الموضوع: صرخة الرفض
عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 24-02-2013, 01:26 AM
الصورة الرمزية مختار أحمد سعيدي
مختار أحمد سعيدي مختار أحمد سعيدي غير متواجد حالياً
كاتب مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 583

اوسمتي

إرسال رسالة عبر MSN إلى مختار أحمد سعيدي
افتراضي

ابتسمت أنا لأنني اكتشفت ما كان يشغلني من حيرة وتعجب، إنه السؤال الذي يحتمل جوابه الصدق والكذب وأشياء أخرى، ما كنت أعرفها...
وجاء النادل يحمل طبقا عليه كوبين من نفس اللون تقريبا، البارد لها والساخن له، أشعل لفافة مالبورو واحتفظ بالثقاب في يده، كان الدخان يخرج من فيه أسود، يدفعه ببطء، يتشكل ثم ينقشع تاركا وراءه للسؤال حيرته. ليتني أستطيع أن أتحكم فيه، هكذا قالت في سريرتها، تفطن لها، شعرت بذلك، فقالت: هل توحي إليك هذه الأشكال بشيء؟
قال: فلسفة الحياة، مثل سؤالك الثقيل...
ابتسم، رشف ومزج بين لذة الشراب واستعداده لتلقي السؤال... كنت أرفرف حولها، فوقفت فوق رأسها، أنتظر أنا كذلك سؤالها بشغف، إلتزمت هي الصمت، تحاول إثارة فضوله إلى أقصى درجة، تحافظ على استمرار بسمتها بكل ما أوتيت من براعة التمثيل، لا يزال احتمال انتصار الخيبة يتغلب في اعتقادها على الأمل، بل أكثر من ذلك، ربما سيكون الموجة التي تكسر حبيبات الماء لتعود زبدا...
قال: أعطاك مقويات وفيتامينات ومنشطات... كعادته
قالت: لا أظنها تنفعني في هذه المرة...
أطرق ينظر إلى بخار شرابه، سحبت يدها من يده، أخذت الكأس، كان الشراب باردا، شعرت به يرد رغبة السؤال الذي ملأ صدرها، وضعت الكأس فارغا، حملت سفطها و وقفت.
قالت: هيا بنا، نواصل حديثنا في الطريق، لقد تأخرت اليوم كثيرا.
ترك نصف شرابه وقام متثاقلا، كان جو المساء لطيفا جدا، وضع نظاراته السوداء ، نظر إلى نفسه في زجاج الواجهة، أنيقا جدا كان، كانت هي أجمل، عانقت عضده فزاد ذلك في روعة منظره وأهبته حد الغبطة والحسد، كأنه الملك بخطاه الواثقة، تشد عضده جارية لينة الطرف قاصرته، تحادي السادية في إخلاصها له، حتى لا يكاد يرى الناس إلا هو، تنظر إليه وهو ينظر إلى أفق الشارع الطويل، إلى زرقة السماء الجميلة، إلى جماليات الهندسة المعمارية وفنون الزخرفة على الأبواب والواجهات، كأنه خريج مدرسة الفنون الجميلة.
قال: كم هو الجو منعش في هذا المساء، كأني لأول مرة أمر من هنا.
قالت: لهذا فضلت الخروج
لم يبال بها، وسقطت كلماتها دون أن ترد الصدى، أحدثت دوائر في طويتها، كان حينها يضغط على ساعدها بعضده، لا يريدها أن تتكلم حتى لا تفسد عليه متعته... سحبت ذراعها وتوقفت، وقف ينظر إليها بعيون وسنى وابتسامة صفراء فارغة...
قالت: إقتربنا كثيرا، يجب أن نفترق، لا أستطيع أن أذهب معك الليلة كما وعدتك، عندنا ضيوف، إبن خالتي عاد من المهجر وهو ضيفنا الليلة، تجب علي خدمته...
طبع على جبينها قبلة باستحياء، وانصرف يحمل ابتسامته على ثغره، لم يلتفت، رمت ثلاث خطوات أو أربع، وقفت قليلا قبل أن تلتفت وتراه يمشي على إيقاع سمفونية الأبطال، تنهدت، وواصلت طريقها تكظم سؤالا تعذرت صياغته إلى حين...
لا زلت أنا قابعا فوق رأسها... دخلت إلى البيت، ذهبت إلى غرفتها، غيرت ملابسها وعادت إلى الصالون حيث كان الجميع هنا، يتجاذبون أطراف الأحاديث، نظرت إليها الجدة، وقبل أن تستعيد كليا طبيعتها قالت: خير ما وراءك يا بنيتي؟
قالت: هل بدى علي شيء؟
