تبقى في الفراش حتى تطلع الشمس، أراها اليوم مستيقظة ولم تقم، سارحة، رأسها على ذراعها، وتعبث بأصابع يدها الأخرى، أظنها توقفت عن العمل، رن الهاتف.
- نعم، مرحبا.. أنا في إجازة.. خمسة عشر يوما.. لا زلت أفكر، ربما.. سأخبرك في الوقت المناسب.. شكرا... سلام.
استوت جالسة، وضعت يدها على بطنها، ضربته بقبضتها وقامت، تفقدت جسدها أمام المرآة، ابتسمت، أعجبت بنفسها، ظهر ذلك على وجهها، فقط لم تكن مغرورة، ولا تعرف كيف تمارس الغنج، لما التقت به لأول مرة تأكدت من حسن نيته بسهولة، طاوعته بدون تردد ولا تحفظ، أما ماضيه لا تظن أن هناك من سلم من الخطيئة إلا نادرا، وما كان ليحاسبها حتى لا تحاسبه، هكذا نصبت للرأي ترويه، و الآن إنها على عتبة اليأس من عودته، وله الحق في ذلك، لأنها أخلت بشرط من شروط الإتفاق، يجب أن تتحمل مسؤوليتها وحدها، وقد جاء وقت الحسم...
أخرجت القارورات الثلاث، ركبت خليطا، وضعته في كأس وجلست تنظر إليه ..كنت أتابع حركاتها بفضول غريب، كأنها تريد أن تحدد مصيري وليس مصيرها، تعجبت، لأول مرة يحدث معي هذا... ثم قالت:
والآن ما بقي بيني وبين الموت إلا هذا الكوب، هل حقيقة لست خائفة؟! الشيء الجميل في الموت على ما أعتقد ، هو تحرر الروح من هذا الجسد المستبد، فيتعفن ويفنى ،ويفنى معه جبروته، أنانيته، حرصه، غروره، وشهواته، وتذهب معه أشياء كثيرة صنعت شقاء الإنسان وتعاسته..
ويبقى السؤال المحير وراء من انتحروا، هل الحياة هي فقط هذه الصورة السوداء القاتمة التي تقودنا إلى الخطيئة ثم الى الموت، وعندما نفقد الأمل نلجأ إلى الهروب ألى الأمام، إلى ما وراء العقل خوفا من عقاب العقل؟ هل الموت حقيقة هو الخلاص؟... وماذا بعد؟.. هل هو هروب من العقاب أم هو بذاته عقاب، إنتقام الذات للذات؟ هل هو جريمة أم به تتطهر النفس من زلاتها وبشاعاتها؟... على كل حال يبقى الموت هو المفر الوحيد من شماتة الأعداء، وهو وحده الذي يستر فضائحنا لأنه أخرص، ماذا سيقول الناس عني وأنا التي أظهر مثلا أعلى، احسد على كل النعم التي أعيشها، سأكون محل سخرية التافهات من بنات الخالة والعمة والساقطات من بنات الشارع، وأبقى لعنة تطارد الجميع، لا، لا، لا، وألف لا، يجب أن أضع لنفسي نهاية وأختفي بسري إلا الأبد، أما أنت أيها الرجل، يكفيك فخرا أنك فقدت بانتحاري في نفسك الشهامة والمروءة، وستنحني يوما رغما عنك من ثقل الدناءة. وداعا.. وداعا..
