الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #28  
قديم 01-04-2013, 02:27 AM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

في صباح ذلك اليوم، طلعت شمس الجميع كعادتها، وبدأ عالم النهار بأقنعته، يتوافدون على مائدة فطور الصباح التي أعدتها الأرملة، بنفس الطبائع، الأب يستمع لنشرة الأخبار قبل أن يخرج، الأم بحركات الحمامة تدندن بالفرنسية، الفيلسوف يبحث عن نظاراته وعلبة سجائره في فوضى البارحة، الأخت الصغرى رتبت كراريسها ولبست حجابها الذي لا ترى منه إلا الوجه والكفين، الجدة بمسبحتها في الصالون تقرأ في عينيها انشغال لم يحدده أحد، تفكر في خروج حفيدتها اليوم، وقبل الضحى لم يبق في البيت إلا الأرملة والجدة التي كانت تستعد للذهاب إلى المستشفى، حملت عصاها، وصلّت على النبي، ولما التفتت وجدت الأرملة واقفة أمام باب المطبخ تستعجل خروجها فوقفت وقالت:
- سيخلو لك البيت، على كل حال أنت شر أهون من أخيك الفيلسوف، حقيقة كان فينا شيء من الشيطان ولكن ما بلغنا بالجرأة ما بلغتن، ولما صلت أمام الباب قالت:
- هذا بيني وبينك، وأمك تعلم... ولدي وحده المغرر به في هذا البيت ويا أسفي...
خرجت وانغلق الباب وراءها بكل هدوء يدفعه ساعد ميكانيكي.
فابتسمت ورقنت الرقم..
- ألو... لهم الليل يا صديقي ولنا النهار، لا تنسى أقراصي، لقد بدأ يمخرني القلق، أرجوك لا تتأخر، الكل يتآكل في جسدي، كأنه الكلب، لم يبق في حوزتي إلا خاتم من ذهب ، سأعطيه لك، أعيش هذه اللحظات على الأعصاب... أرجوك أسرع وإلا سأجن.
كانت هي آخر حلقة أحضرها في هذا الكرنفال، وهاجمتني الأسئلة من كل جهة حد ضيق الفضاء، فالتكن الروح ما تريد، إلا أن تكون بشرا، وسألت نفسي عن سبب وجودي في هذه العائلة، وسكنني الهلع والخوف، أنظر إلى طهارتي ونجاستهم وجشعهم وفظاعتهم ونفاقهم، وأتصور نفسي في جسد نتن كهذه الأجساد التي دنست الوجود، وهل أستطيع أن أرفض؟...
وماهي إلا سويعات بعد الظهيرة حتى اجتمعوا كلهم في غرفتها، على غير ماكانوا عليه، يبدون تعاطفا بدموع التماسيح، يستسمحونها، وضاقت الغرفة بالفواكه والمشروبات والحلويات، وقد قالوا فيها ما قالوا، تغامزوا وتلامزوا وتهامزوا، وحتى الآن لم يصدق أحد أنه مجرد تسمم غذائي، تشعر في أسئلتهم المشبوهة وانشغالهم المبالغ فيه حد الإبتسامة الساخرة نوعا من فضول الشماتة ، تتظاهر بالإرهاق لاستعطافهم للحد من استدراجها إلى ما لا يقال، لقد ضاقت بهم حد النفور، فتفطنت الجدة ،وطلبت من الجميع منحها قسطا من الراحة، فامتثلوا لاقتراحها، وخرجوا كسالى... وضعت الوسادة على سند السرير واستوت جالسة، مائل رأسها إلى الوراء، تنظر إلى الأعلى، فكان الدمع أقرب أنيس، تعض على شفتيها كأنها في مخاض عسير ، وضاعت قدم التدبير في متاهات التفكير، وعادت إلى نقطة الصفر..
أصابتني غفوة، وما شعرت إلا وأنا في مكان مظلم، ضيق، موحش، وكان علي أن أكتسحه أنملة أنملة، شعرت بشيء يدفعني بقوة رهيبة لأنتشر فيه، أحجس أنني على المقاس، أخذت كل نفخة مني مكانها، وبدأ ذلك الجسم ينبض ويمتصني حتى تناسقت النبضات والحركات، كل يوم يتسع أكثر والمكان يضيق حتى تشكلت وأصبحت أسمع وأحس،حينها عرفت أنني بشر، وأن تلك التي كنت ألازمها هي أمي، وأني سبب الشقاء الذي كانت تعيشه ولا تزال، أقرأ في موجات تفاعل أفكارها وأقوالها، حركاتها وسكناتها، إنها امرأة مضطربة لا تستقر أبدا، في غليان داخلي متواصل كأنها بركان على وشك الثوران، وشتان بين باطنها وظاهرها الذي يشبه سطح بحيرة هادئة تبتلع مصباتها الهرهارة في سكون كله هيبة ووقار، أشعر في عمقها بسخطها علي، إلا لأن صرختي ستنزع عنها ذلك القناع ،وتظهرها على حقيقتها أمام الجميع، ولكي أشعرها أنني استيقظت تحركت لأول مرة في بطنها، فاستنفر كل شيء في جسدها...