قالت الجدة: الأم يا بنيتي تنظر إلى ابنتها بعيون الكبد، فاعذري تطفلي أحيانا
قالت: أبدا يا جدتي، نعب قال الطبيب وإرهاق، وهو زائل إن شاء الله.
قالت الجدة: أتمنى لك برنوس الستر، يقاسمك هم الطموح قبل فوات الأوان.
قلت في نفسي ماذا تقصد الجدة ببرنوس الستر، وما دخله بهم الطموح؟ ...هذا كلام لا أفهمه... آه، نسيت أنني لا زلت لم أكن بعد.
أشياء كثيرة كانت تحصل أمامي لا أجد لها تفسيرا، ولا أفهمها، غريبة علي... بحثت عن ابن الخالة لم أجده، أراهم في الخفاء في صفات وممارسات غير التي هم فيها في الظاهر، أقول في نفسي ربما هي الحياة هكذا...
الجميع ملتزم هنا، تنافس كبير على التميز بسمو الفضائل، والتزين بالحكمة والإعتدال، والمثالية المترفعة عن الجهالة والبداءة، ملتقى احتكاك الثقافات والمعارف، وقياس سلامة الذوق، لا يخرج الحديث عن قضايا الوضع الراهن وانتقادات لسلوكيات المجتمع وسلبيات الطبقات والمشاهير، يرتقي المجلس بهم حيث تتكامل وجهات النظر وتتلاقح الأفكار، عالم ملائكي فرض نوعا من التواضع والإحترام المتبادل لا نظير له، لا يختلف كثيرا عن عالم الأرواح قبل أن تسكن الأجساد ، أسعد كثيرا لما أحضر هذه الجلسات الحميمية الراقية...
تناولوا العشاء، وانصرفوا جميعا ، كل إلى غرفته، وخلدت هي إلى الراحة في خلوتها، تمددت على السرير، أراها تتخبط كأنها حية أكلت سمها، وفجأة أسرعت إلى دورة المياه، تبعتها، تقيأت وعادت، لم تكترث، فقط بدى على وجهها شيء لم أفهمه، جلست القرفصاء فوق سريرها، في الظلام تشد رأسها بيديها، شعرت بشفقة عليها حد الإنهيار، كأنني أنا المسؤول عن هذا الذي تعاني منه، ليتني عرفت ما يدور بداخلها، غريب أمرهم ، عندما يختلي البشر يرجع كل واحد إلى نفسه، إلى حقيقته، ليعطيها شيء من الحرية، يمكن أن ينتحر من أجلها في الحلم أو في اليقظة وحيدا ومع غيره يبيعها بأبخس ثمن، وما بين الحقيقة والخيال في العقل إلا برزخ الإرادة. استوت على سريرها، عانقت وسادتها، وانهارت تبكي في صمت ، تبتلع الشهقات في كمد، ترى ما الذي يبكيها وهي التي كانت عند العشاء تضحك ملأ فاها!!.. ليتني أستطيع أن أصبر أغوارها. جسدك أيتها المرأة سبب شقائك، ليتني أستطيع أن أساعدك للعودة إلى ما كنت عليه من روح دون جسد، ليتني أستطيع أن أخلصك من هذا المستبد، من هذا السجن، من هذا الجلاد، تحاصرك جنوده من كل جهة... يا ليتني...
وطال الليل رغم قصره في صنع المبهم ، ورسم الضياع بكل ألوان الظلام، وضاع من تعقلها الطريق. يقال أن الصواب يمهد له اللسان قبل خروج مطيته، فإذا خرجت يصعب ترويضها وتفترسك، أراها تسترجع تلك اللحظات التي يفقد العقل سيطرته على الذات، و تستحوذ الرغبة على النفس فتعزلها لتستبد بها وتنزلها إلى اللاوعي الضال، إلى مكمن الندم لتوقظه فيفترس ما خلفته الخطيئة لما تستفحل في البشر. هكذا مرت ليلتها، مناجاة ومنولوج في فراغ لا يرحم .
في الصباح قامت كأنها خلقت من جديد، وكأن شيئا لم يكن، كان النهار قد رفع ستائر الليل عن الكون، تنفست أزهار الحديقة، وغمر وهيجها غرفتها، تحمله نسمات مارس اللطيفة إلى عمق الذات . جلست على حافة السرير، تثاءبت، نظرت إلى ساقيها ورجليها الصغيرتين، كانت الساعة متوقفة ، تنعلت ودخلت إلى الحمام، كادت تنام في دفء الماء الذي غمر جسدها، يرد صدى نبضاته إلى داخلها كأنها ضربات على صناجة لإثارة الأعصاب.

....يتبع....
رد مع اقتباس