عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 08-04-2012, 06:34 PM
حمادي بلخشين حمادي بلخشين غير متواجد حالياً
كاتب فعال
 
تاريخ التسجيل: Feb 2011
الدولة: اوسلو
المشاركات: 63
افتراضي كعكة !! قصة قصيرة حمادي بلخشين

كعكة!



حالما وطئت رجلاي عتبة الدار، و قبل أن أفتح فمي بالسؤال، تلقفتني شقيقتي لبنى مبشرة:

ــ سامي سامي.. خمّن من ضيفنا اليوم.. و ماذا أحضر معه؟

لما كنت قد عاينت دراجة ناريّة أعرف صاحبها جيدا، فقد أجبت بثقة خيبت رجاء شقيقتي:

ــ أعلم أنه عم مختار.. و لكن ماذا أحضر معه؟

أجابت شقيقتي و هو تتبعني:

ــ جاء بصندوق مرطبات!

حالما لمحت الصندوق الحبيب، دفعت بمحفظتي نحو حضن شقيقتي، ثم طرت بدوري لأزفّ البشرى لأخي التوأم الذي شغلته مشاجرة على تلقيه معي الخبر السعيد.

سألت أخي جلال و انا أدرك مسبقا انني سأعجزه عن معرفة الزائر، نظرا لأنه لم ير دراجة نارية جاثية قرب دارنا:

ـــ جلال جلال خمن من ضيفنا اليوم و ماذا أحضر معه ؟

انقضّ عليّ اخي جلال، سألني وهو يوسع معصمي فتلا :

ــ لا يهمني الضيف.. هيا اخبرني بما جاء معه

صحت متألما:

ـــ عم مختار جاء معه بصندوق مرطّبات !

تركني أخى جلال أتألم ثم سبقني كالسهم.

حين دخلت البيت وجدت أخي جلال يقلب صندوق مرطبات عليه علامة " الجميلي" أمهر صانع مرطبات بمدينة بنزرت.. كان الصندوق الحبيب مركونا على طاولة المطبخ الى جانب خوذة ضخمة معروفة طالما تبادلنا استعمالها أثناء الجولات السريّة الخاطفة التي كنا ننتهز حلول عمّ مختار بيننا لنقوم بها.



دخلنا بالتوالي على عم مختار.. سلمنا عليه، كان ــ و على خلاف ما عرفناه ــ مرحا و نشطا و كثير التنكيت.. قبل أن نغادره، أعطى أختي نصف دينار و أمرها بقسمته علينا بالتساوي .. بعد ذلك جلسنا في باحة الدار ونحن ننتظر على أحرّ من الجمر انصراف عمّ مختار حتى ننال نصيبا من الكعكة الشهيّة.

قالت شقيقتي لبني بحماس:

ـ إن كانت هدية عم مختار بسبب خروجي من المستشفى، فسأنال النصيب الأوفر منها .

قاطعها أخي جلال مزمجرا:

ــ ان كان الأمر كذلك، فسأحطّم رأسك كلّ يوم حتى نحظى بكعكعة مختارية مماثلة!

بالمناسبة، كان دخول شقيقتي المستشفى بسبب ضربة تلقتها من قبل اخي الرهيب جلال إثر مشاجرة حدثت بينهما!

قلت لأخي مشاكسا:

ــ لعلها كعكعة خليليّة لا مختاريّة!

قذفني اخي بفردة حذاء لم تخطئ رأسي ثم صاح بي:

ـــ فال الله و لا فالك يا غراب البين.!

أردف أخي جلال وهو يتابع قطة عرجاء فرّت بمجرّد رؤيته:

ـــ ثم ما أبعد ما بين عم مختار و خليل الكلب!

أضافت شقيقتي لبني مؤيّدة:

ــ لا تشبّه عم مختار بخليل الكلب، فعم مختار كريم، وعيديّته التي يتحفنا به مرتين في السنة، لا يعلى عليها، هذا بالإضافة الى كونه قد وافانا بكعكة مماثلة منذ سنة او يزيد.