أنا هنا يا أمي...، وبحركة غير إرادية، قفزت من السرير واستوت واقفة، يد على بطنها والأخرى على فمها، مباشرة فكرت في الإجهاض، تحركت ثانية فظهر عليها القلق، وارتبكت، لبست رداءها وأسرعت إلى الجدة، دفعت الباب ودخلت دون إذن، فوجدتها نائمة، ففزعت وهي تصلي على النبي:
- ماذا أصابك؟
- إنه يتحرك، نعم إنه يتحرك يا جدة، ماذا أفعل؟ إني أشعر به.
فضحكت الجدة، واستوت جالسة فوق فراشها وحضنتها.
- شيء عادي يا بنيتي، هوني عليك، يجب أن أجد لك مخرجا، فقط إهدئي ولا تكترثي، واصبري... حتى الآن لا يظهر عليك أنك حامل، إنتفاخ بطنك يظهر عاديا جدا، مجرد سمنة، وسنتدارك الأمر، لا تخافي
- إني خائفة يا جدتي، إني خائفة... فقدت ثقتي بنفسي وهانت علي.
- أقسم لك أني سأخلصك، ولكني أبحث عن طريقة لا تظهر تعمدنا الإجهاض، وإلا ستصبح فضيحتنا فضائح، الأمر ليس هيّنا ولكنه ليس مستحيلا، فقط إصبري وسأتصرف في الوقت المناسب، اذهبي لترتاحي واتركيني أفكر...
وعادت إلى غرفتها تجر ذيل الخيبة، يدفعها الضياع إلى المجهول الذي يغتال في يقينها كل المحاولات، ويفتح للشر كل الإحتمالات، واختارت أمي أن تقدمني قربانا لجريمتها وتهورها، فتحولت إلى وحش، بل أبشع لأن الوحش لا يأكل أولاده لإخفاء بشاعته...
وأمسيت أنا في زنزانة أنتظر تنفيذ حكم على ذنب أنا ضحيته... يا ما رفضت أن أكون رهين هذه القطعة من اللحم النتنة، ولكن هذا ما جرت به مقادير أرادت للسنن أن تكون هكذا، قطعة لحم خيّر لها أن تنبت من مزيج الحلال والحرام، وتلقّح بأقوال وأفعال وعادات وتقاليد تخالف في أكثر الأحيان الغاية التي نشأ الخلق من أجلها... ووجدت نفسي أتشكل وأتصور بطريقة رهيبة جدا، أكتسب قدرات لو سخرت تكفي لدمار العالم كله، أنا ذلك المخلوق الصغير أستطيع أن أهدد الكون كله... وبدأ صراع من نوع آخر يستوطن ذاتي، أسأل نفسي من سأكون إذا قدّر لي وخرجت من هذا القبو، وطال انشغالي بما ليس لي فيه قيد ولاشرط...
وخرجت أمي إلى عملها كعادتها، في هذا اليوم كان الشارع أطول، والزمن أثقل، وانفتحت ذاتها على الضياع، وانحنت مياسم الجمال التي كانت تصنع عنفوانها، هي لا ترى أحدا ،إنها تمشي على الرصيف وحدها، في خط مستقيم، يتجنبها الرائح والغادي بغرابة ، وابتلع انشغالها الضجيج وأرخى سدائله على الواجهات، تبتلعها الخطى الثقيلة التي لا تريد أن تتوقف، بعثرت صفعات الريح خصلاتها التي تمردت عن الخمار، وعجزت لمسات الزينة أن تخفي آثار الدمار، تبتلع آهاتها وحسراتها في كمد، تصل إلي مشفرة كأنها أشباح لعنة أيقظتها الإنكسارات، يهاجمني الندم وتهاجمني خيبتها ،ويحاصرني قلقها من كل جهة...
أمام باب المحكمة، البواب كعادته واقف يتابعها بخائنة العين، تصعد مرهقة على عاتقها هم الدنيا كله، فرق لها قلبه وهو ينظر إلى عز في شموخ بدأ ينحني نحو الأقوال، دخلت إلى مكتبها، أغلقت الباب، لما رفعت رأسها كان الدوام قد انقضى منذ ساعة، أما هاتف القاضي قد سد عليه العنكبوت بيته وأصبح آية لمن يعتبر، فتنهدت، جمعت أشياءها وخرجت...
في الجهة الأخرىمن الشارع، على الرصيف، وفي نفس المكان، كان واقفا ينتظرها، تأكدت، إنه هو.. لا مجرد سراب.. تأكدت، أصابها البحران، ثم الدوران، فسقطت مغشيا عليها... ولما فتحت عينيها وجدت نفسها على سرير المستشفى، كان جالسا يمسك بيدها كعادته، كانت يده ألطف وأسخن، تنبض فيها الحياة، إبتسم لها ابتسامة أخرى، خالية من الغرور... وقال:
- لا بأس عليك يا حبيبتي، لقد انتهى كل شيء، سنوثق زواجنا وننتظر ثمرة اللقاء، لقد نجى بأعجوبة، إنه ولد، نعم، ولد يا...
وضعت يدها على فمه في صمت، فدخل الطبيب، فحصها، وأذن لها بالخروج وقال له:
- هل بينكم خلافات؟
- نعم بعض الخلافات، ولكن ستزول، خلافات بسيطة
- إعتني بزوجتك أكثر، إنها تمر بمرحلة حرجة
- سأفعل سيدي الحكيم، سأفعل...
أمام باب المستشفى، أشارت إلى سيّارة طاكسي، توقف، ركبت، أغلقت الباب وانطلقت.. لا يزال واقفا حتى اختفت...
...يتبع....
رد مع اقتباس