حملت الكوب بين أصابعها، أفرغته في جوفها واستوت جالسة فوق السرير، تريد أن تتذوق مرارة الموت بارتياح.. أما أنا بقيت أحوم حولها عاجز عن فعل أي شيء، وبدأت روحها تتشكل لتنفصل عنها، أحاول عبثا إعادتها... مالت، ثم سقطت من السرير على الأرض، تتوجع وتتقيأ، تشد بطنها بيديها، اشتدت أعصابها وبدأت كأنها تتقطع، تنقبض حتى تنقبض ثم تنتشر، تزحف نحو الباب وكأنها تطلب النجدة، تريد الخروج.. فإذا بالجدة تدفع الباب وتدخل، بسرعة حملت الهاتف وطلبت النجدة بكل هدوء...وما هي إلا بضع دقائق حتى وصلت سيارة الإسعاف، حملوها ومعها جدتها إلى مصلحة التسمم مباشرة، ومعها القارورات الثلاث، الجميع في سباق مع الموت، بعد عملية الغسل وضعوها تحت المراقبة، وبدأ صراع الحياة مع الموت في جسد فقد كل مبررات المقاومة، وحدها العقاقير تدافع عن البقاء، لا تزال الروح على أبواب كل المناتح مترددة، آلمني ما كانت تقاسيه، فتوسلت إليها للبقاء ولا أعرف لماذا فعلت ذلك، كانت روحها منهزمة، منهكة، منهارة... لم أكن أتوقع أن الروح تسلخ من الجسد هكذا، ما رأيت ألما أشد، كانت صرخات الروح وهي تحاول الخروج تمزق الكون كله، بعد هذا عرفت لماذا سمي الإنتحار جريمة تعاقب عليها كل التشريعات ، لأن الروح ليست ملكا لأحد، وأصبحت الآلات هي التي تتحكم في الحركات والسكنات في انتظار كلمة القضاء والقدر الأخيرة.
و جمعت مصيبتها الأهل والأقارب في تلك الليلة، و كانت فرصة لصلة رحم مزقته المصالح.الأعمام والأخوال والأصهار ومن تبعهم، يتحسسون لمعرفة سبب هذا التسمم كما قيل لهم، وكان اللقاء ثريا جدا، حميميا بين البعض، وجافا قاسيا بين البعض الآخر، منهم من لم يتجاوز نصف ساعة وكما جاء ذهب، ومنهم من أسر على تناول العشاء، ومنهم من شده شجون الحديث، ينتظر من الخبر ما يروي ضمأ فضوله، ومنهم.... الوحيد الذي لم يتكلم هو الأب، وقد رأوه يتحدث إلى الطبيب، جالسا على أريكته يلف ساعده بساعده، يكظم بصعوبة غضبه وتأثره، ولا أحد يجرأ على الكلام معه... الفيلسوف كان همه الوحيد زوجة عمه، هي كذلك كانت عليه بخائنة العين، اغتنمت فرصة انشغالهم بالحديث وأشارت إليه أنها ستعود إليه الليلة، فابتهج وبدأ يحلم بليلة من ليالي السمر الجميل.
انصرف الجميع وبقي الأب وحده يجتر كل الكلام الذي سمعه، وبحكم تجربته، حالات الإنتحار تأتي بسبب تافه، وفي أغلب الأحيان وراءها سر جريمة، الحلقة الضائعة في كل هذا هو أنه كان ينتظر منها كل شيء إلا الإنتحار، ويبقى السؤال يؤرقه حتى وهو في فراشه يصارع الإحتمالات ....
فتحت عينيها فوجدت وجه جدتها يملأ كل المكان، مدت ذراعيها وانهارت بالبكاء، عانقتها الجدة بكل حنو وقالت:
- لا عليك يا بنيتي، حصل خير، لقد تجاوزت مرحلة الخطر، حتى الجنين نجى بأعجوبة، هكذا قال الطبيب، لا تخشي شيئا، حذرته، ولا أحد يعلم، ولكن حذرني من الإجهاض، لا تخافي، إنها سرية المهنة، لقد واعدني.. ارتاحي حتى تقومي عاجلا، أنت بحاجة الآن إلى طاقة و قدرات كبيرة للوقوف...
كانت تنظر اليها بعيون المها ، كأنها رحمة الموت عندما تمسك، أحست بها سندا ملائكيا يغيث مضطرا خانته كل الحيل، وقالت:
- الموت يا جدتي، ما أفظعه، لم أكن أتوقع أنه احتراق بنار بين الجلد واللحم... كأني أعود من الغابرين.
- كنت في صراعك مع الموت قوية جدا، كنت واثقة من نجاتك، ارتاحي الآن ولا تتعبي نفسك بالكلام...
وساد الصمت من جديد يخيم على الغرفة، وغالبها النوم فاستسلمت ووضعت الجدة رأسها على السرير فنامت هي كذلك جالسة على الكرسي، وبدأ القضاء يرسم أفقا جديدا على مد بصر الظن، وعادت الأحلام إلى مواطنها، وبدأت الذات تنشد الأمل...
....يتبع....
رد مع اقتباس