قبل ستة أشهر فوجئنا بعم خليل الكلب ( و الكلب هذه للأمانة من عند اخي جلال، و أن حظيت باجماع من قبلنا)، وهو يقتحم دارنا حاملا صندوق مرطبات من الحجم الصغير و النوعية دون الممتازة. كان عم خليل حديث عهد بجوارنا، كما كنّا على جهل تامّ بسفالته و شحّه. لأجل ذلك ابتهجنا كثيرا و علقنا آمالا خلبا برؤية ذلك الصندوق الشهيّ يستقر على طاولة المطبخ.. و قد ضاعف آمالنا أن مجيء عمّ خليل قد اتفق و يوم تسلّم شقيقتي لبنى جائزة مدرسية بمناسبة اجتيازها بتفوق امتحان الدخول للتعليم الإعدادي... بعد نصف ساعة انتظار متوتر لرحيل عم خليل، طرق باب بيتنا، حين فتحت، وجدت زوجة عم خليل ــ التي لم تزرنا قط ــ. سألتني:" عمّك خليل موجود؟" قلت:" أجل، تفضلي" قالت" شكرا يا بني أعلمه فقط بقدومي" . حالما أعلمت عم خليل بقدوم زوجته أخذ صندوق المرطبات سلم علينا، ثم غادرنا لا يلوى على شيء غير أمعائنا التي كانت تتلوى شرها على الكعكعة الفقيدة!

علمنا بعد ذلك أن جارنا خليل ــ لا بارك الله فيه! ــ قد دخل بيتنا ليحتمي من عارض مطر صيفي مفاجئ، في إنتظار قدوم زوجته التي غادرت بيتها للتسوّق!...كان بخل عم خليلا قد حال بينه و بين استخراج نسخة من مفتاح البيت كانت ستجنبه انتظارات كثيرة، كما كانت ستجنبنا دون أدنى شك ذكريات مريرة!



تألمنا كثيرا من ذلك الحادث المخيب لآمال أطفال فقراء محرومين مثلنا...

غير أن أخى جلال لم يقف عند حدّ التألّم، بل جاوز ذلك الى الإنتقام !

لم يغفر اخي جلال قط ذنب عم خليل الكلب، تضاعفت نقمته على جارنا اللئيم، حين علم ان تلك الكعكة التي " فاتت جنبنا" بتعبير العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، قد أقتنيت لعيد ميلاد ابنته.. حين ابلغتنا والدتي بالخبر صاح اخي جلال متألّما" كان على الخبيث دعوتنا على الأقل الى بيته، حتى ننال من بعض تلك الكعكة التي تحلّب لها ريقنا، كما كان عليه إرسال قطعة صغيرة كجبر للضرر!" قال ذلك ثم اقسم بالله لينتقمن من جارنا خليل حتى يشفي غليله!

كان انتقام اخي جلال من عم خليل الكلب سريعا و مكلّفا, بدأ انتقامه بتعقّب عم خليل الى مسجد الحيّ ثم إختلاس فردة حذائه بمجرّد أن غيب صاحبها مرحاض المسجد، بعد ذلك حفر أخي جلال حفرة في مدخل بيتنا ثم دفن فيها الفردة السّليبة، و وضع فوق الحفرة حجرا كبيرا. حين سالته عن مغزى ذلك أجابني وهو ينفض التراب عن يديه:" حتى أشعر بارتياح كلما رأيتها !" و حين سألته" طيّب لم أخذت فردة واحدة" أجابني بخبث لا يناسب سنه" لعلمي بأن اللئيم سيضع الفردة الباقية نصب عينيه أملا في العثور على أختها، و هذا سيذكره بمصابه فيزيد ألمه و تتضاعف حسرته!"

ثنّى أخي جلال انتقامه من عمّ خليل الكلب، باستغلال مرور عربة بحصان كانت تتردّد على حينا لشراء الأشياء المستعملة لقاء مبالغ تافهة، لجرّ دراجة عم خليل ــ و كانت مقفلة ـ و عرضها للبيع! ، حين خامر العربجيّ شكّ في مصدر الدرّاجة، خصوصا و قد قنع أخي جلال بأوّل ثمن بخس عرض عليه، تباكى أخي، طأطأ رأسه، ثم أخبر البائع بأنها دارجة الوالد المتوفّي حديثا، و أن وجودها أمام أنظارنا يزيد حزننا و يضاعف من لوعة والدتنا التي لم تتماسك بعد من هول الصدمة رغم مرور سنة على رحيل الفقيد!





كانت خسارة عم خليل البخيل مكلفة إلى درجة حملني اشفاق ـ ندمت عليه فيما بعد ــ على إبلاغ والدتي بأمر الدراجة، و ان كنت قد كتمت أمر فردة الحذاء الدفينة مما قلّل من غضب اخي عليّ!

سرني كثيرا رفض إمام المسجد تقديم والدتي أي تعويض لعم خليل لقاء دراجته الفقيدة، خصوصا و قد أنبرى أخي جلال يحدثه عن الخلفية" الكعكية" للإنتقام... ضحك الإمام طويلا، سأل أخي جلال عن عمره، حين علم أنه لم يبلغ الحلم تلا قوله تعالى" و ما رميت اذ رميت و لكن الله رمى"! ثم أردف قائلا:

" لا ذنب عليك يا بنيّ، فقد رفع القلم عن الصبيّ حتى يحتلم" سكت الإمام طويلا ثم اردف شامتا:" و لكن الله جعلك سيف انتقام سلطه على ظالم قليل الذوق.. كسر الله خاطره و عامله بما يستحقّ!

رغم مرور سنتين كاملتين على الحادثة، لم تخفّ حدة نقمتنا على عم خليل الكلب.



حين بلغنا صوت عم مختار وهو يودع والدتي و شقيقتي الكبرى هببنا وقوفا. تقدم منا لاطفنا من جديد و كأنه لم يرنا منذ شهرين حتى انه اخرج نصف دينار آخر و أمر أختي بقسمته بيننا بالتساوي، قبل ان ينصرف الى حديث جانبي مع والدتي و شقيقتي الكبرى ، كنا نفرك أيدينا من خلف ظهره ترقبا للحدث السعيد حين رأينا عم مختار يتجه بخطى غير متماسكة نحو طاولة المطبخ، ما أن وصل إليها حتى تناول خوذته. كنا نتظر ذهابه مباشرة حين فاجأنا وهو يرفع صندوق المرطبات ثم وهو يتمنى لنا ليلة سعيدة قبل أن ينصرف وهو لا يلوي علي شيء، غير نفوس كسيرة و قلوب ملتاعة على كعكة مختارية لم نتصور قط أننا سنحرم منها !

ــــ 2 ــــ

رغم لوعة الحرمان، و بعد أقلّ من نصف يوم من الحادثة لم يكن أي فرد منا ــ بما فيهم أخي الرهيب جلال ــ يحمل أي ضغينة أو غلاّ على عمّ مختار، بل كنا ندعو له الله بالمغفرة و الرحمة. فقد لقي عم مختار مصرعه قبل أن يدرك بيته بعد أن دهسته شاحنة بسبب حالة سكر صرفته عن احترام قاعدة أساسية للمرور كما صرفته قبل ذلك ــ وهذا ما يهمنا في قصّة الحال ــ عن اتمام معروفه بتسليم والدتي كعكعة أشتريت لنا خصيصا ( كما كنا على يقين من ذلك، و كما أكدته لنا أرملته فيما بعد)!.. قاتل الله البابليّة (1) كم جرّت من حسرات على البشريّة!

ـــــــ



(1) البابلية : من أسماء الخمر.



أوسلو 31 ماي 2010
رد مع اقتباس